مرفأ بيروت: تنافُسٌ دوليّ لاستثمارٍ جيوسياسيّ
انفجار مرفأ بيروت في الرّابع من آب (أغسطس) دفعَ لبنان بقوّة إلى "عاصفة" الصراع الإقليميّ والدوليّ، وإلى تحوُّل هذا المَوقع الاستراتيجيّ على المتوسّط إلى نقطة جذْب للإسهام في عمليّات الإنقاذ والمُشارَكة في التحقيق الأمنيّ والاهتمام "إنسانيّاً" بتقديم المُساعدات الماليّة والعَينيّة والفنيّة، مروراً بأهدافٍ مُتفاوِتة لتعزيز النفوذ السياسيّ للدول المُتسابِقة، وصولاً إلى الحصول على حِصص استثماريّة، وخصوصاً في إعادة إعمار المرفأ التي قُدِّرت أضراره بنحو 8 مليارات دولار.
كأنّ لبنان كان ينقصه أن يُضرب شريانه الحيوي، مرفأ بيروت، ليزداد مُعاناةً وتأزُّماً وتسوء أحوال العباد فيه بشكلٍ دراماتيكي. فعدا الخسائر بالأرواح التي حصَدها الانفجار الكيميائي، هناك الأضرار الماديّة التي قُدِّرت بنحو 8 مليارات دولار، وترتفع مع الخسائر الاقتصاديّة إلى 15 مليار دولار، فضلاً عن تعطيل المرفأ وفقدان لبنان مخزونه من القمح، بما يُهدِّد حياة اللّبنانيّين.
من المؤسف أنّه بعد أسابيع عدّة من التحقيقات الأمنيّة والقضائيّة، لم تحسم الكثير من الفرضيّات، ولا تزال التحقيقات محصورة في المستوى الإداري، حيث يتقاذف الموقوفون المسؤوليّة. لا شكّ في أنّ هذا الوضع يعكس حالة انعدام الأمن والأمان، بما يهدِّد حياة اللّبنانيّين بخَطَرٍ دائم (جوعاً وإفلاساً وحَرباً وعجزاً شاملاً في المؤسّسات والإدارة والقضاء)، ما يؤكِّد مَخاطر "الدولة الفاشلة" التي حذّر وزير الخارجيّة السابق ناصيف حتّي من "الانزلاق" إليها، في كِتاب استقالته قبل يومَين من الانفجار.
اهتمام دوليّ
منذ اللّحظة الأولى للانفجار، تحوَّل مرفأ بيروت إلى نقطة جذْب دوليّة، واهتمام من دول عدّة، وخصوصاً فرنسا وتركيا وروسيا والولايات المتّحدة، فضلاً عن فِرَق إنقاذ تشيكيّة ويونانيّة وهولنديّة وبولنديّة. ونزل خبراء بعضها وفنيّوها ميدانيّاً على الأرض للإسهام في عمليّات الانقاذ والمُشارَكة في التحقيق الأمني. واللّافت كان اقتسام المنطقة التي حصل فيها الانفجار بين فرنسا وروسيا، وربّما يعود ذلك إلى الإمكانات التقنيّة، حيث قام نحو 46 من رجال الشرطة والدَّرَك الفرنسي بتقديم الدّعْم الفنّي للتحقيق القضائي، وشارك نحو 150 خبيراً روسيّاً من ذوي الاختصاص في إزالة الأنقاض والبحث عن المفقودين. كذلك فِرَق إنقاذ ومُساعدات أميركيّة بالتنسيق مع الجيش اللّبناني، ومُشارَكة فريق من جهاز "الإف. بي. آي" في التحقيق، ودخول سفينة مسْح تابعة للبحريّة البريطانيّة لتقييم الأضرار ومُساعدة اللّبنانيّين على ترميمها.
وتبرز ميزات الاهتمام الإقليمي والدولي كون مرفأ بيروت، هو أهمّ مَوقع استراتيجي في البحر المتوسّط، ويشكّل مركز التقاء للقارّات الثلاث: أوروبا، آسيا وأفريقيا، ما جعلَ منه ممرّاً لعبور أساطيل السفن التجاريّة بين الشرق والغرب، وأهمّ محطّة للتجارة الدوليّة مع الدول العربيّة المُحيطة، ويتعامل مع 300 مرفأ عالَمي، وتعود نشأته تاريخيّاً إلى الزمن الفينيقي، وذُكر اسمه للمرّة الأولى في الكِتابات المُتبادَلة بين الفَراعِنة والفينيقيّين التي يعود تاريخها إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد. ومنذ العصر الروماني تشكَّلت هويّته الاقتصاديّة، إذ عُرف بكونه مركزاً تجاريّاً واقتصاديّاً مهمّاً، لكنّ الزلازل دمَّرت المُستعمرة الرومانيّة عام 551، وبقيت في حالة خراب حتّى جاءها المُسلمون عام 635 في العصر الأموي، وأعادوا بناء المدينة ليُصبح المرفأ مركز الأسطول العربي الأوّل.
ولمّا سيطرَ العثمانيّون على بيروت وبلاد الشام، أدركوا أهميّته الاقتصاديّة والاستراتيجيّة، وألَّفوا في العام 1888 شركة فرنسيّة باسم "الشركة العثمانيّة لمرفأ بيروت وأرصفته ومخازنه" برأسمال خمسة ملايين فرنك. ومع انتهاء الحرب العالَميّة الأولى ودخول لبنان حقبة الانتداب الفرنسي، جرى إعطاء الشركة الجنسيّة الفرنسيّة بشكل رسمي. وعلى الرّغم من انتهاء الانتداب في العام 1943، ظلّت الشركة الفرنسيّة تمتلك الامتياز وتستثمره حتّى العام 1960 عندما تمّ منْح الامتياز إلى شركة لبنانيّة خاصّة حملت اسم "إدارة واستثمار مرفأ بيروت"، ثمّ قرَّرت الدولة في مطلع تسعينيّات القرن الماضي إنشاء لجنة مؤقّته باسم "اللّجنة المؤقّتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت"، وبقيت هذه اللّجنة مؤقّتة، بعملها الدائم حتّى اليوم. ولذلك لوحظ أنّ الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون أعاد اللّبنانيّين في إطلالته من قصر الصنوبر في العاصمة اللّبنانيّة بعد الانفجار، إلى العام 1920 حين أعلن الجنرال الفرنسي غورو تأسيس "دولة لبنان الكبير" بعد نهاية الحرب العالَميّة الأولى، حيث كانت شركة فرنسيّة تقوم باستثمار المرفأ.
وإذا كانت تركيا ترغب باستعادة التاريخ، عبر الاقتراح الذي قدَّمه نائب الرئيس التركي فؤاد أقطاي خلال زيارته لبنان بُعيد الانفجار للإسهام في إعادة البناء، فإنّ عَين فرنسا بالمرصاد، وتَعتبر أنّ لها الأفضليّة في مرفأ بيروت الذي يمثّل النقطة الوحيدة التي يُمكن أن تُحافظ من خلالها على نفوذ في شرق المتوسّط، وهي تدخل في منافسة دوليّة ضدّ الصين التي تسعى بكلّ إمكاناتها لأخْذ حصّة استثماريّة، كجزء من مُبادَرة "الحزام والطريق" التي تهدف إلى ربْطها بالعالَم، حتّى روسيا ترحّب بموطىء قَدَم أخرى لها على المتوسّط، إضافة لوجودها في مرفأ طرطوس في سوريا. ولكنْ يبقى الأهمّ طموحات واشنطن التي وضعت شروطها لإعادة إعمار المرفأ، ليكون لها مَنفذ أساسي على المتوسّط ودَورٌ مميّز في ترسيم الحدود بين لبنان ودولة العدوان إسرائيل.
استثمار فرنسيّ
لا شكّ في أنّ حسْم مسألة الجهة التي ستتولّى إعادة بناء المرفأ سابقٌ لأوانه، لكنّ المُنافَسة قائمة بين الدول التي ترغب بالحصول على امتياز إدارته واستثماره. ولوحظ أنّ الشركات الفرنسيّة تتقدَّم كلّ الشركات الأجنبيّة التي أبدت رغبتها في الاستثمار. وتَبرز في هذا المجال حظوظ الشركة الفرنسيّة لنقْل الحاويات والشحن "سي إم إيه – سي جي أم"، وهي تُصنَّف في المرتبة الرابعة عالَميّاً، من حيث الحجْم والقدرات، وتَستخدم 200 طريق شحن بين 420 مَنفذاً و150 دولة مُختلفة، وتمتلك أسطولاً يضمّ أكثر من 500 ناقلة، من بينها الأكبر في العالَم. وتوجد المجموعة في كلّ قارّة من القارّات، وفي 160 دولة من خلال شبكتها المكوَّنة من 700 مَكتب و750 مُستوعَباً، وتوظِّف أكثر من 110 آلاف شخص حول العالَم. وبحسب المُراقبين تعطي فرنسا الراعية للتسوية والمُحفِّزة على الإصلاح في لبنان، الأفضليّة لهذه الشركة لإعادة بناء مرفأ بيروت واستثماره لمدّة لا تقلّ عن 15 سنة. وقد ظهرت الرغبة الفرنسيّة بشكلٍ واضح من خلال اصطحاب الرئيس ماكرون لرئيس مجلس إدارتها اللّبناني رودولف سعادة في الزيارتَيْن اللّتَين قام بهما إلى لبنان عقب الانفجار.
وبمعزل عن الجدوى الاستثماريّة التي تنتظرها فرنسا من إعادة تأهيل المرفأ وتشغيله، يرتبط اهتمامها بعوامل سياسيّة استراتيجيّة بالغة الأهميّة، وخصوصاً بعد التوسُّع الملحوظ للشركات الصينيّة بتوقيع عقود لإدارة مرافىء حيفا وأشدود في فلسطين المحتلّة.
عرض صينيّ
الصين بدَورها تسعى بكلّ إمكاناتها لأخْذ حصّة استثماريّة في مرفأ بيروت، كجزء من مُبادرتها "الحزام والطريق" التي تهدف إلى ربْطها بالعالَم، وهي تطمح بعقدٍ لن يُحمّل الدولة اللّبنانيّة أيّ أعباء ماديّة، وسيُسهم بإنجاز الأعمال بسرعة قياسيّة، نظراً لخبرة الشركات الصينيّة في المشاريع المُماثِلة، ومن بينها التزامها بناء مرفأ اليونان وتطويره وتحويله إلى مرفأ أساسيّ لدول الاتّحاد الأوروبي؛ مع العِلم أنّ عيون الصين لم تُرفع منذ سنوات عن الموانىء البحريّة اللّبنانيّة. ففي العام 2017، بدأت إرسال وفودها إلى لبنان لاستطلاع آفاق التعاوُن في مرفأ طرابلس وتطويره ليكون مُنطلقاً للإسهام بتنفيذ مشاريع إعادة إعمار سوريا. ويأتي هذا الاهتمام في إطار ضخامة الاستثمارات الصينيّة في منطقة الشرق الأوسط، والتي قدَّرتها دراسة لمجلّة "فورين بوليسي" بنحو 700 مليار دولار.
ووفق دراسة أعدَّتها مجموعة "سي. فور. إيه. دي. إس" الأميركيّة، خصَّصت الصين تريليون دولار لبَرنامج تفعيل طريق الحرير وتقوية روابطها في منطقة شرق آسيا وأوروبا وإفريقيا، عبر شبكات من الطُرق والموانىء، الأمر الذي سيُعزِّز نِطاق نفوذها السياسي ووجودها العسكري. وفي هذا السياق تبرز يد الصين الفاعلة في سوريا عسكريّاً، وفي التحضير لإعادة الإعمار. كما بدا لبنان يشهد حركة صينيّة نشطة في قطاعات عدّة، ما جعلَ المُراقبين يتساءلون إنْ كانت بكين تُفعِّل مُبادرة الحزام والطريق في دُول مُجاوِرة من لبنان.
وهكذا تشكِّل الصين أحد أهمّ المَسارات التي يُمكن أن يلجأ لبنان إليها. ووفق دراسة أعدّها الخبير الصيني في مَركز الدارسات الاستراتيجيّة الدوليّة في واشنطن "جود بلاننشيت"، بعنوان "موانىء خفيّة"، فإنّ شركات الشحن الصينيّة تصنع 96 في المئة من حاويات نقْل البضائع، وأكثر من 80 في المئة من رافعات الموانىء في العالَم، وشاركت في عمليّات بناء 116 مرفأ في 62 دولة حول العالَم.
تقاطُع مَصالِح
من الطبيعي أن يتطلّب تقاطُع المَصالِح "تحالفات جيوسياسيّة". وإذا كانت الصين تُراهِن على تعاونها مع إيران في مشروعات متعدّدة ومتنوّعة، وتحالفها مع روسيا في ظلّ تنفيذ عقود استثمارات كبيرة لشركات روسيّة في تشغيل مرفأ طرطوس في سوريا، ومحطّة المُنتجات النفطيّة في مرفأ طرابلس اللّبناني، فإنّ فرنسا تعتمد في تعزيز نفوذها السياسي وتنفيذ مشروعاتها الاستثماريّة بمُشارَكة بعض الدول الأوروبيّة على التنسيق الكامل مع الولايات المتّحدة الأميركيّة، على الرّغم من بعض الاختلاف في وجهات النظر. ويرى المطّلعون مثالاً على ذلك، أنّ نظرة الولايات المتّحدة إلى لبنان ودَوره، تختلف عن نظرة الفرنسيّين من حيث المُنطلق، فالأميركيّون يرون لبنان من زاوية رؤيتهم الواسعة إلى خريطة الشرق الأوسط، ولذلك يُفترض أن يؤدّي الوظيفة التي يفرضها عليه هذا الواقع الجيوسياسي.
أمّا الفرنسيّون، فنظرتهم إلى لبنان ليست بهذا الاتّساع، وما يهمّهم هو أن يبقى مُستقرّاً وبوّابة لحضورهم السياسي ومَصالحهم الاقتصاديّة وتراثهم الثقافي التقليدي إلى العالَم العربي. وفي المُمارَسة يُمكن أن يتعايش الفرنسيّون والأميركيّون في لبنان، بأن يلتزم كلّ طرف حدوده، حيث تتفهّم واشنطن حاجة باريس إلى الإمساك ببعض التفاصيل، على غرار العديد من القوى الإقليميّة والدوليّة. وتُدرِك فرنسا ضرورات الأميركيّين الحيويّة عسكريّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً. مع الاعتراف بأنّه من الطبيعي أن يخفي التناغُم بين الجانبَين تنافُساً مضبوطاً.علماً أنّ النفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط يُشكّل عاملَ ضغطٍ إضافيّاً يدفع فرنسا إلى البحث عن كيفيّة تثبيت وجودها في آخر المَواقِع التي يُمكن أن تحمي مَصالحها.
عدنان كريمة / كاتب ومُحلِّل اقتصادي من لبنان - مؤسسة الفكر العربي