التعليم العربيّ: أزماته قائمة قبل كورونا

news image


د. رفيف رضا صيداوي*

قرّرت الجمعيّة العامّة للأُمم المتّحدة في الثالث من كانون الأوّل/ ديسمبر 2018 إعلان يوم 24 كانون الثاني/ يناير من كلّ عام يوماً دوليّاً للتعليم، وذلك احتفاءً بالدور الذي يضطّلع به التعليم في تحقيق السلام والتنمية، ولاسيّما الهدف 4 من أهداف التنمية المُستدامة الداعي إلى ضمان التعليم الجيّد المُنصف والشامل للكلّ وتعزيز فُرص التعلُّم مدى الحياة للجميع. جاء ذلك في وقتٍ باتت قضايا التعليم في البلدان العربيّة تكتسي فيه أهمّية متزايدة منذ أكثر من ثلاثة عقود، نتيجة الاختلالات التي يشهدها هذا القطاع، بمراحله كافّة، والتي ضاعفت جائحة كورونا من تداعياتها.

قبل الجائحة، كانت هذه الاختلالات قد ترافَقت مع عدد من الظواهر الإيجابيّة، أبرزها الإقبال المُتزايِد على التعليم، المُتمثِّل في تراجُع نِسب الأمّيّة في البلدان العربيّة؛ حيث أصبح معدّل القرائيّة لدى الفئة السكّانيّة ما دون الـ 65 من العُمر يقارب الـ 100% بحسب بعض المصادر (راجع تقرير دراسة اليونسكو لتمويل التعليم العالي في الدول العربيّة، مكتب اليونسكو الإقليمي للتربية في الدول العربيّة، بيروت، 2018)، فضلاً عن ارتفاع نِسب الالتحاق بمَراحِل التعليم العامّ والعالي، حيث ارتفع معدَّلُ الالتحاقِ الأساسيّ في المنطقة العربيّة من 76.6 في المئة عام 1999 إلى 84.5 في المئة عام 2013، وهذا المعدَّلُ الأخير قريب من المتوسِّط العالَمي 89.0 (في المئة)، وارتفع الالتحاقُ المدرسي في أعوام 1970 - 2003 ثلاثة أضعافٍ في التعليم الثانوي وفي التعليم العالي (تقرير التنمية الإنسانيّة العربيّة للعام 2016 : الشباب وآفاق التنمية في واقع متغيّر، برنامج الأُمم المتّحدة الإنمائي، 2016).

غير أنّ غالبيّة التقارير الوطنيّة والعربيّة والعالَميّة تستند في حُكمها على الاختلالات التي تُرافِق العمليّة التربويّة في العالَم العربي إلى مؤشّرات عدّة أبرزها مؤشّر الجودة، نتيجة تغيُّر مفهوم التعليم ودَوره، على اعتبار أنّه - أي التعليم - أهمّ عناصر الاستثمار البشري، وأنّه لم يعُد مقصوراً على اكتساب المعرفة الأساسيّة، مثل محو الأميّة والمهارات الحسابيّة، بل يتطلّع إلى تحسين النوعيّة وضمان الجودة.

هذا التعليم من ذاك النِّظام

لا يخفى على أحد مدى ارتباط قضايا التعليم وجودته بأسباب هيكليّة تتعلّق بالبنية الاجتماعيّة الاقتصاديّة للدول العربيّة التي رافقت تشكُّل هذه الدول. حيث لم يتمكّن العالَم العربيّ تاريخيّاً من استجماع الشروط التي تؤهّله لامتلاك نموذجٍ تنمويّ خاصّ ومتقدّم من شأنه أن يحمي الواقع التعليمي من كلّ ما يتهدّده، وذلك على الرّغم من ظهور إرهاصات على هذا الصعيد في مرحلة نشوء الحركات الاستقلاليّة الوطنيّة ما بين الحربَين العالَميّتَين الأولى والثانية، ومرحلة الاستقلال السياسيّ وبناء الدولة الوطنيّة في المشرق العربيّ ومَغربه، التي امتدّت حتّى الربع الأخير من القرن المُنصرم، وتجسَّدت في نماذج جزئيّة للدولة "الحديثة" في أكثر من بلد عربيّ، قبل أن نشهد أخيراً مرحلة فشل مشروع هذه الدولة، الذي لا نزال نعيش تفاعلاته وارتداداته حتّى اليوم؛ إذ إنّ من سِمات النماذج الاقتصاديّة التنمويّة العربيّة أنّها نماذج تابِعة، بحُكم تبعيّتها الاقتصاديّة أساساً للغرب الاستعماري، وفشل دولها في فكّ هذه التبعيّة بعد تحرّرها السياسي، وأنّها مشوَّهة، يغلب عليها الطّابع الريعيّ الذي يفتقر إلى التصنيع وعاجزة أو متخلِّفة عن نقْل التكنولوجيا واستيعابها مُكتفيةً بشرائها واستيرادها؛ ناهيك بالازدياد المطّرد في الفوارق الاجتماعيّة الناجمة عن عدم تكافؤ فُرص الوصول إلى الخدمات العامّة والثروات، نتيجة احتكارها من النُّخب السياسيّة والاقتصاديّة المُسيطِرة. وهي فوارق من شأنها أن تغدو أكثر حدّة مع انخراط العالَم في اقتصادات جديدة تستند إلى عناصر الإبداع والابتكار والمهارات البشريّة وتقنيّة المعلومات، على عكس الاقتصادات التقليديّة التي تعتمد على عناصر الأرض والعمّال ورأس المال.

ولمّا كانت أنظمة التعليم تتنوّع وتتغيّر في أساليبها وأهدافها تبعاً للزمان والمكان، لكونها ليست من صنْع الأفراد بل من صنْع النظام الاقتصادي - الاجتماعي القائم، حملت هذه الأنظمة سمات البنية الاقتصاديّة الاجتماعيّة المشوَّهة، ذات النموذج الحداثويّ شكلاً، العاجز عن مُحاكاة النموذج التنموي للبلدان المتقدّمة الذي يتبع خيار التطوّر الديمقراطي، والتقليديّ مضموناً، لاستناده إلى مُحاكاةٍ جامدة للموروث الحضاريّ الإسلاميّ. هذا في الوقت الذي كانت تتفاقم فيه الفوارق الاجتماعيّة في غالبيّة دولنا، سواء على المستوى الطبقي، أم الإثني، أم الثقافي، أم الجندري، أم المناطقي (ريفي ومديني)، وحتّى على المستوى التعليمي (عامّ وخاصّ). فعلى الرّغم من تطوُّر عددٍ من المؤشّرات الكلّية في ما يخصّ التعليم، كتطوير المَدارِس والجامعات الوطنيّة أو الرسميّة، والازدياد المطّرد في عدد المُنتسبين إليها، وتراجُع نِسب الأميّة، وتعميم التعليم الإلزامي في غالبيّة الدول العربيّة، أقلّه في المرحلة الإعداديّة أو الابتدائيّة، ظلّ التعليم ينحو باتّجاه الكمّ، وخاضعاً لآليّات الحفظ والتلقين والاختبارات، فاقداً لرؤيةٍ فلسفيّة وفكريّة حديثة. وفي هذا الصدد ينقل صادق جلال العظم عن أنور عبد الملك أنّ دانلوب، مستشار التربية أيّام اللّورد كرومر، رأى أنّ "الضمان الوحيد لاستعباد مصر على مرّ الأجيال لا يكمن في الاحتلال العسكري والاستعمار الاقتصادي بقدر ما يكمن في ضرب الفكر المصري في الصميم بحيث يصبح عاجزاً عن التطوّر والإبداع والخلق، ويظلّ معتمداً على غيره ليتحرّك. ورأى دانلوب أنّه، لكي يتحقّق هذا الهدف، لا بدّ من أن تتّجه سياسة التعليم كلّها - في مرحلتها الابتدائيّة والثانويّة والعالية على السواء - نحو الحفْظ دون المُناقشة، والترتيل دون النقد، ومُحاكاة المَراجِع والأساتذة دون تشريحها وتكوين رأي مستقلّ فيها، واحترام الكلمة المكتوبة دون امتحانها والتصارع فكريّاً معها" (أنور عبد الملك، ورد في كِتاب ذهنيّة التحريم لصادق جلال العظم). بذلك، جسَّد التعليم في الدول العربيّة، بأغلبيّته، وعبر هذه السياسة القمعيّة، رؤية لويس ألتوسير L.Althusser للنظام التربوي والتعليمي خير تجسيد، أي بوصفه آليّة اجتماعيّة يعتمدها النظام السياسي لإعادة إنتاج قوى الإنتاج والقوانين والقيَم الاجتماعيّة المفروضة من السلطات الاجتماعيّة بغية تشكيل الأفراد وفق نماذج وقوالب تتوافق واحتياجاتها.

وكان قد سبق لتقرير "التكامل العربي سبيلاً لنهضة إنسانيّة" (الإسكوا، 2014) أن لخَّص هذه الاصطفافات الطبقيّة المُتقاطعة مع أنماط التعليم بالقول إنّ ثمّة تعليماً حكوميّاً ضخماً وتعليماً خاصّاً "يتفاوتان من حيث المَوارِد، ونوعيّة التعليم، وجودة العمليّة التعليميّة، وكذلك من حيث مستوى الطلّاب، وما يكتسبون لاحقاً من مؤهّلات لا تتيح لهم فرصاً مُتساوِية في سوقِ عملٍ تشكو الكثير من النواقص"؛ وحيث لا تزال - بحسب التقرير نفسه - أنماط التعليم "قاصِرة عن تزويد المُتعلّمين بالمهارات المطلوبة لرفْع الكفاءة الإنتاجيّة ولبناء القدرة على الابتكار، وخصوصاً في اكتساب المعرفة وإنتاجها، والتعلّم الذاتي، والتحليل والنقد، وهي مهارات أساسيّة لكلّ عملٍ إبداعي".

أزمة كورونا وتحدّيات أزمة التعليم

فعلى الرّغم من الإقبال العربي المُتزايد على التعليم العالي المُواكِب لازدياد عدد الجامعات الرسميّة والخاصّة، إلّا أنّ هذه الفُرص تبقى غير مُتكافِئة، حيث تشير الأرقام إلى أنّ النسبة الإجماليّة للالتحاق بالتعليم العالي بالنسبة المئويّة من مجموع السكّان في سنّ التعليم العالي في الدول العربيّة بحسب سنوات 2012 -2017 تبلغ 36% (وهي نسبة توازي المعدّل العالَمي) مقارنةً مثلاً بـ68% لدول منظّمة التعاوُن الاقتصادي والتنمية (OECD)، و62% لدول أوروبا وآسيا الوسطى، و49% لدول أميركا اللّاتينيّة والبحر الكاريبي...إلخ (تقرير أدلّة التنمية البشريّة ومؤشّراتها. التحديث الإحصائي لعام 2018 ، برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي، 2018). وهذا الإقبال على التعليم الجامعي لا يعني بالضرورة تكافؤاً أو عدالةً في توفير فُرص الدراسة الجامعيّة، حتّى في الجامعات الحكوميّة التي تستند في قبول الطلّاب إلى معدّلات الشهادة الثانويّة؛ إذ يجري لاحقاً توزيعهم على أساس المعدّلات هذه، التي لا يُمكن فصلها عن البيئة التي يتحدّر منها الطلّاب، كالمدرسة، والطبقة الاجتماعيّة، والمنطقة الجغرافيّة وغيرها من المتغيّرات التي تشير إلى عدم تكافؤ الرأسمال الاجتماعي الثقافي لهؤلاء الطلّاب. كما أنّ هناك عدم توازن في الالتحاق بالاختصاصات للأسباب الجغرافيّة والطبقيّة نفسها، يُضاف إليها الفوارق الجندريّة.

وتأتي أزمة كورونا لتُفاقم من حجْم هذه التحدّيات والمُشكلات البنيويّة، ولاسيّما في هذه المرحلة الحَرِجة التي تعيشها أوطاننا في الألفيّة الثالثة، لكونها مرحلة الثورة الصناعيّة الرّابعة التي من المتوقَّع أن تُحدِث صدمات كبيرة في أسواق العمل، وأن تتسبّب في المزيد من التفاوتات الاجتماعيّة "لأنّ التطوّرات التقنيّة المُتسارِعة وانتشار الروبوتات وتقنيّات الإنتاج الذكيّة ستتسبّب في انخفاضٍ كبير في مستويات الطلب على العمالة غير الماهرة بنسبة تتراوح ما بين 25 و50 في المائة، حيث ستحلّ محلّ العُمّال في قطاعات الزراعة والصناعة والتعدين والوظائف المكتبيّة والحرفيّة؛ فيما ستنمو مستويات الطلب على العمالة في مجالات إنتاج التقنيّة والهندسة والرياضيّات والعلوم والتحليل المنطقي والتفكير الإبداعي وحلّ المشكلات، نظراً لأنّ هذه الثورة التي تعتمد على المعرفة ورأس المال المُستثمَر في مجالات التقنيّة والابتكار والبحث والتطوير سينتج عنها زيادة في مستويات عدم العدالة في توزيع الدخول نظراً لارتفاع العائد على رأس المال المعرفي والتكنولوجي في مقابل تراجُع العائد على العمل التقليدي والحرفي، بخاصّة في ما يتعلّق بالعمالة غير الماهرة التي لا تمتلك فُرص النفاذ للتعليم القائم على المعرفة والتقنيّة المتطوّرة" (هبة عبد المنعم، سفيان قعلول، اقتصاد المعرفة: ورقة إطاريّة، صندوق النقد الدولي، 2019).

أخيراً لا بدّ من التشديد مراراً وتكراراً على أنّ مُشكلات التعليم في العالَم العربي عموماً لا تنبع من المؤسّسات التعليميّة نفسها، بقدر ما تنبع من معوّقات سياسيّة واجتماعيّة أفرزتها وتُفرزها البنى الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة العربيّة؛ إذ لا يستوي النظر إلى الواقع التعليمي العربي خارج القراءة الماكرويّة للواقع التنموي العربي المُثقَل بالمُشكلات والقضايا التي تنتظر الإصلاح. فما المؤسّسة التربويّة إلّا وحدة مجتمعيّة تتفاعل سلباً وإيجاباً مع المُجتمع والدولة. ونجاح أيّ استراتيجيّة تربويّة عامّة، مُنبَثقة عن استراتيجيّة وطنيّة شاملة، يحتاج بدَوره إلى قيام الدولة بدَورها في صَوغ وظائفها الأساسيّة وتدخّلاتها الإنمائيّة وتوطيد عوامل الفعاليّة الاقتصاديّة وآليّاتها، انطلاقاً من فلسفة اجتماعيّة قائمة على مفاهيم الحقّ والحرّية والعدالة الاجتماعيّة، وعلى رؤيةٍ وطنيّة وثقافيّة جامِعة عنوانها التحرُّر والولاء للوطن.

*مؤسّسة الفكر العربي