السِّلم العالَميّ ومسألة العدالة الاجتماعيّة

news image

 

حافظ إدوخراز*

وصل التفاوُت في العالَم إلى مستوياتٍ صارخة تَضَعُ السِّلمَ العالَميَّ اليوم على المحكّ، وتستدعي ضرورة التدخُّل بغية إعادة شيءٍ من التوازُن بين الطبقات وإرساء حدٍّ أدنى من العدالة الاجتماعيّة من خلال إقرار سياسات عموميّة (السياسة الضريبيّة نموذجاً) تحول دون مزيدٍ من تركُّز الثروة في أيدي الأثرياء، وتسمح بإدماج الفئات المقصيَّة من الحياة الاقتصاديّة (ملايين العاطلين نموذجاً).

لم يعُد الموضوع أمراً يخصّ الاقتصاديّين وحدهم، ونقاشاً مُقتصراً على استمراريّة النظام الاقتصادي ونمط الإنتاج السائد في العالَم وضمان شروط فعاليّته. لقد أَصبح الوضعُ أعقد من ذلك، وصار الرّهان أكبر، والذي على المحكّ اليوم هو السِّلم العالَمي. كثير من الظواهر المُقلِقة التي تطفو على السطح اليوم مثل ظاهرة الإرهاب العابر للحدود، وصعود التيّارات القوميّة، والأحزاب المتطرّفة، وتنامي معدّلات الجريمة، والعداء للأجانب، هي نِتاج مباشر أو غير مباشر للتفاوتات الصارخة بين الفئات الاجتماعيّة الفقيرة والسائرة في طريق الفقر (تفقير جزء كبير من الطبقة الوسطى) من جهة، وطبقة الأغنياء المُترفين التي تزداد غنىً وثراء من جهة أخرى. هذا على مستوى البلد الواحد.

أمّا على مستوى العالَم، فقد صنعت العَولمة المُتفلّتة من أيِّ عقال، والمُفتقِرة إلى أدنى شروط الحَوْكَمة الراشدة، رابحين استأثروا بثمار النموّ الاقتصادي وخاسرين تئنّ موازينهم التجاريّة من ضغط الواردات الأجنبيّة.

في التقرير الذي صَدَرَ عن منظّمة أوكسفام في كانون الثاني/ يناير 2019 تحت عنوان "خدمات عموميّة أو ثروات خصوصيّة" (دافوس 2019)، كشفتِ المنظّمة ُالدوليّة غير الحكوميّة عن أرقامٍ صادمة بخصوص ديناميّةِ تركُّز الثروة في أيدي الأقليّة التي تزداد حدّة عاماً بعد عام. فقد زادت ثروة الأغنياء خلال العام 2018 بحوالى 900 مليار دولار أي بمعدّل 2,5 مليار دولار كلّ يوم، في حين أنّ الفقر المدقع هو في تزايُد.

ويوضح التقرير أنّ نصف سكّان العالَم تقريباً يعيشون على أقلّ من 5 دولارات في اليوم، وأنّ ثروتهم نقصت بمعدّل 11% خلال السنة الماضية.

من جهة أخرى أصبحت ثروة 26 شخصاً فقط من أثرى أثرياء العالَم تُعادِل ثروة 3,8 مليار من سكّان العالَم مُجتمعين، بينما كان هذا الرقم عام 2017 هو 43 شخصاً. وصلت ثروة مؤسِّس شركة أمازون على سبيل المثال (وهو أغنى شخص في العالَم حاليّاً وفقاً لمجلّة فوربس) إلى حوالى191 مليار دولار، في حين لا تصل الميزانيّات المخصَّصة للتعليم والصحّة في كثيرٍ من البلدان الفقيرة في العالَم إلى 1% من هذا الرقم.

في التفاوُت الطبقيّ والاحتقان الاجتماعيّ

إنّ الهوّة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء في العالَم تُفاقِم شدّة الاحتقان الاجتماعي، وتَزيد من مشاعر الإحساس بالظلم وبالتالي الحقد على أصحاب الثروات. أصبح العالَم موزَّعاً بين أقليّة مُترفة وأعدادٍ مهولة (مليارات) تعيش على الكفاف أو تعيش تحت عتبة الفقر وتُكافح من أجل البقاء على قيد الحياة، وبينهم طبقة وسطى تئنّ تحت وطأة الضرائب وغلاء الأسعار واستقالة الدولة من مجموعة من القطاعات الاجتماعيّة الحيويّة (التعليم والصحّة والنقل)، ويعيش جزءٌ كبيرٌ منها تحت ضغطِ فقد العمل لأيّ سبب من الأسباب (إعادة توطين الإنتاج خارج البلد، إعادة هيْكَلة المؤسّسات، المرض...) والالتحاق بالتالي بأفواج العاطلين الباحثين عن فُرص العمل.

غير أنّ الحقد الاجتماعي لا يوجَّه إلى الأغنياء فقط، فالمُهاجِر الفارّ من بلده الأصلي بسبب الفقر أو الحرب أو غياب فُرص العمل أو أيّ سبب آخر، له حظّه هو كذلك من هذا العداء نظراً لاعتباره مُنافِساً يُزاحِم أصحابَ البلد على فُرص العمل القليلة التي توفِّرها الاقتصادات الحديثة. وللمواطنين المُنحدرين من أُسرٍ مُهاجِرة كذلك حظٌّ من هذا العداء، باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية، قَدِمَ آباؤهم منذ عقود قليلة ومشكوك في ولائهم إلى أوطانهم الجديدة.

ولقد نجحت الأحزاب المتطرّفة في إقناع الكثير من المواطنين بأنّ المُهاجرين والأجانب هُم سبب شقائهم وبؤسهم وليس الشركات العابرة للحدود التي ترحِّل إنتاجها إلى الخارج وتُعيد توطين هذا الإنتاج في بلدانٍ تضمن يداً عاملة ماهرة ورخيصة من أجل مُراكَمة المزيد من الأرباح.

كما أنّ الأحزاب لا تُخبرهم أنّ جزءاً كبيراً من المشكلات التي تُواجهها بلدانها هي بسبب تهرُّب أثريائهم من أداء الضرائب من خلال التحايُل على القوانين وإرسال أموالهم إلى الملاذات الضريبيّة (المناطق غير المُتعاونة في لغة القانون الدولي)، ما أَعجزَ الحكومات وحالَ دون قدرتها على الاستمرار في تمويل الخدمات الاجتماعيّة.

نحو حَوْكَمَةٍ راشدة للعوْلمة

إنّ التبادُل التجاري (وتُعَدّ العولمة شكله الأقصى) بطبيعته يخلق رابحين وخاسرين، ولكي تستمرّ اللّعبة وتمضي قُدماً، يتوجّب على الرابحين فيها أن يعوِّضوا الخاسرين عن بعضٍ من خسائرهم، وإلّا انكفأ كلُّ طرفٍ وانزوى على نفسه (الحمائيّة أو النزعات الانفصاليّة) وأقفلَ الحدود في وجه السلع القادمة من وراء البحار. الشركات لا تبيع سلعها إلّا لأنّ هناك مُستهلِكين يشترونها، والبلدان لا تصدِّر إنتاجها إلّا لأنّ هناك بلداناً أخرى تستوردها، وكلّ طَرَفٍ بحاجة دائمة إلى الآخر. لقد تمكَّنت البشريّة من إبداعِ مجموعة من الآليّات التي تضمن التحويلات على مستوى القطر الواحد مثل الآليّة الضريبيّة والاقتطاعات ذات الصبغة الاجتماعيّة (التأمين الصحّي، التقاعُد، التعويض على البطالة...) والخدمات العموميّة المبذولة مجّاناً للمُواطنين (الولوج إلى التعليم والصحّة والنقل...)، لكنّ هذه الآليّات تُعاني اليوم تحت وطأة التوجُّهات النيو ليبراليّة للحكومات في العالَم بسبب تحدّيات العولمة (سرعة تنقُّل الرأسمال نموذجاً) وظاهرة التهرُّب الضريبي. من الضروري إذن العمل بشكلٍ جدّيّ من أجل إيجاد حلول وإبداع صيَغٍ جديدة تسمح بالحدّ من الفوارق الاجتماعيّة على مستوى الدخل، وعلى مستوى الولوج إلى الخدمات الصحيّة والتعليميّة أيضاً.

ومهما كان وضع هذه الآليّات اليوم، فإنّ البشريّة ما تزال عاجزة عن فعل الشيء نفسه على مستوى العالَم. لا بدّ إذن من حَوْكَمَةٍ راشدة للعوْلمة، وإلّا عاد العالَم أدراجه إلى ما قبل الحرب العالَميّة الثانية وانتعشت الحمائيّة والحروب التجاريّة وحروب العملات من جديد. وإنّنا نرى فعلاً إرهاصاتٍ لذلك لا يمنع من تطوّرها وبلوغها الأوج إلّا بعضٌ من الإيمان الموجود لدى قادة الدول بضرورة تجنُّب ذلك من أجل الحيلولة دون نشوب حروبٍ كبيرة بين الدول العظمى. فلقد كانت الحرب العالَميّة الأولى والثانية عبرة لأولي الأبصار. لكنّ الصعود القويّ للأحزاب اليمينيّة المتطرّفة والتيّارات القوميّة والنزعات الانفصاليّة على مستوى العالَم، وانتعاش الإيديولوجيّات الفاشيّة من جديد في بعض الأوساط، وتنامي ظاهرة العداء ضدّ الآخر (الأجانب والأقليّات بشكلٍ عامّ والجاليات المُسلمة على وجه الخصوص)، كلّها مؤشّرات تدلّ على أنّ البشريّة تُعاني من ضعف الذاكرة ونقصٍ حادّ في استحضار التاريخ، وتؤكّد من جديد صحّة المقولة المنسوبة لأحد الآباء المؤسّسين للولايات المتّحدة وهو بنجامين فرانكلين الذي قال يوماً إنّ التجارب هي مدارس باهظة التكاليف، لكنّ الناس لا يُتقنون التعلُّم إلّا من خلالها. فإمّا أن يستيقظَ الضميرُ العالَمي إذن، وإمّا أنّ التاريخ سيُكرِّر مآسيه، فالتاريخ عدوٌّ لمَن يتجاهله!

*كاتب ومترجم من المغرب - مؤسسة الفكر العربي