لماذا تنهار الليرة التركية.. وهل القادم أسوأ ؟

مروة شاهين - بث - خاص:
في عام ٢٠٠١ و بعد أزمة اقتصادية كبيرة شهدها الاقتصاد التركي، وافقت الحكومة التركية بموجب اتفاق مع البنك الدولي على التخلّي عن سعر الصرف الثابت لليرة التركية و الذي يحدد من قِبل البنك المركزي، و بالتالي اخضاع الليرة لقوانين السوق الحرّ و العرض و الطلب ، مما جعلها عرضةً لتقلبات كبيرة أثرث بشكل كبير على حركة الاقتصاد التركي الوطني بالسلب و الإيجاب ، فما هي اسباب هذه التقلبات؟ و لماذا تتعمد الحكومات احيانا تخفيض قيمة العملة الوطنية؟ و ما الاسباب وراء الانهيار الاخير؛ و هل ستحقق السياسات الاقتصادية الجديدة النتائج المرجوة منها؟
اسباب تقلبات العملة التركية، و المستجدات التي أدت إلى الانهيار الأخير :
منذ تحرير سعر صرف الليرة التركية في عام ٢٠٠١ و حتى يومنا هذا، واجهت الليرة التركية العديد من التقلبات نتيجة خضوعها لقوانين السوق الحرّ و العرض و الطلب ، و لعل أبرز هذه التقلبات التي شهدتها العملة التركية تكمن في الانهيار الاخير الذي تشهده في أواخر عام ٢٠٢١، و على عكس ما يظن الكثيرون ان انهيار العملات يحدث لأسباب اقتصادية فقط، فإن الاقتصادات الناشئة و الواقعة تحت القوانين الحرة للأسواق، تكون عرضة التأثر بالأحداث السياسية بشكل كبير،و لذلك فإنه و بشكل عام هناك سببان رئيسيان لانهيار أي عملة في العالم و هذه الأسباب نفسها تنطبق على الليرة التركية، و هذا التقرير سنحاول توضيح هذه الأسباب و آلية تأثيرها على صعود و هبوط العملات و المؤشرات الاقتصادية.
أولاً : الأسباب السياسية :
مشكلات الجوار:
اتبعت الحكومة التركية منذ نحو ثلاثة عقود سياسة صفر مشاكل مع الجوار، إلا أن هذه السياسة لم تستمر طويلاً نظراً للمشكلات الكبيرة التي تعاني منها الدول المجاورة لتركيا، فالعلاقات التركية العراقية على سبيل المثال لم تكن في أحسن احوالها خلال عهد الرئيس العراقي السابق صدام حسين، و بعد غزو العراق و ما سببه ذاك الغزو من فوضى على الساحة السياسية و الأمنية العراقية اثر كثيرا على الاقتصاد التركي نظراً لكون العراق شريكا تجاريا هاما ، فضلاً عن تحول شمال العراق و بالأخص إقليم كردستان إلى ساحة خصبة لعمليات مسلحة من قبل الأكراد الذين يقطنون المناطق الحدودية بين تركيا و العراق ، و الجدير بالذكر ان حزب العمال الكردستاني الذي اتخذ من شمال العراق مقرا لعمله السياسي و العسكري لا زال يشكل حتى يومنا هذا مصدر قلق و ازعاج كبير لتركيا التي تلقت العديد من العمليات العسكرية المضادة من قبل حزب العمال الكردستاني لا سيما ان تركيا تضم بين سكانها أقلية كردية معتبرة لا تقل عن ١٠ بالمئة من سكانها على أقل تقدير.
الحرب السورية (٢٠١١ وحتى اليوم) :
ألقت الحرب السورية بثقلها على كافة الدول المجاورة، فإن تطور و تسارع الأحداث السياسة و العسكرية على الساحة السورية أثر بشكل كبير على دول الجوار كافة كلبنان و العراق وتركيا ، بدءاً من تدفق اللاجئين و ما له من تبعات اقتصادية على الدول المستضيف، وصولا إلى تحول سوريا إلى ساحة خصبة العديد من التنظيمات الإرهابية التي تمددت عملياتها العسكرية إلى الدول المجاورة ، فمثلاً نال العراق نصيبه الأكبر من عمليات تنظيم داعش الذي عبث بأمن العراق و استقرار، و دخل الجيش اللبناني معارك عدة لصد الهجمات التي قام بها تنظيم داعش على البلدات الحدودية اللبنانية، و هذا الأمر ينطبق على تركيا التي نالت نصيبها من هذه الأحداث، فضلاً عن ضلوعها بدعم جماعات مسلحة في الداخل السوري، إضافة إلى تدخلها العسكري المباشر في الشمال السوري عبر عمليات عسكرية متتالية هدفت إلى القضاء على تنظيمات كردية مسلحة متواجدة على حدودها، إذ تعتبر تركيا هذه التنظيمات امتداداً لحزب العمال الكردستاني الذي يسعى إلى إقامة دولة كردستان ، الأمر الذي تعتبره تركيا خطرا كبيرا على أمنها القومي، و بالطبع كل هذه العمليات و المجريات كان لها وقعٌ ثقيل على الاقتصاد التركي.
التدخلات الإقليمية :
لا سيما في ليبيا و ما يجري فيها من صراعات و حروب و اقتتال، فضلاً عن ان التدخل في ليبيا جعل تركيا في محل نزاع و صراع مع العديد من الدول الضالعة في مجريات الأحداث الداخلية الليبية، كفرنسا و روسيا و الولايات المتحدة الأمريكية، و بالتالي عرض العلاقات التركية مع هذه الدول إلى أزمات لا يستهان بها، فضلاً عن تدخل تركيا عسكريا بشكل مباشر او غير مباشر في فى عدة صراعات إقليمية، كان أبرزها في الفترة السابقة التدخل المباشر السياسي و ربما العسكري ، في الحرب الارمينية-الأذرية.
توتر العلاقات الدولية : نظراً لما ذكرناه سابقاً عن تداخل و تشابك الأحداث و الصراعات في المنطقة، و ضلوع تركيا في هذه الصراعات الإقليمية، فإن ذلك بالتأكيد له أثر كبير على توتر علاقات تركيا مع دول كثيرة لا سيما الدول الكبرى، التي تعتبر ان تركيا تريد أن تتافسها في إدارة العالم، لا سيما ان السياسة التركية اليوم أصبحت باتت تتطمح إلى التوسع و الحصول على “حصتها من الكعكة” على غرار غيرها من الدول المستفيدة من الأحداث و الصراعات في المنطقة، و هذا ما عبرت عنه الحكومة التركية على لسان رئيسها رجب طيب أردوغان الذي صرّح منذ شهرين في اجتماع لقادة الدول، أن “العالم اكبر من خمس دول” اي ان العالم اكبر من الخمس دول الدائمة العضوية في مجلس الأمن او كما يقال “الدول العظمى” و بالتالي هذا يعبر عن ان تركيا تطمح إلى منافسة الدول الكبرى للحصول على مكان اكثر شأنا في النظام العالمي.
ثانياً : الأسباب الاقتصادية :
خضوع الليرة التركية لقوانين العرض و الطلب :
ان خضوع الليرة التركية لتحديد سعرها من قبل الأسواق الحرة يجعلها قابلة لتقلبات العرض و الطلب، و هذا بالطبع يعتمد على مدى استقرار الأسواق و ثقة المتعاملين ، بالإضافة إلى المزاج العام للشعب و الرأي العام فضلاً عن خيارات المستثمرين، فكلما زاد الإقبال على الليرة تحسن سعرها و العكس صحيح.
الديون :
من المعروف ان الاقتصاد التركي هو واحد من أبرز الاقتصادات الناشئة التي تعتمد على التمويل الخارجي و جذب الاستثمارات الخارجية، و بالتالي فإن هذه التمويلات الخارجية تأتي على شكل قروض من مؤسسات مالية دولية و محلية، و بالطبع في معظم الأحيان تكون هذه القروض بالعملات الصعبة كاليورو او الدولار، و بالتالي فإن المؤسسات و الشركات التي اخذت هذه القروض استثمرتها في الأسواق التركية و جنت أرباح هذه الاستثمارات بالليرة التركية ، وعندما تريد هذه المؤسسات سداد قروضها فانها تعمد إلى تحويل عائدات الاستثمار من الليرة التركية إلى العملات الصعبة بهدف سداد القروض، مما يؤثر بشكل مهم على العرض و الطلب على الليرة التركية.
السياسات الاقتصادية التي تتبعها الحكومة و معها البنك المركزي :
لا سيما لجهة الاستثمار او ضخ العملات الأجنبية او تحديد معدلات الفائدة، فعلى الرغم من تحرير سعر صرف الليرة التركية و عدم التدخل من قبل الحكومة و المصرف المركزي بتحديد اسعار تداولها في الأسواق، إلا أن قرارات الحكومة فيما يتعلق بقوانين الاستثمار و القيود على الرساميل، بالإضافة إلى قيام البنك المركزي بتحديد اسعار الفائدة على الودائع، و ضخ العملات الصعبة و السيولة في الأسواق، يكون له له أثر كبير على تقلبات اسعار الصرف ، و لعل السبب الرئيسي لانهيار الذي يحصل حالياً، هو قيام البنك المركزي التركي بخفض معدلات الفائدة، مما قلل الطلب على الليرة التركية بشكل كبير و بالتالي أدى إلى زيادة الطلب على الدولار ما أدى إلى انخفاض كبير في سعر الليرة التركية.
الإنخفاض مدروس، هذا ان لم يكن متعمداً:
إن أيّ مطّلع على المجال الاقتصادي، يعرف بالتأكيد أن انخفاض معدلات الفائدة على الودائع يخفض من قيمة العملة، و بالتالي فلا شك ان الحكومة التركية تعلم أن سياساتها في تخفيض معدلات الفائدة سوف تسبب انخفاضاً في سعر صرف الليرة التركية مقابل العملات الأخرى، مما جعل الكثير من الخبراء الاقتصاديين إضافة إلى العديد من أعلام المعارضة التركية يقول ان الحكومة التركية لجهة تخفيض معدلات الفائدة تهدف عن سابق قصد إلى تخفيض سعر صرف العملة الوطنية .
لماذا تعمد الحكومة احيانا إلى تخفيض سعر عملتها الوطنية ؟:
يبدو واضحا ان الحكومة التركية تهدف إلى اتباع نهج غير تقليدي في سياساتها الاقتصادية، عبر خفض معدلات الفائدة، الأمر الذي تعتبره تحفيزا و تشجيعا للاستثمار، و لا يمكن القول بحتمية صحة او عدم صحة هذه السياسات، فالعديد من الدول نفذت هذه السياسات من قبل لتشجيع الاستثمار و زيادة معدلات صادراتها إلى الخارج ، بحكم ان انخفاض سعر العملة المحلية يشجع تصدير السلع المحلية إلى الخارج بحكم ان ثمنها يصبح منخفضا اكثر من ذي قبل، و لكن هذه السياسات تحتاج لنجاحها إلى توفر اقتصاد قوي و متين قادر على تحمل تبعاتها و تأثيراتها على الاقتصاد الوطني، لأن انخفاض العملة و ارتفاع التضخم يعني انهيار القدرة الشرائية للمواطنين و الشركات و الصناعات التي تعتمد على استيراد المواد الأولية من الخارج إضافة إلى انها تضغط على موارد الدولة و مخزوناتها من العملات الصعبة، خصوصاً ان تركيا تعتمد بشكل كبير على الاستيراد في مجال الطاقة و الصناعات الناشئة، لذلك فإن التعامل مع هذه السياسات الغير تقليدية و تنفيذها يعتبر خطرا و يحتاج إلى دقة في إدارة المرحلة ، فضلاً عن انها تتطلب وقتا لكي تحقق النتائج المرجوة منها.