عاصفةُ بلادِ الأرزْ

بيروت - مروة شاهين - بث:
منذ أواخر العام ٢٠١٩ يعيش لبنان أزمات لا متناهية على كافة الاصعدة، أهمها كان على الصعيد الاقتصادي؛ إذ أدّى انهيار العملة الوطنية وارتفاع معدلات التضخم إلى ارتفاع أسعار السلع و الخدمات بشكل جنونيّ، مما جعل الشعب اللبناني يواجه اكبر أزمة اقتصادية في تاريخه، لم يواجهها حتى خلال فترة الحرب الأهلية التي تُعتبر من اكثر الفترات العصبية التي مرّت على لبنان.
الإستمرار أصبح مستحيلاً
عبارةٌ يرددها المواطنون في كل زاوية من زوايا الوطن ، فتقول فاطمة، و هي مدرسة مادة العلوم في إحدى المدارس الحكومية في قضاء مرجعيون : " لا جدوى من متابعة العمل، فراتبي لم يعد يكفي لتغطية أجرة المواصلات، المحروقات أصبحت بعيدة عن متناول ذوي الدخل المحدود، إذ أصبح سعر صفيحة البنزين يعدل ثُلث راتب الموظف الحكومي، و هي لاتكفي سوى ليومين من التنقّل"..
عبد الكريم، و هو يعمل محاسباً في شركة خاصة في العاصمة بيروت و يبلغ من العمر ٤٨ عاماً و هو أبٌ لأربعة اولاد، أحدهم يدرس في الجامعة، فيقول أن" راتبه أصبح لا يكفي لإعالة أسرته ، فربطة الخبز أصبح سعرها ١٢ الف ليرة لبنانية، اي انه يحتاج إلى ٧٢٠ الف ليرة في الشهر ثمنا للخبز فقط، اي ما يعادل نصف راتبه، ناهيك عن الحاجيات الأخرى، مضيفا ان ابنه الأكبر اظطر إلى ترك دراسته الجامعية للبحث عن عمل يقيه و أسرته شرّ الجوع و العوز ".
وعن أزمة الدواء و رفع الدعم الحكوميّ عنهْ، فتقول الحاجة زهرة و هي التي تبلغ من العمر ٧٣ عاما ان الكلفة الشهرية لأدويتها أصبحت تقارب الخمسة ملايين ليرة لبنانية، و هو مبلغ يصعب على أولادها تأمينه في ظل الغلاء الفاحش للمعيشة و ارتفاع أسعار الدولار الى ما يقارب ٢٥ الف ليرة لبنانية للدولار الواحد.
رحلة لبنان من سويسرا الشرق إلى جمهورية جهنّم
" سويسرا الشرق" و "باريس الشرق"، ألقابٌ تغنّى بها لبنان منذ نشأته، سويسرا الشرق كان وصفا مطابقا لطبيعة لبنان الخلابة و التنوع الثقافي و الحضاري الذي يتميز به هذا البلد الصغير الذي يمتد على مساحة ١٠٤٥٢ كلم مربع، تعدد ثقافي، صحافة حرّة ، اقتصاد منتعش ، تقدم حضاري و سرية مصرفية جعلته مقصد الرساميل و الاستثمارات العربية و الأجنبية، تماما كما هي سويسرا بالنسبة لأوروبا و العالم ، أما لقب باريس الشرق فقد حصل عليه لبنان نظرا للاقبال الشديد على زيارته من قبل السياح العرب و الأجانب، للترفيه او التسوق او حتّى الدراسة و العلاج، إذ لبنان يوما ما يُلقب ب مستشفى الشرق الأوسط؛ عدا عن كونه منارة للعلم و الثقافة لاحتوائه عددا كبيرا من المؤسسات التعليمية العريقة و دور النشر و الأبحاث.. الا إن ما شهده لبنان خلال العامين المنصرمين قد افقده هذه الالقاب جزئيا او كليا، فالقطاع المصرفي في حالة يرثى لها، و المصارف غير قادرة على تأمين أموال مودعيها بالعملة الأجنبية مما افقد ثقة العملاء المحليين والخارجيين بالقطاع المصرفي اللبناني، القطاع التعليمي أيضا ينازع، فلا قدرة للطلاب و المعلمين على التنقل إلى مدارسهم و جامعاتهم، لا قدرة للطلاب على دفع الأقساط الدراسية، و رواتب الهيئات التعليمية تتآكل يوما بعد يوم مع انهيار العملة الوطنية. مراكز الأبحاث و الدراسات الأجنبية تقفل مراكزها في لبنان و تنتقل الى دول أخرى تتوفر فيها خدمات الكهرباء و الإنترنت و البنى التحتية اللازمة التي أصبحت منعدمة في لبنان؛ لا إقبال على السياحة في ظل تحذير الكثير من الدول التي كانت أبرزها المملكة المتحدة لمواطنيها بعدم زيارة لبنان الا للحالات الضرورية خوفاً من تدهور أوضاعه الأمنية والبنك الدولي يحذر من أن نصف سكان لبنان قد لايستطيعون الحصول على الغذاء حتى نهاية العام ٢٠٢١.
ما الذي دفع ب لبنان نحو هذا المسار؟
تتضارب الآراء و الأقوال حول الأسباب التي ادت الى تدهور الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية إلى هذا الحد، ففريق يضع المسؤولية على حصار أميركي غربي لبنان بهدف تحقيق مكاسب سياسية و تخفيف نفوذ الفصائل المسلحة المدعومة ايرانياً ، و أيضا لتجفيف مصادر التمويل التي يستفيد منها حزب الله اللبناني باعتباره حسب العديد من المسؤولين اللبنانيي والأجانب مسيطراً على كافة مفاصل الدولة اللبنانية سواء سياسياً او اقتصاديا او مالياً، أما عن الولايات المتحدة الأمريكية فهي تنفي كونها متورطة في الانهيار الاقتصادي و المالي الذي يواجهه لبنان، إذ جاء هذا الموقف على لسان السفيرة الأميركية في لبنان السيدة دوروثي شيا التي صرحت بما معناه انه ليس بإمكان اي فريق سياسي لبناني إلقاء اللوم على الولايات المتحدة الأمريكية في ما يخص ازمة لبنان الاقتصادية، بل عليهم أن يبحثو عن حلول واقعية الأزمات و الفساد السياسي و المالي الذي يواجهه لبنان و كان سببا في ازمته.
يرى الدكتور مروان القطب استاذ المالية العامة في الجامعة اللبنانية ، أن أهم أسباب الانهيار المالي والنقدي في لبنان هو العجز الكبير في الموازنة العامة و ميزان المدفوعات، إذ دفعت سياسة الإقتراض المستمر إلى وصول لبنان إلى مستويات مرتفعة من الدين العام، الذي وصل في عام ٢٠١٩ الي يقارب ال ٩٥ مليار دولار أي ما يعادل ١٧٠ بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي ل لبنان في عام ٢٠١٩ مما جعل الدولة اللبنانية غير قادرة على سداد ديونها، إضافة إلى الهدر الكبير الأموال و عدم استثمارها بالشكل الصحيح ناهيك عن الفساد السياسي و الإداري المستشري في كافة مفاصل الدولة اللبنانية.
هل من سبيلٍ للخروج من الأزمة؟
على الرغم من كون الأزمة الاقتصادية اللبنانية من أصعب الأزمات الاقتصادية التي مرت في العالم، إلا أنه لا بد من وجود حلول انقاذية تأخذ بيدِ لبنان إلى طريق النجاة، فالبنك الدولي صنّف الأزمة التي يمر بها لبنان ك ثالث أخطر أزمة اقتصادية في تاريخ العالم بعد ازمتيّ تشيلي و إسبانيا، و أضاف تقرير صادر عنه بأن لبنان سيحتاج الى ما يقارب ١٢ إلى ١٦ عاماً للتعافي من الأزمة فيما ترى دراسة صادرة عن مركز مالكوم كير كارنغي الأميركي ، أن اي خطة للإصلاح يجب أن تتضمن أولا خطة واضحة لإعادة هيكلة الدين العام ، وإصلاح القطاع المصرفي و تحرير سعر العملة اللبنانية و ترشيد الإنفاق للحد من الهدر في الأموال الذي سبب للخزينة العامة اللبنانية مليارات الدولارات سنويا من الخسارة.
ويرى الدكتور محمود سعيد استاذ الاقتصاد و التمويل في الجامعة الأميركية في بيروت أن دولرة الاقتصاد اللبناني و اعتماده بشكل كبير على قطاع الخدمات وإهمال القطاعات الإنتاجية الأخرى كان السبب الرئيسي في جعل الاقتصاد اللبناني هشّاً غير قادر على مواجهة الأزمات، إضافة إلى اعتماد السوق اللبناني بشكل كبير على الاستيراد من الخارج أدّى إلى خسارة الخزينة العامة كميات هائلة من العملات الصعبة التي كان بإمكانها الاحتفاظ بها.
الاستاذ لطفي بارود الباحث و الكاتب السياسي اللبناني يرى ان أزمة لبنان هي أزمة اقتصادية بجوهر سياسي ، و أن الخطوة الأولى لأية عملية إصلاح يجب أن تتضمن إصلاحات سياسية داخلية تؤدي إلى إعادة تقوية أجهزة الدولة و سلطاتها السياسة و تفرض هيبة الدولة من جديد، مما يشجع المجتمع الدولي على إعادة وضع ثقته بالدولة اللبنانية من جديد و بالتالي يقدم لها كافة سبل المساعدة الضرورية للخروج من الأزمة، ويرى انه لا خروج من الأزمة بدون مساعدة المجتمع الدولي و بالتالي تأتي الإصلاحات السياسية كخطوة أولى اساسية لأي خطة تهدف إلى التعافي الاقتصادي وإنقاذ ما تبقى من شظايا الاقتصاد الوطني..