مُسلمو أميركا.. أيّ دَورٍ في انتخابات الرئاسة المُقبلة؟
مع إقتراب موعد انتخابات الرئاسة الأميركيّة ( في تشرين الثاني -نوفمبر 2020 المُقبل)، ترتفع في فضاء التساؤلات علامةُ استفهامٍ عن المُسلمين في الداخل الأميركيّ، وكيف ستمضي بهم هذه المسيرة إنْ قُدِّر لها أن تصل بالفعل إلى نهايتها المُقرَّرة في الدستور وفي الموعد المحدَّد؛ فهناك في واقع الحال إشكاليّة الوباء المُتخفّي حول وأمام ووراء أبواب الأميركيّين، ويكاد حال تفشّيه بأكثر من ذلك، أن يقطع الطريق عليهم كما على عموم الأميركيّين دفعة واحدة.
علامة الأستفهام الأولى "لمَن سيُصوِّت المُسلمون في الداخل الأميركي: للرئيس ترامب أم لمُنافسه الديمقراطي، والذي سيكون في الغالب نائب الرئيس الأميركي السابق جوزيف بايدن؟"
التساؤل هنا في واقع الأمر يحتمل رؤية تحليليّة أبعد ما تكون عن المساقات السياسيّة الجافّة، ويحوي ضمن حوامله رؤى سوسيولوجيّة عديدة، وكذا دينيّة، ولاسيّما أنّ الرئيس ترامب قد بدأ ولايته الأولى بإجراءات كانت ولا تزال مُثيرة لمَشاعِر المُسلمين في العالَم برمّته، وليس في الداخل الأميركي فحسب، الأمر الذي تركَ انطباعاتٍ "غير صديقة" في الأشهر الأولى، وذلك قبل أن تطفو على سطح الأحداث ملفّاتٌ ساخنة أخرى، جعلت الصدام "إن جاز التعبير" مع مُسلمي الداخل يتراجع بعيداً، وجاءت كورونا لتجعل الإنسانيّة برمّتها في مُواجَهة جائحة شرسة، لا تفرِّق على أساس الأديان أو الأعراق.
والشاهد أنّه لا يُمكننا الحديث عن دَور مُسلمي أميركا في الانتخابات الرئاسيّة القادمة من غير الوقوف عند حراكهم السياسي في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في تشرين الثاني (نوفمبر) 2018، والتي فاز فيها الجمهوريّون بأغلبيّة مجلس الشيوخ، فيما استرجعَ الديمقراطيّون سيطرتهم على مجلس النوّاب.
آخر الإحصائيّات
آخر إحصائيّة اطَّلعنا عليها أكَّدت في مُجملها أنّ مُسلمي أميركا لعبوا دَوراً واضحاً ولم يتراجعوا عن التزامهم بالمُشارَكة السياسيّة، على الرّغم من إرهاصات المَخاوِف التي تبدّت في العام 2017 تجاههم في ظلّ إدارات تجنح إلى اليمين قليلاً، وإنْ كان الخوف الأكبر كان مَنوطاً، ولا يزال، بجماعات اليمين المُتطرّف، المُغرقة في عنفها وعدوانيّتها.
إحدى الإحصائيّات تُشير إلى أنّ 95% من مُسلمي أميركا قد صوّتوا بالفعل في تشرين الثاني (نوفمبر) 2018، من بينهم نحو 78% صوّتوا لمصلحة مُرشّحي الحزب الديمقراطي و17% منهم لصالح الحزب الجمهوري.
هل يُمكن لهذه النتيجة أن توفِّر رؤيةً استشرافيّةً ما في المدى الزمني المنظور، أي بعد أقلّ من ستّة أشهر؟
هناك نتيجة أخرى تعطي بدَورها دلالاتٍ ما على التوجُّه المُحتمَل لمُسلمي أميركا في الانتخابات الرئاسيّة القادمة، إذ تُبدي النتائج أنّ نحو 82% من الذين صوَّتوا في انتخابات التجديد النصفي لديهم يقين بأنّ ظاهرة كراهيّة المُسلمين ورهابهم المعروفة بالإسلاموفوبيا تصاعدت في الداخل الأميركي، وهي الظاهرة التي تفشَّت داخل البلاد في أعقاب الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، وإنْ تراجعت بشكلٍ واضح خلال إدارة الرئيس الديمقراطي باراك أوباما. وفي الوقت نفسه هناك نحو 18% يرون أنّ الظاهرة قد تراجعت بالفعل في الداخل الأميركي.
جاءت نتيجة انتخابات التجديد النصفي لتُعزِّز الحضور الإسلامي الأميركي على صعيد الحياة السياسيّة الأميركيّة. فقد فازت إلهان عمر، ورشيدة طليب، بمقعدَين في مجلس النوّاب الغرفة الأدنى في الكونغرس، الأمر الذي اعتبره البعض رسالة من الجماهير الأميركيّة للرئيس ترامب، مفادها أنّ الرهان على الانقسام المُعزَّز دوغمائيّاً لا يفيد، وأنّ وعي الجماهير الأميركيّة أبعد بكثير من الرؤية القاصرة للرئيس على تصنيف الأميركيّين المُسلمين مرّة واحدة في خانة الإرهاب والإرهابيّين. ولعلّ المُتابِع لتحرُّكات المُسلمين الأميركيّين، من عرب وأفارقة وآسيويّين، منذ بضعة أشهر، يرى تحرّكاتٍ حثيثة لجعْل قضيّة المُشارَكة في الانتخابات القادمة مسألة منهجيّة لها رؤيتها وخطواتها التكتيكيّة، ومعاييرها ومُحدّداتها التي تدفع بها من أجل تحقيق أهدافها الاستراتيجيّة.
في هذا الإطار كانت هناك حملات تبرّعات منظّمة من أجل تعميق المُشارَكة وإظهار الولاء والانتماء الوطني للدولة الأميركيّة، الأمر الذي يصدّ ويردّ الاتّهامات المُوجَّهة لكلّ ما هو ومَن هو مُسلم وإسلامي في الولايات المتّحدة الأميركيّة.
الصدّ والردّ
الدعوة إلى التبرّعات وتنظيم الصفوف تمتدّ الآن عبر ولايات أميركيّة عدّة كبرى مثل ميتشغان، فرجينيا، بنسلفانيا، أوهايو فلوريدا، جورجيا، نيويورك، ألينوي، تكساس، كاليفورنيا... ما المقصود بالصدّ والردّ هنا؟
ليس سرّاً أنّه في حملة الانتخابات الرئاسيّة 2016 جرت بعض المُحاولات لشَيْطَنة كلّ ما هو إسلامي في الداخل الأميركي واعتُبر الأمر جزءاً من خطّة الجمهوريّين، ولهذا فإنّ الهدف الأوّل من التبرّعات الأخيرة هو الوصول إلى المنصّات الإعلاميّة التي تقوم على تقديم الصورة للمُواطِن الأميركي، ومنها صورة المُسلم الأميركي، ولاسيّما أنّ الانتخابات لا تجري على مستوى منصب الرئيس فقط، بل تتناول أعضاء الكونغرس وحكّام الولايات وعُمد المُدن والبلدات الأميركيّة، أي أنّه مَوسِم أقرب إلى العرس الانتخابي في مَعناه ومَبناه البسيط وغير المُركَّب.
ومن الواضح أنّ مُسلمي الداخل الأميركي الذين هُم بالضرورة جزء من النسيج المُجتمعي الأميركي، قد اكتسبوا من الخبرة الانتخابيّة الكثير منذ بدايات التسعينيّات وحتّى الساعة، أي نحو ثلاثة عقود من التراكُم المعرفي بأُسس هذه العمليّة المُثيرة وآليّاتها، ولهذا تمّ تطوير أنظمة حسابيّة لتحديد الناخبين المُسلمين المُحتمَلين، واستخدام أنظمة معلومات أخرى مثل نماذج العرق في بيانات الناخبين.
هل كان خطاب الإسلاموفوبيا في العقد الأخير عاملَ جذْبٍ لمُسلمي الداخل الأميركي للإقبال على مُمارسة الحياة السياسيّة بما فيها التصويت في وقت الانتخابات؟
علامة الاستفهام هذه تصدَّت للإجابة عنها صحيفة "النيويورك تايمز" الأميركيّة الشهيرة، والتي قطعت بأنّ ذلك كذلك بالفعل، ودلَّلت على صدقيّة قراءتها بالأرقام. فقد ترشَّح مائة مُسلم لخَوض انتخابات التجديد النصفي الأميركي التي أُجريت في 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 2018، بعدما كان عددهم 12 مرشّحاً في انتخابات 2016؛ فإلام يُعزى هذا التوجّه؟
قد يختلف المرء قليلاً أو كثيراً مع إدارةٍ أميركيّة بعَينها قد تكون ديمقراطيّة أو جمهوريّة، لكنّ هذا لا يهمّ، ذلك أنّه في نهاية المطاف نحن أمام نَسقٍ مؤسّساتيٍّ يتيح للجميع الإدلاء بالرأي، وهذه الميزة الحقيقيّة للديمقراطيّة القادرة على تداوُل السلطة، وليست تلك التي رأينا مثالاً مغشوشاً لها في بعض دول العالَم العربي في السنوات القليلة التي أعقبت العام 2011 زمن الثورات المغشوشة، والجماعات الأصوليّة التي نظَرت إلى الديمقراطيّة بوصفها سلّماً يُمكن تسلّقه مرّة لتحقيق أهدافها ثمّ الإطاحة به بعيداً.
ومن المؤكّد أنّ الرؤية النقديّة لدى الناخب الأميركي هي التي تمكّنه من إفساح المجال واسعاً للجميع، وهي في الوقت ذاته التي تسمح له بإعادة تقييم تجربته مرّة كلّ عامَيْن لمجلس النوّاب بأكمله، ولثلث أعضاء مجلس الشيوخ وللرئيس كلّ أربع سنوات.
هناك في سياق التصويت الخاصّ بمُسلمي أميركا في انتخابات الرئاسة القادمة بُعدٌ مهمّ وهو الدور الذي يُمكن أن تلعبه تجمّعاتهم في الولايات المُتأرجِحة أو المُتقلِّبة في مزاجها التصويتي. والمُلاحظ أنّ هوى مُسلمي أميركا طوال الأعوام 2012، 2016، 2018 كان ديمقراطيّاً وبدعْمٍ يصل إلى 74% من مُجمل عدد من يحقّ لهم التصويت... هل من أرقامٍ مُحدَّدة عن هؤلاء؟
تُعَدّ مؤسّسة "بيو" ISPU للأبحاث في واشنطن واحدة من أعرق المؤسّسات البحثيّة وأكثرها صدقيّة، وقد أشارت مؤخّراً إلى أنّ عدد مُسلمي أميركا يبلغ 2,15 مليون نسمة وفي الوقت نفسه وجدَ المعهد أنّ 73% من المُسلمين البالغين والمؤهَّلين قد تمّ تسجيلهم للانتخابات في العام 2019 وهذا يحقِّق ارتفاعاً بنسبة 60% عن العام 2016 وقد قام 29% منهم بالتصويت.
الخروج من "الغيتو"
هل يعني ذلك أنّ مُسلمي أميركا يُمكن أن يُشكّلوا أهميّة بعَينها على صعيد الانتخابات الرئاسيّة القادمة؟
لعلّ إحدى النقاط الإيجابيّة التي تُحسب لمُسلمي أميركا هي أنّهم يفكّرون ويتحرّكون على الصعيد السياسي بعقليّة المُواطَنة وليس وفق الانتماء العرقي أو العقيدي، وهذا ما يشير إليه أحد النشطاء من أصل عربي، وهو عامر زهر الفلسطيني الأصل، الذي يشير إلى أنّ الأغلبيّة الساحقة من عرب أميركا من الأديان كافّة، وكذلك الأغلبيّة الساحقة من مُسلمي أميركا من الجنسيّات كافّة تدعم بيرني ساندرز عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فيرمونت.
والمعروف أنّه قبل أربع سنوات نجح عرب أميركا في جعْل ساندرز يتصدّر سباق الترشُّح في ميتشغان، إذ أظهرت نتائج الاقتراع تفوُّق ساندرز على هيلاري كلينتون بنسبة 3-1 في الانتخابات الديمقراطيّة التمهيديّة لعام 2016 ويعيش حوالى 400 ألف عربي في أنحاء ميتشغان كافّة، حيث فاز ساندرز بفارق 17 ألف صوت.
هنا يظهر للأميركيّين جليّاً أنّ عرب ومُسلمي أميركا قد صاروا بالفعل أكثر نضجاً، وأنّهم في دعمهم لساندرز لم يقولوا "إنّنا ندعمه على الرّغم من أنّه يهودي"، بل قالوا "إنّنا ندعمه لأنّه يهودي"، ذلك أنّ ساندرز تحدَّث في مرّاتٍ عديدة عن أنّ معاناة أسرته في مذابح الهولوكست، جعلته أكثر تعاطُفاً مع مآسي الآخرين، بما في ذلك مِحنة الفلسطينيّين الذين يعيشون ظروفاً ظالِمة تحت وطاة الاحتلال الإسرائيلي.
أفضل ما فعلته الجاليات العربيّة والإسلاميّة في الداخل الأميركي، هو أنّها استطاعت الخروج من فكرة "الغيتو" التاريخي، الذي عرفته جماعات عرقيّة عديدة حول العالَم عاشت مئات الأعوام في إطار "الحارة الواحدة" جغرافيّاً، وكذلك ديموغرافيّاً، مُتقوقعةً حول ذاتها، الأمر الذي تسبَّب لها في الكثير من الإشكاليّات التي ترفضها الإنسانيّة، والعرب والمُسلمون في مقدّمتهم.
لقد خرجت تلك الجاليات في الأرجاء الأميركيّة الفسيحة تسعى إلى مَن يُكرِّس العدالة في الداخل والخارج، وليُعيد "مبادئ مونرو" إلى الوجود ويُنهي مسألة التشارُع والتنازُع بين أميركا الجيفرسونيّة وأميركا الويلسونيّة، ناهيك بوضْع حدّ لمسألة "تكافؤ الأضدّاد في الروح الأميركيّة الواحدة"، وحتّى لا تعرج بين الحقّ والضلال لزمنٍ طويل قادِم، الأمر الذي أفقدها الكثير من بريقها في عيون العالَم.
وفي الأحوال كلّها ربّما تكون الانتخابات الأميركيّة القادمة محطّة مهمّة ومفصليّة في تاريخ العمل السياسي لمُسلمي أميركا، ولاسيّما في ظلّ التطوّرات السريعة التي تجري في الداخل الإمبراطوري الأميركي من جهة، وعلى المَسار العالَمي من جهة ثانية.
إميل أمين / كاتب من مصر - مؤسسة الفكر العربي