الذكاء الاصطناعيّ كقضيّةٍ وجوديّة عربيّة

د. أحمد مصطفى علي حسين*
تُعيد خوارزميّات الذكاء الاصطناعيّ تشكيلَ مَلامِح الحضارة الإنسانيّة، ما بين اقتصاد المعرفة إلى حروب البيانات، وهو ما يَفرض على العالَم العربيّ مُواجَهة تلك المخاطر، فإمّا أن يُشارِك في صَوْغِ هذا المستقبل، أو يُصبح مُجرَّد مُستهلِكٍ لتفاصيله، وواقعاً تحت مَخاطِرِهِ وسيطرتِه.
تتّضح مَعالِم الفجوة والمَخاطِر، حينما نَجِدُ الصين والولايات المتّحدة تُنفقان مئات المليارات على تطوير نماذج مثل ChatGPT أو Baidu’s ERNIE، في حين أنّ الاستثمارات العربيّة لا تزال تُقاس بملايين محدودة، على الرّغم من امتلاك العرب مواردَ بشريّة وماليّة قادرة على صنْع مُعادلةٍ مُختلفة. وهو الأمر الذي يقتضي منّا التسريع في اقتناص الفُرَص و مُراعاة التحدّيات التي يَطرحها الذكاءُ الاصطناعي في السياق العربي؛ إذ لا توجد تقنيّةٌ مُحايدة، بل ثمّة أداة جيوستراتيجيّة قد تُعيد رسْم خريطة القوى العالميّة، وتُهدِّد، في حال لم تتمّ إدارتها بحِكمة، بالقضاء على الهُويّة الثقافيّة للمنطقة، وخصوصاً مع عدم الإسراع في تطوير الأنظمة التعليميّة العربيّة لتواكِب استغلالَ تقنيّات الذكاء الاصطناعي في تعليم الشباب بشكلٍ فاعل، وذلك كخطوة أولى ولازمة لبِناء جيلٍ قادرٍ على الابتكار والإسهام في تطوير التقنيّة مستقبلاً.
الذكاء الاصطناعيّ: من سباق التسلُّح التكنولوجيّ إلى التحوُّل الحضاريّ
باتَ الذكاءُ الاصطناعي مُحرِّكاً رئيساً للاقتصادات الحديثة، إذ تُشير تقديرات شركة PwC إلى أنّ هذه التقنيّة قد تُضيف 15 تريليون دولار للاقتصاد العالَمي بحلول العام 2030. لكنَّ السؤال الجوهريّ الذي يَطرح نفسَه هو: أيُّ جزءٍ من هذه الكعكة ستحصل عليه الدول العربيّة؟
في مجال العلوم الطبيعيّة لدى الغرب، سنجد كيف أنّ تجارب مثل استخدام الذكاء الاصطناعي تُمهِّد لاستكشاف أدويةٍ لمرضى السرطان (كما في مشروع DeepMind التّابع لغوغل)، أي كيف أنَّ هذه التقنيّة قادرةٌ على اختصار عقودٍ من البحث.
أمّا عربيّاً، فثمّة مبادراتٌ واعدة، مثل مشروع "حاسوب الجينوم العربيّ" في الإمارات، الذي يهدف إلى تحليل البيانات الوراثيّة للسكّان باستخدام الذكاء الاصطناعي، ما قد يُسهم في مُكافحة الأمراض المُزمنة المرتبطة بالجينات.
لكن، تجدر الإشارة إلى أنّ مُبادرة الجينوم الإماراتي لا تزال مشروعاً قَيْد التطوير، وأنّ التكامُل مع الذكاء الاصطناعي لم يُعلن عنه بشكلٍ موسَّع بَعد.
الواقع العربيّ: بين المُبادرات الطموحة وإشكاليّة التبعيّة
على الرّغم من الإنجازات الفرديّة، مثل إنشاء "مدينة محمّد بن زايد للذكاء الاصطناعي" في أبو ظبي، أو إطلاق السعوديّة منصّة "سدايا" لقيادة التحوُّل الرقمي، تظلّ الفجوة هائلة. فوفقاً لتقرير البنك الدولي للعام 2023، لا يتجاوز عددُ براءات الاختراع العربيّة المُرتبطة بالذكاء الاصطناعي 0.3% من الإجمالي العالَمي، مُقارَنةً بـ 62% للولايات المتّحدة والصين. هذا بالإضافة إلى ثلاثة تحدّياتٍ بالغة الأهميّة، تواجِه معظم الدول العربيّة، وهي:
التبعيّة التكنولوجيّة: حيث إنّ 90% من خوارزميّات الذكاء الاصطناعي المُستخدَمة عربيّاً مُستورَدةٌ من الخارج، وفْقاً لدراسة أجرتها جامعة كامبريدج في العام 2024.
استنزاف العقول: إذ يُهاجِر 45% من الكفاءات العربيّة المُختصّة في علوم البيانات إلى الخارج سنويّاً، بحسب منظّمة العمل العربيّة، بسبب ضعف البنية التحتيّة البحثيّة.
الفجوة التشريعيّة: حيث لا يوجد إطارٌ قانوني عربي موحَّد لتنظيم أخلاقيّات الذكاء الاصطناعي، بينما أَطلقت اليونسكو في العام 2021 أوّلَ إطارٍ عالَمي لهذا الغَرَض.
وهذا يعني أنَّ البيانات العربيّة تُعالَج عبر أنظمةٍ صُمِّمت بمرجعيّاتٍ ثقافيّة غربيّة، ما يُهدِّد بتحيُّزٍ منهجيّ ضدّ الخصوصيّات المحليّة.
الاقتصاد الأخضر: هل يُصبح الذكاء الاصطناعيّ العربيّ رافعةً للاستدامة؟
هذا وفي الوقت الذي تُوظِّف فيه ألمانيا الذكاءَ الاصطناعي لتحسين كفاءة شبكات الطّاقة المتجدِّدة، بدأت بعض الدول العربيّة تخطو خطواتٍ جريئة:
المغرب: استخدام الذكاء الاصطناعي في إدارة مشروع "نور" للطاقة الشمسيّة، الأكبر من نَوعه عالَميّاً، لتحسين توزيع الطّاقة. لكنْ، حتّى هذه اللّحظة، فإنَّ دَور الذكاء الاصطناعي في إدارته لا يزال محدوداً، وفقاً للوكالة المَغربيّة للطاقة الشمسيّة.
مصر: التفكير في اتّخاذ خطوات جديّة نحو تطبيق أنظمة الريّ الذكي المدعومة بالذكاء الاصطناعي في مشروع الدلتا الجديدة، ويتوقَّع أن يُحَقِّق ذلك في المستقبل القريب توفيراً للمياه بنسبة 40%.
لكنْ، ما زالت النتائج المحليّة محدودة؛ وقد ذَكرتْ "منظّمة الأغذية والزراعة" (الفاو) في العام 2023 أنّ مصر توفِّر بين 15 إلى 25% من المياه بفضل استخدام التكنولوجيا، بينما أَعلنت وزارةُ الموارد المائيّة والريّ المصريّة في تقاريرِها أنّها نَجحت في توفير 1.5 مليار متر مكعّب سنويّاً بفضل التكنولوجيا، وهو ما يشكِّل 7% من نسبة استهلاك المياه في الزراعة. لكنّ هذه التطبيقات ما زالت غير مُنتشرة في معظم مناطق الجمهوريّة وقراها ونجوعها وكفورها، وذلك بسبب التكاليف الضخمة لأنظمة الريّ الذكيّة.
هذا، وفي مزارع نموذجيّة مثل "سرس اللّيان" في المنوفيّة، وُظِّفت أجهزةُ استشعارٍ لقياس رطوبة التربة وتحديد احتياجاتها من المياه بدقّة، كما وُظِّفت هذه الأجهزة في منطقةٍ أخرى هي "توشكي" بالتعاون مع شركة نيدركو الهولنديّة، ما قلَّل الاستهلاك في تلك المنطقة بنسبة 25% وفقاً لتقارير البنك الدولي.
الإمارات: توظيف الذكاء الاصطناعي في مشروع "غابات أبوظبي الرقميّة" لمُراقبة التصحُّر وزيادة الرقعة الخضراء.
ثمّة تجارب متنوّعة، لكنّها لا تزال محدودة النّطاق، إذ تُشير منظّمة "الفاو" إلى أنَّ 70% من التقنيّات الزراعيّة الذكيّة في المنطقة لا تزال تَعتمد استيراد البرمجيّات الأجنبيّة.
التعليم والصحّة: مُعادلة الإنقاذ أم تعميق التبعيّة؟
في قطاع التعليم، تُظهِر منصّة "مدرسة" الإماراتيّة، كيف يُمكن للذكاء الاصطناعي تخصيص المحتوى التعليمي لمليون طالبٍ عربيّ. أمّا في الصحّة، فسنَجد أنّ البحرين أَطلقت مُبادراتٍ في التحوُّل الرقمي للصحّة، مثل منصّة "نور" للتشخيص عن بُعد. وإذا كان استخدامُ الذكاء الاصطناعي لتحليل الصور الطبيّة لا يزال في مراحل مبكّرة، وفقاً لتقارير وزارة الصحّة البحرينيّة لعام 2023، فإنّه من المتوقَّع أن يُسهم خلال السنوات المُقبلة في تقليص زمن التشخيص من 48 ساعة إلى 20 دقيقة.
أمّا عن المخاطر القائمة، فنذكر أنّ اعتماد الجامعات منصّاتٍ مثل Coursera أو edX من دون تطوير أنظمةٍ محليّة، من شأنه أن يُهدِّد بتحويل التعليم العربي إلى نسخةٍ رقميّة مُكرَّرة في إطار التبعيّة الثقافيّة.
الذكاء الاصطناعيّ وكارثة التغريب الثقافيّ
هنا تكمن المعضلة الأعمق: كيف نَمنع الذكاء الاصطناعي من أن يتحوَّل إلى أداةٍ لـ "الاستعمار الرقمي"، كما يُحذِّر الفيلسوفُ التونسيّ "أحميدة النيفر"؟ يأتي هذا السؤال في ظلّ بعض المظاهر الآتية:
تحيُّز الخوارزميّات: تُظهر نماذج اللّغات الكبيرة مثل GPT-4 تحيُّزاً ضدّ اللّهجات العربيّة، حيث تَصِل دقّتها في فهْم العربيّة الفصحى إلى 85%، بينما تنخفض إلى 35% في اللّهجات المحليّة، وفقاً لبحثٍ من "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" (MIT).
الاستلاب الرمزيّ: اعتماد معظم المؤسّسات الإعلاميّة العربيّة على أدوات الترجمة الآليّة مثل Google Translate، الذي يُنتج لغةً مشوَّهةً تُهدِّد نقاءَ العربيّة.
لذا، تَبرز الحاجةُ إلى مشروعاتٍ مثل "جينسيس" في تونس، الذي يُطوِّر نماذج لمُعالَجة اللّهجات العربيّة، أو مُبادرة "حاسوب التراث العربي" في السعوديّة، لرقْمَنة المخطوطات باستخدام الذكاء الاصطناعي.
الطريق إلى الأمام: نحو إبداع ذكاءٍ اصطناعيٍّ عربيٍّ
ثمّة ثلاث استراتيجيّات بالغة الأهميّة ينبغي العمل عليها:
توطين التكنولوجيا:
استحداث مراكز أبحاث عربيّة مُشترَكة على غرارCERN الأوروبي، بتمويلٍ من صندوقٍ عربيٍّ مُشترَك.
تطوير "الذكاء الاصطناعي الإسلامي" (Islamic A) الذي يَدمُج الأخلاقيّات الدّينيّة مع التقنيّة، كما في تجربة ماليزيا مع منصّة "الفقه الرقميّ".
إصلاح التعليم:
إدخال مادّة "أخلاقيّات الذكاء الاصطناعي" في المناهج الدراسيّة، كما فعلتْ فنلندا عبر مشروع "Elements of AI".
تبنّي نموذج "الجامعة الافتراضيّة العربيّة" بدعْمٍ من منظّمة اليونسكو.
الشراكة العالميّة:
التعاوُن مع الصين والهند لإيجاد بديلٍ عن احتكار الغرب، مع الحفاظ على الخصوصيّة الثقافيّة.
وأخيراً، ليست المعركة حول الذكاء الاصطناعي مجرّد سباقٍ تقنيّ، بل هي صراعٌ على الهويّة والسيادة في العصر الرقمي، حيث إنّ عالَمنا العربيّ، وبحُكمِ موقعه الجيوسياسي وثرواته الثقافيّة، قادرٌ على الاضْطلاعِ بدَورٍ محوريّ، شرط أن يُدرِك أنَّ تطوير الذكاء الاصطناعي ليس خياراً، بل ضرورة وجوديّة.
وهذا يتطلَّب الاستثمار في الذكاء الاصطناعي عربيّاً، للاستفادة من الإمكانات الهائلة في جميع المجالات من التعليم إلى الصحّة والاقتصاد، وتوجيه هذه الإمكانات بشكلٍ مدروس بين جميع الدول العربيّة، وخصوصاً أن لا مجال للتردُّد أو التأخير، لأنّ الآخرين يعمدون إلى ذلك بخطىً مُتسارعة وأهدافٍ واضحة ومُستترة.
هنا تَقع مسؤوليّةٌ تاريخيّة كبرى على الحكومات والبرلمانات والمُجتمع المدني والمؤسّسات التعليميّة والبحثيّة، لأنّها وحدها القادرة على إدارة الاستثمار في تطوير هذه التقنيّة وتوجيهها، وتوفير بيئة مؤاتية للابتكار، وهي أيضاً التي يُمكنها حثّ المجتمع على إدراك أهميّتها، حيث التوعية بمخاطر حفْظ الهويّة الثقافيّة والإبداع البشري، وأهميّة الثقافة الرقميّة، وتنمية القدرات الذاتيّة للأجيال الجديدة، ورعاية ذلك بالشكل الأمثل الذي يستوعب حجْم التحدّيات المتصاعدة وأبعادها السياسيّة والاقتصاديّة والبيئيّة والثقافيّة وغيرها.
ختاماً، وكما قال عالِم الحاسوب المصري د. محمّد القاضي: "الذكاء الاصطناعي هو آخر قطارٍ للحضارة.. فهل سنركبه أم نكتفي بمُشاهدته يمرّ؟".
*كاتب وباحث من مصر