الفيلسوف ومسألة التفوُّق الأخلاقيّ

زكي الميلاد*
غالباً ما يُعرَف الفيلسوف من زاوية المعرفة، ويُعَدّ من هذه الزاوية أنّه صاحب معرفة شاملة، يكون محيطاً وفقاً للتعريف القديم بالمعارف الطبيعيّة والمنطقيّة والإلهيّة، التي تُمكِّن الفيلسوف من النَّظر إلى عالَم الوجود، وتكوين رؤية شاملة للحياة، وتفحُّص العِلل والمبادئ الأولى للموجودات، متجلّياً في ناحية الأشخاص في صورة أرسطو (384 - 322 ق.م) في الأزمنة اليونانيّة القديمة الذي صَنَّف في هذه المعارف وأحاط بها عِلماً، وفي صورة ابن سينا (980 – 1037 م) في الأزمنة الإسلاميّة الوسيطة الذي صنَّف موسوعة كتاب "الشفاء" جامِعاً بين هذه المعارف ومُلمِّاً بها عِلماً.
ووفقاً للتعريف الحديث، فإنّ الفيلسوف من زاوية المعرفة، هو الذي يكون مُحيطاً بمعارف كثيرة أو بمعرفةٍ واسعة وعميقة، تمكّنه من تكوين نظراتٍ شاملة، ومن إبداعِ فلسفاتٍ ونظريّاتٍ ومناهج ومفاهيم جديدة، متجلّياً في صورة الفرنسي رينيه ديكارت (1596 – 1650 م) الذي رَبَطَ المعرفة بالمنهج العقلي الرياضي، وفي صورة البريطاني جون لوك (1632 – 1704 م) الذي رَبَطَ المعرفة بالمنهج الحسّي التجريبي، وفي صورة الألماني إيمانويل كانط (1724 – 1804 م) الذي رَبَطَ المعرفة بالمنهجَيْن العقلي والتجريبي معاً.
لا ريب في وجاهة هذه الزاوية المُتعلّقة بالمعرفة. فهي بالنسبة إلى الفيلسوف لها منزلة الأصل والأساس تكويناً وتحقّقاً، ومن دونها لا يُعرف الفيلسوف ولا يُعرَّف صفةً ووجوداً. فليس هناك فيلسوف ولن يكون من دون اكتساب معرفة شاملة أو عميقة على سبيل الفعل وليس على سبيل القوّة. لكنّ هذه الزاوية، على وجاهتها المهمّة، ليست تامّة لوحدها في تعريف الفيلسوف جوهراً وحقيقة، فهي بحاجة إلى مُسانَدة من زاويةٍ أخرى تُعاضدها وتتكامَل معها، وليست مُنقطعة عنها أو مُنفصلة، ونعني بها الزاوية الأخلاقيّة التي لا قوام لشخصيّة الفيلسوف من دونها تخلّقاً.
استناداً إلى هذه الزاوية الأخلاقيّة، فإنّ الفيلسوف أصالةً لا يُعرف بالمعرفة فحسب، بل يُعرف بالأخلاق أيضاً، متفوِّقاً بالمعرفة والأخلاق معاً، لا بالمعرفة من دون أخلاق، ولا بالأخلاق من دون معرفة. فلا يُمكن أن نتصوَّر فيلسوفاً على سبيل الفعل من دون أن يكون متفوّقاً في الأخلاق. فالأخلاق بالنسبة إليه لا تقلّ أهميّةً مُقارَنةً بأهميّة المعرفة، بل تفوقها أهميّة وتتقدَّم عليها درجة. والإنسان عموماً يُعرف بأخلاقه قَبل أن يُعرف بمعرفته، ويؤثِّر بأخلاقه قَبل أن يؤثِّر بمعرفته. وهكذا الفيلسوف، بل لا يكون الإنسان فيلسوفاً إذا لم يكُن مؤثِّراً بأخلاقه العالية، وهو أقوى من غيره في التأثير بأخلاقه النموذجيّة.
هذا المعنى في ربْط الفيلسوف بالأخلاق تفوّقاً، نَجد تأكيداً له على امتداد عصور الفلسفة وتعاقبها الزمنيّ الطويل؛ فمع فجر الفلسفة في عصرها اليوناني القديم، عُدَّ سقراط (470 - 399 ق.م) مؤسِّساً لعِلم الأخلاق، لأنّه دَفَعَ بالفلسفة وغيَّر مَسارها هابطاً بها من عالَم الطبيعة إلى عالَم الإنسان، ناظراً إلى الإنسان في داخله، وليس في ظاهره، مُحفِّزاً له لأن يَنظر بنفسه إلى نفسه، مُطلِقاً مقولته الشهيرة التي وَجدها مكتوبة على معبد "دلفي" اليوناني (اعرف نفسكَ بنفسك). وقد أقام فلسفته على أساس ربْط المعرفة بالفضيلة، مُعظِّماً قيمة الفضيلة، ومُجسِّداً المعرفة والفضيلة في حياته الاجتماعيّة تثقيفاً للناس وتوجيهاً وتعليماً، متّخذاً من نفسه أنموذجاً تطبيقيّاً لصورة الحكمة العمليّة في جانبها الأخلاقي بشكلٍ خاصّ.
الأمر الذي يعني أنّ الفلسفة بدأت متّصلة بالأخلاق، ومع سقراط تعمَّقت هذه الصلة عمليّاً وتطبيقيّاً، ومع أفلاطون (427 - 348 ق.م) تعمَّقت مثاليّاً، ومع أرسطو تعمَّقت عقليّاً.
والفيلسوف في نظر هؤلاء الحُكماء هو الذي يتخلَّق بأكمل الفضائل، ويُعَدّ من أكمل الناس، وأرفعهم درجة، وأعظمهم مَنزلة، ويُعتبر الأنموذج الأمثل الذي لا يتقدَّم عليه أحد في كلّ شيء. ويُسجَّل لهؤلاء الحُكماء أنّهم كانوا من أقوى الفلاسفة تحفيزاً للناس وتعليماً لأن يرتقوا إلى طبقة الفلاسفة، طلباً للكمال، وتخلُّقاً بالفضائل، وتشبُّهاً بالأنموذج الأمثل.
وتأكَّد هذا المعنى الأخلاقي كذلك مع فجر الفلسفة في عصرها الإسلامي الوسيط، فقد صوَّر أسبق الفلاسفة العرب إلى الفلسفة أبو يعقوب الكندي أنّ القدامى حدَّدوا الفلسفة من جهة فعلها، فقدّموها على أنّها التشبُّه بأفعال الله تعالى بقدر طاقة الإنسان، ليكون الإنسان متّسماً بكامل الفضيلة. ومُعتبراً أنّ غَرَضَ الفيلسوف في علمه إصابة الحقّ، وفي عمله العمل بالحقّ، ومُقدِّراً أنّ أشرف الفلسفة وأعلاها مرتبةً الفلسفة الأولى، ويَعني بها عِلم الحقّ الأوّل الذي هو علّة كلّ حقّ. ولذلك وُجب في نظره أن يكون الفيلسوف الأشرف والتامّ هو المرء المُحيط بهذا العِلم الأشرف. ومن هنا فقد ارتبطتِ الفلسفةُ عند المُسلمين بتكميل النَّفس، واكتساب الفضائل، وتحصيل أعلى مراتب الأخلاق، والتشرُّف بمعرفة الحقّ تعالى، ناظرين إلى أنّ الفيلسوف هو الإنسان الأكمل.
وتَجدَّد هذا المعنى الأخلاقي أيضاً مع فجر الفلسفة في عصرها الأوروبي الحديث. فقد اعتنى ديكارت بعِلم الأخلاق، وجَعَلَهُ، بعدما وَضَعَ تصنيفاً للعلوم، في أعلى مرتبة، وأبعده عن ناحية الشكّ تنزيهاً له، مُعتبراً أنّ تحرير النَّفس من الشهوات، واستقلالها عن الهوى، يقود إلى الأخلاق الحقّة التي هي العلم بالخير الأعلى. وقد تابَع هذا الدرب مَن جاء بعده إلى عصرِ إيمانويل كانط الذي رَبَطَ الأخلاق بقانون الواجب، وأقامها على أساس العقل العَملي، ليكون هادياً إلى العمل بالأخلاق والالتزام بها.
جنون الفلاسفة
بهذه السيرة الطويلة والمُمتدَّة من عصور ما قَبل الميلاد إلى عصور ما بعدها، ومن الأزمنة القديمة إلى الأزمنة الوسيطة، ثمّ الأزمنة الحديثة، يتكشَّف لنا متانة علاقة الفلسفة بالأخلاق، وعلاقة الفيلسوف بالأخلاق. وبحُكم قوّة هذه العلاقة، نادراً ما نَجِد فيلسوفاً في تاريخ الفلسفة لم يَقترب من الأخلاق، ويتواصل معها نظراً وعَملاً. ولعلّ في تقدير هؤلاء الفلاسفة أنّ صورة الفيلسوف لا تَكتمل نظراً من دون التعاطي مع مَبحث الأخلاق، ولا تَكتمل تجسّداً من دون الالتزام بهذه الأخلاق.
ولا يظنَّن أنّ الأخلاق تُعَدّ مسألة سهلة مقارنةً بمسألة المعرفة، بناءً على أساس أنّ المباحث الأخلاقيّة لا صعوبة فيها ولا تعقيد غالباً، بخلاف الحال مع مباحث المعرفة. وحقيقة الأمر أنّ الأخلاق أشدّ صعوبة من وجهٍ معيّن، لأنّها تُحمِّل الإنسان التزاماً أقوى من التزام المعرفة، وتَفرض عليه قيوداً أقوى من قيود المعرفة، وتُشعره بمسؤوليّة أقوى من الشعور المتولِّد من المعرفة، وتُخرجه من نطاق الذّات إلى نطاق الآخر بأقوى من إخراج المعرفة له.
من جانبٍ آخر، إنّ أعلى درجات الأخلاق هي أخلاقيّات الفيلسوف، كونه يُمثِّل أعلى مرتبةً يُمكن أن يَصل إليها الإنسان في سَيْرِه إلى مراتب العِلم والفضيلة، وهذه الأخلاقيّات، وَزناً وثقلاً، لا يقوى عليها صبراً وثباتاً غير الفيلسوف الذي تحدَّدت به صفةٌ. ولذلك فإنّ درجة التسامُح مثلاً لها سِعة في أخلاقيّات الفيلسوف لا تُقارَن بغيره، وهكذا درجة الحلم والصفح والعفو والتواضع وحبّ الخير وكره الشرّ ورفْض الظلم. كما أنّ الفضيلة لها وزن في أخلاقيّات الفيلسوف لا تُقارَن بغيره كذلك.
لذا فإنّ أقوى نقد يُمكن أن يوجَّه إلى الفيلسوف هو النقد الأخلاقي، لأنّه النقد الذي فيه مسٌّ بوجوده وشخصيّته واعتباريّته الكليّة، وقد يُطيح بمنزلتهِ الأنموذجيّة، ويؤثِّر في نظرته إلى ذاته المتعالية. بخلاف النقد الفكري الذي يظلّ مفتوحاً وقائماً لا انسداد له ولا توقُّف، ولا خشية منه ولا حَرَج، والسيرة دالّة على وجود هذا النمط النقدي وديمومته بلا تمنُّع أو امتعاض، وهكذا الحال مع النقد الفلسفي والنقد المنهجي وغيرهما. أمّا النقد الأخلاقي، فله وضعيّة مُختلفة، وهذا ما يعرفه الفلاسفة قَبل غيرهم.
واستنادا إلى هذا النقد الأخلاقي وتطبيقاً له، نَقف أمام ظواهر تُثير الدهشة والتعجُّب من الناحية الأخلاقيّة، وخصوصاً في المجال الغربي المُعاصِر، باعتباره المجال الذي يحفل بوجود الفلاسفة حضوراً وتأثيراً. من هذه الظواهر التي نقصدها ما حدثَ مع الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير (1918 - 1990 م) الذي قَتل زوجته خنقاً، ثمّ أمضى العقد الأخير من حياته في مصحّة نفسيّة، أو ما حدثَ مع الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (1925 - 1995 م) الذي ختمَ حياته مُنتحراً هرباً من متاعب المرض.
ويتّصل بهذا المنحى ما حاول التحقُّق منه الكاتبان البريطانيّان في كتابهما المُشترَك والمثير بعنوان: "جنون الفلاسفة"، مُنطلقَيْن فيه من الموقف الأخلاقي، وكاشفَيْن عن حماقات الفلاسفة، وناظرَيْن إلى حالة الفصْل بين الفكر والسلوك، مُعتبرَيْن أنّ أسوأ أشكال السلوك هو الذي يتناقض مع الأشياء التي يقبلها المرء على أنّها عادلة وحقيقيّة، مسلّطَيْن الضوء على حالاتٍ أخلاقيّة متعدّدة، مُنتخبَيْن ثمانية مفكّرين أوروبيّين من العصر الحديث، هُم: جان جاك روسّو، آرثر شوبنهاور، فريدريك نيتشه، برتراند رسل، لودفيغ وتغنشتاين، مارتن هايدغر، جان بول سارتر، ميشال فوكو، مُنتهيَيْن في نهاية المطاف إلى أنّ هذه الاستكشافات لعلّها أساسيّة في فهْم الطبيعة البشريّة المتعدّدة الوجوه.
وما نَختم به هو أنّ الفيلسوف ليس منزَّهاً عن الخطأ، لكنّه سرعان ما يتنبّه له، ويكون أقدر من غيره على تدارُكِهِ، وتصويب المَسلك.
* كاتب من السعوديّة
🖋 تعليق :
“ليس الفيلسوف مَن يملك مفاتيح المعرفة وحدها، بل مَن يتسلّح بالفضيلة ليصنع منها نبراساً يضيء زوايا الحياة.”