الفلسفة التوفيقية: التوازن الذكي بين الولاءات والكفاءات

news image

✍️ إعداد: عبدالله العميره – إدارة الإعلام الإستراتيجي
وكالة BETH الإعلامية

🔹 المقدمة:

منذ تشكُّل أول نواة تنظيمية في التاريخ البشري، ظل الصراع بين الولاء والكفاءة حاضرًا في كل مؤسسة، دولة، أو حتى قبيلة. ومع تطوّر النماذج الإدارية، ظهرت الحاجة لما يمكن تسميته بـ"الفلسفة التوفيقية"، وهي فلسفة غير مكتوبة تحاول التوفيق بين هذين القطبين، دون أن يسحق أحدهما الآخر.

لكن… هل التوفيق بين الولاء والكفاءة ممكن فعلاً؟ أم أننا أمام ازدواجية لا تُحلّ إلا بالانحياز لأحد الطرفين؟

 

🔹 أولاً: تعريف الفلسفة التوفيقية

الفلسفة التوفيقية ليست مذهبًا فكريًا مكتوبًا، بل تيار عملي باطني يحاول أن يُوفّق بين المتناقضات داخل المؤسسات والمجتمعات، ويمنح كل طرف "شرعية البقاء" في دائرة القرار. وهي تقوم على فرضية أن:

"الكفاءة تصنع الإنجاز، لكن الولاء يحمي المؤسسة من الانهيار".

وتكمن عبقرية هذه الفلسفة في قدرتها على إيجاد نقطة توازن مؤقت بين العقلانية والولائية دون أن تنفجر إحدى القيمتين في وجه الأخرى.

 

🔹 ثانيًا: الولاء والكفاءة… ثنائية مشروخة أم تكامل معطّل؟

- الولاء:

هو الاستعداد للدفاع عن الكيان والانحياز له، حتى على حساب المصلحة الفردية أحيانًا.
غير أن الولاء أحيانًا يتحول إلى أداة لاستبعاد الكفاءات، بحجة "عدم الانتماء"، فيتولد ما يُعرف بظاهرة "الموالين عديمي الجدارة".

- الكفاءة:

هي القدرة على الإنجاز، بغض النظر عن الانتماء أو القرب من مركز القرار.
لكن الكفاءة الباردة قد تُفرز ما يُعرف بـ"الناجح غير المنتمي"، وهو خطرٌ آخر إذا لم يكن في بيئة تحكمها القيم.

 

🔹 ثالثًا: الفلسفة التوفيقية كحلّ مؤقت وليس دائم

المدهش في هذه الفلسفة أنها لا تدّعي أنها الحل الأمثل، بل تعترف – ضمنيًا – بأنها حالة استقرار مرحلية ريثما تنضج المؤسسات.
فهي لا تقتلع الولاء، ولا تُطلق الكفاءة منفردة… بل تخلق هامشًا رماديًا قابلًا للضبط بحسب:

طبيعة المؤسسة (عسكرية، مدنية، إعلامية…)

درجة نضج المجتمع

حجم المخاطر الخارجية

 

🔹 رابعًا: نماذج تطبيقية في بيئة العمل

النموذج الانتهازي:
يعتمد على الولاء فقط. يستعبد الكفاءات. النتيجة: إخفاق مؤجل، وانهيار مؤكد.

النموذج التكنوقراطي المتغطرس:
يعتمد على الكفاءات فقط. يهمّش الولاءات. النتيجة: تفكك داخلي، وغياب الحماية الجماعية.

النموذج التوفيقي الذكي:
يوزع المواقع حسب:

القرار السياسي أو الاستراتيجي: لمن يتمتع بولاء ثابت وكفاءة معتبرة.

المهام الفنية والتنفيذية: لأصحاب الكفاءة العالية، حتى إن لم تكن ولاءاتهم مطلقة، طالما لم تكن معادية.

 

🔹 خامسًا: شروط نجاح الفلسفة التوفيقية

أن تكون الكفاءة معيارًا لا يُلغى، بل يُوازن فقط.

أن لا يتحول الولاء إلى محسوبيّة عشائرية أو شخصية.

أن يُربط الولاء بالمؤسسة لا بالأشخاص.

أن توضع خطوط حمراء تمنع خيانة الثقة تحت شعار "كفاءة بلا انتماء".

 

🔹 سادسًا: المخاطر الكامنة

إذا فُسّرت الفلسفة التوفيقية على أنها "ترضية جماعية"، تحوّلت إلى وصفة لفشل بطيء.

إذا ساد اعتقاد بأنها تمهيد لتغييب أحد الطرفين لاحقًا، انهارت الثقة بين أفراد المنظومة.

وإذا أصبحت وسيلة لإبقاء "الضعفاء الآمنين"، فسينهار الأداء.

 

🔹 خاتمة رمزية:

"لا تبنِ مؤسسة على أعمدة الولاء فقط، ولا على أسس الكفاءة وحدها…
بل احفر لها أساسًا من الحكمة، وجدرانًا من الانضباط، وسقفًا من الإيمان المشترك بالقضية."

الفلسفة التوفيقية ليست حلاً سهلًا، بل هي فن إدارة التناقض باحتراف… إلى أن ينضج المجتمع ويصبح الولاء نفسه كفاءة.