سباق التسلُّح التكنولوجيّ وانعكاسه على الأمن والسِّلم الدوليَّيْن
مجاهد أحمد المزوّق*
شَهِد العالَم على مَدار العقدَيْن الماضيَيْن تطوُّراً تكنولوجيّاً سريعاً للغاية، بخاصّة في ما يتعلّق بالتكنولوجيا الأمنيَّة والحربيَّة، في ظلّ مساعي العديدِ من الدّول الكبرى لتوظيف التقنيّات الحديثة المُرتبطة بالذَّكاء الاصطناعيّ وعسْكرتها، ليس لتطوير قدراتها الحربيّة وتعزيز أمنها فحسب، بل أيضاً لتعزيز مواقعها وإحداث تغييرٍ في بنية النّظام الدّوليّ الحاليّ.
غَدتِ التكنولوجيا عامِلاً حيويّاً في إطار العلاقات الدوليّة المُعاصِرة، ولاعِباً جديداً على السّاح الدوليّة، فدَفعتِ العديد من الدّول إلى السّباق للتّسلح بها، فالتَّنافس بين الدّول الكبرى اليوم أصبح قائماً حول امتلاك التكنولوجيا والمَعرفة التقنيّة بجوانبها كافّة (اقتصاديَّة وعسكريَّة وإعلاميَّة... إلـخ). كما أنّ التطوّرات التكنولوجيّة المُتسارعة، طوَّرت معها مفاهيم جديدة للقوّة والأمن والصّراع والحروب وموازين القوى… ليس على صعيد الشّكل فقط، بل المضمون أيضاً.
فالتاريخ البشري شهدَ صراعاتٍ وحروباً كان مركزها جغرافيّاً أرض الواقع، وكانت الأدوات تقليديّة واضحة، فهي مُرتبطة بساحة المعركة بين الخصوم. إلّا أنَّ بروز ثورة المعلومات في القرن التّاسع عشر غيَّر من طبيعة الصّراع والحروب والأدوات، وحتّى المخاطر المحيطة به، وظلَّ هذا الحَقل ينمو باستمرارٍ وصولاً إلى الحربَيْن العالَميَّتَيْن والكوارث التي خلَّفتاها جرّاء استخدام الصناعات التكنولوجيّة العسكريّة وأسلحة التدمير الشامل.
تلك الكوارث استدعت من المُجتمع الدّولي إعادة النّظر في سياسات القوّة والأمن، وإدارة الأزمات الدوليّة، فأَوجدتِ المنظّمات الدوليّة، ومنها الأُمم المتّحدة، وتلك الأخيرة كانت تعبيراً عن التوجُّه نحو النمط التّعاوني في العلاقات الدوليّة القائم على المُنافَسة بين الأطراف بعيداً من الحروب.
إلّا أنَّ حقبة الحرب الباردة وما بعدها، أعادت هيْكَلة مفاهيم الأمن والقوّة في السياسة الدوليّة، فبدأت التكنولوجيا الحديثة تَرسم مساراً جديداً في إطار التّفاعلات بين الدّول وأَخذت طابعاً أكثر تعقيداً، حيث أصبحنا اليوم أمام حروبٍ جديدة بأدواتٍ جديدة كليّاً، تَعتمد على القوّة النّاعمة من تسخيرٍ لتطوُّرات الفضاء الإلكتروني والأقمار وأنظمة الشبكات والذَّكاء الاصطناعي والتطبيقات الرقميَّة الحديثة.
إنَّ الحديثَ عن سباق التسلُّح التكنولوجيِّ، هو المؤشّر على الهاجس التاريخي الذي عاشته البشريَّة من الدول والجماعات والأفراد في الحفاظ على بقائها، في حين ظلّت بعضُ الدّول تسعى نحو التفوّق والهَيْمنة في هذا السّباق، إلى أن وصلنا إلى سباقِ تسلُّحٍ جديد اليوم تخطّى المفاهيم التقليديّة، هو سباق في المعرفة التكنولوجيَّة، وهو سلاحٌ ذو حدَّيْن له وجهٌ مُشرِق وآخر مُظلِم.
لقد خَدمتِ التطوّرات التكنولوجيّة التي عرفها العالَم في النصف الثاني من القرن الماضي المجالَ العسكريّ بشكلٍ كبير، بحيث قلّلتِ الجهد والتكْلفة البشريّة لخَوْضِ الحروب، وأَلغت العاملَ الزّمني والنّطاق الجغرافيّ لنَشْرِ الجيوش وتحضيرها واستعداداتها، وفَرضت أنماطاً قتاليَّةً وفكريَّةً للعقائد العسكريَّة للقرن الحاليّ واستراتيجيّات بناء جيوش المُستقبل، إلّا أنَّه، في المُقابل، لم يتناقَص عددُ ضحايا مآسي الحروب الإنسانيّة، ولم يكُن هذا التطوّر مسألةً إيجابيّة للبشريّة ولأغلب دول العالَم.
فإذا كان عصرُ الحربِ الباردة قد شهدَ سباقَ تسلُّحٍ بَلَغَ ذروته بالتنافُس حول الأسلحة النوويّة، فإنّ بنية النّظام الدّولي المستقبلي تتعلّق بمجالاتِ التّنافسِ الخطير الذي يدور بين الولايات المتّحدة الأميركيّة من جهة، والصّين وروسيا كلّ واحدة منهما على حدة من جهةٍ ثانية، كشريكَيْن لديهما حساسيَّة عالية نحو إعادة ضبْط السّلوك الأميركي في كثيرٍ من المناطق المتوتِّرة والاستراتيجيّة للدَّولتَيْن.
هذا السّباق أو التّنافُس يبدو، من خلال استعراض الأَثَر الذي يُحدثه البُعد التكنولوجي في المجال العسكريّ، خطيراً وغير مضمون النّتائج في ظلِّ الحدود الخارقة التي بلغتها التكنولوجيّات العسكريّة وأنظمة الذكاء الاصطناعي المُرافِقة لها، بخاصّة أنّ هامِش الخطأ ضئيل منذ عهد الأسلحة النوويّة، وأنَّ تعدُّد الأطراف الفاعلة في البيئة الدوليّة تجعل المُستقبلَ مُبهماً وغير مُطَمْئنٍ في الاستعداد لحروبٍ جنودها روبوتات، وأنظمة ذكاء اصطناعي، وتكنولوجيا خارقة، لكنّ الأكيد أنّ ضحيّتها الأولى هو الإنسان.
إنَّ قضايا التكنولوجيا تحتلّ مكانةً رئيسة في التّنافس الدّولي، وخصوصاً في وقتنا الحاضر، وهذا ما أشار إليه المفكّر الأميركي ألفن توفلر في كتابه "تحوّل السّلطة: بين العنف والثّروة والمعرفة"، إلّا أنَّ "الصراع الدوليّ المُقبل سيدور حول المعرفة، وسيكون مسرحه وميدانه عقول البشر وما تحتويه من معلوماتٍ ومعارف". ويرى خبراء آخرون أنّ محور الصّراع سيكون بين الولايات المتّحدة وبقيّة القوى الكبرى.
وبالفعل، أصبحنا اليوم أمام بيئةٍ تكنولوجيَّة عالَميّة معقّدة، وقد دشَّنت التكنولوجيا عصراً جديداً ظَهَرَت فيه ميّزاتها الفاعلة، وخصوصيّتها في صَوْغِ نظريّة جديدة للقوّة والأمن وعمليّة صنْع القرار السّياسي. فقد أَصبح العنفُ والتهديدُ بين الأطراف الفاعلة دوليّاً مقيَّداً بالتكنولوجيّات المُتاحة لهم. كذلك الصراع بين القوى الكبرى بات قائماً على الأبعاد التكنولوجيّة بشكلٍ واضح، وثمّة حروب طاحنة اليوم، توصف أحياناً بأنّها "هادئة"، سببها التنافس على التطوّر التكنولوجي، وتحقيق مزيدٍ من الإنجازات الكبيرة على هذا الصعيد، لأنّ آثارها تعطي مزيداً من التقدُّم على سلّم القوّة العالميّ.
إنّ تدهور البيئة الأمنيّة في العديد من الدول والبلدان في ظلّ وضعٍ دوليّ غير مُنتظم، سرَّع من هذا السّبق، بل دَفَعَ دولاً إلى إعلان التأهُّب ورسْم خطط التسلُّح الجديدة بالتكنولوجيّة العسكريّة عالية الدّقة والفاعليّة.
في الوقت الّذي تُحذِّر فيه تقارير الجهات الدوليّة وإدارة المَخاطر من الأرقام القياسيّة للإنفاق العالَميّ.
ولكن السّؤال هنا لماذا هذا السّباق للتسلُّح؟
يفسّر ذلك "جوزيف كاميللري" بقوله: "حين تشعر الدول بنسبة أقلّ من الأمان، فإنّها تُضاعف جهودها أكثر وأكثر لتكديس الأسلحة في ترساناتها إلى الحدّ الذي يكفي لإخافة العدوّ وردعه، ولكنّ تراكُم القدرات العسكريّة الكبيرة يزيد فقط من الشّعور بعدم الأمن، وهذا ما يؤدّي إلى سباقِ تسلُّحٍ عنيف ومن دون نهاية".
ولو نَظرنا إلى الشّرق الأوسط، فإنّ ظاهرة سباق التسلُّح مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالصراعات والأزمات التي حَدثت في المنطقة منذ سنة 1948 إلى يومنا هذا. ذلك أنّ القاعدة العامّة هي أنّ النّزاعات الدوليّة هي سبب رئيسي، إضافة إلى أسباب أخرى، تَدفع عجلة تسابُق الدول نحو التسلُّح.
ومن هنا يُمكننا أن نَربط مسار الظّاهرة في المنطقة ببعض العوامل منها أوّلاً: تأثير الحروب العربيّة - الإسرائيليّة الأربع في دفْعِ دول الطّوق لإسرائيل نحو سباق التسلُّح وتزايُد النّفقات العسكريّة إبّان فترة هذه الحروب. ثانياً: تأثير حروب الخليج الأولى والثانية والثّالثة على عدم الاستقرار في منطقة الخليج العربي وإيران، وتضاعُف نفقات الدّفاع وسباق التسلُّح على ثلاث جبهات: العراق وإيران ودول الخليج العربي. ثالثاً: الأحداث التي رافَقت ما سمّي "بثورات الرّبيع العربي" وما ترتَّب عليه من عمليّاتِ تسلُّحٍ وإنفاقٍ عسكريٍّ كبير وحديث تكنولوجيا، تلك الأحداث رافقتها تدخُّلات دوليّة وحروب بالوكالة تُذكّرنا تماماً بحقبة الحرب الباردة. واليوم تَمتلك إسرائيل تكنولوجيا حربيّة عالية الدقّة والخطورة حتّى يُمكن وصْفها بوادي سليكون الشرق الأوسط، وبالتالي باتت تهدِّد بقوّتها التكنولوجيّة أمنَ الدول العربيّة مُجتمعةً.
كما أنّ سباق التسلُّح ليس مُقتصراً على الجانب العسكري وحده، ولكن لشدّة خطورته تمَّ التركيز عليه، فهناك سباق تسلُّح تكنولوجي ببُعدِهِ الحضاري المشروع، وهذا يُمكن أن نُسمّيه "سباق تسلُّح تكنولوجي سِلمي" له أهداف اقتصاديّة وتجاريّة وخدماتيّة يعود على الدول المُصنِّعة أو المتطوِّرة وحتّى المُستورِدة بالنَّفع العامّ المرتبط بالتنمية ورفاهية الشّعوب. منها وسائل الاتّصال والتّواصل الحديثة ك5G عبر الأقمار الاصطناعيّة، والانتقال والتنقُّل، وكذلك أنظمة التحكُّم بالمُدن وفي المطارات عبر الذّكاء الاصطناعي، كذلك في مجالات التعليم والبحث، والأهمّ في المجال الطبّي الاستشفائي، وما أَسهَمت به التكنولوجيا من علاجِ حالاتٍ عدّة من الأمراض المُستعصية. كذلك مجال الخدمات في المطاعم والفنادق والمرافق الأخرى. وبالتالي التكنولوجيا وفَّرت علينا الكثير بل أصبحت من أهمّ المجالات العلميّة والبحثيّة.
التّطورات التّكنولوجية والأمن والسّلم الدّوليَّان
إنَّ أهمَّ ما يُميِّز هذه المرحلة جملة من المُتغيّرات المُتسارِعة التي لا تقتصر على المفاهيم الأمنيّة في أطار العلاقات الدوليّة فحسب، بل أيضاً على مجرى التفاعلات في بيئة النّظام الدّولي الجديد الذي باتت تتكشَّف معالمُه، وأقلّ ما يُمكن القول عنها إنّها بيئة فوضويّة ومنظَّمة معاً. تقاطعت المُصطلحاتُ بين الأمن والإرهاب وتلاقتْ أجندات في مشروعات الشّر، وعَلَتِ النّسبيّة مُعلِنَةً ضياع الحقيقة، واستُبدلت الإيديولوجيّات بالمصالح، وزَعْزَع الاقتصادُ معالمَ الأقطاب، وارتبطتِ التّهديداتُ البيولوجيّة بالأمن القوميّ بل الأمن العالَميّ بدلاً من الأمن الدّوليّ، أَخذت الجماعاتُ والأفراد بالقيام بدَورٍ يوازي دَور الدّول، وأَخَذَ الإعلامُ دَورَ صناعة الخبر والتحكُّم به بَدَلَ الاكتفاء بنقْله. وغدا مفهوم الأمن أكثر حداثةً مع بلوغِ ثورة المعلومات نُضجَها لتَحلَّ مفاهيمُ أمن التّقانة والفضاء الإلكتروني محلّ الأمن التّقليدي، بخاصّة مع اشتعال ساحات الصّراع داخل الدول وخارجها، وبروز الصناعات العسكريّة المتطوّرة والمُعتمِدة على التكنولوجيا.
الإنفاق العسكريّ والتّنافُس الدّوليّ
لا تزال صناعةُ الأسلحة وتجارتها تزداد اتّساعاً وتنوّعاً في العالَم، ولا تزال عمليّة الإنفاق والتّنافُس شديدة. حيث يمثّل الإنفاق العسكري عاملاً مهمّاً في التّنافُس الدّولي، وتتنافَس الدّولُ في تطويرِ القدرات العسكريّة لديها وتحسينها لتحقيق الأهداف الاستراتيجيّة المُختلفة، منها ضمان الأمن الوطني والمُشارَكة في الصراعات الدوليّة. وعليه يتأثَّر التّنافُس الدولي بمستوى الإنفاق العسكري لكلّ دولة، وهذا ما يترتَّب عنه تغييرٌ في توازُن القوّة بين الدّول، يَدفع بالضَّغطِ على الدّول لزيادة نفقاتها العسكريّة التّسليحيّة؛ حيث يُواصِل الإنفاقُ العسكري العالَمي ارتفاعاته للعام الثّامن على التوالي مُتجاوزاً 2,224 تريليون دولارٍ أميركيّ لأوّل مرّة في أواخر 2022 بحسب تقرير "معهد ستوكهولم لأبحاث الأمن والسلام الدولي". كما بلغتِ الاستثماراتُ العالميّة في قطاع التكنولوجيا مع نهاية العام 2022 قرابة 4 ترليون دولار بحسب تقريرٍ من شركة IDC للتكنولوجيا.
التكنولوجيا المتقدّمة مدخل للعلوم العسكريّة
يعتمد العالَم في وقتنا الحاضر بشكلٍ كبير على التكنولوجيا بكافّة أشكالها الرّقميّة والفضائيّة لغاياتٍ متعدّدة منها لأغراض سلميّة، مثل الأمن والتعليم والتجارة والصناعة والتّرفيه والاتّصالات والصحّة والخدمات الأخرى المُرتبطة بالبيئة، مثل الأرصاد الجويّة والبحوث الاستكشافيّة للوقاية من الكوارث. ولا يُمكن إنكار أهميّة هذا القطاع وإسهامه في خدمة الإنسان ورفاهيّته، عبر وسائل النّقل والاتّصال والتّواصل بفعل شبكات الإنترنت، التي جعلتْ من عالَمِنا قريةً صغيرة. إلّا أنّه مثل أيّ اختراعٍ بشريٍّ سابق، ولغاياتٍ أخرى، تمَّ توظيفُ هذه الثّورة المعرفيّة التكنولوجيّة لأغراضٍ عسكريَّةٍ بحتة، منها أنظمة المُراقَبة والرّصد والتّجسُّس والاستشعار والاختراق لشبكات العدوّ، كذلك لأنظمة الأمن والاتّصالات والقيادة. ولعلّ الطائرات المسيَّرة لعبت دَوراً في صراعاتٍ عدّة في سوريا، اليمن، أوكرانيا، أذربيجان وغيرها من دول الصراع.
إنّ التقدُّم العلمي- التقني يشكِّل القاعدة الأساسيّة للاقتصاديّات الصّناعية للدول، إذا وظِّف العِلم والتكنولوجيا ليكونا قوّةً إنتاجيّة، كما أنّ القطاع العسكري استخدمَ مُنجزات التقدُّم العلمي/ التقني الرّاهن وأَدخل ما يسمّى بالثورة العسكريّة، ولذلك أصبح يُقال إنّ القطاع العسكريّ هو المُستهلِك الرئيس لمُنجزات التقدُّم العلمي التّقني. وأصبحنا أمام أسلحة تكنولوجيّة متعدّدة منها الأسلحة اللّيزريّة والكهرومغناطيسيّة والفرط الصوتيّة، ناهيك بالأسلحة الفضائيّة والروبوتات القاتلة والفيروسات الرقميّة. حتّى بات يُطلق عليها لقب الثورة في الشؤون العسكريّة RMA (Revolution in Military Affairs).
المُنافَسة الأميركيّة – الروسيّة/ الصينيّة
إنّ المُتتبِّع للأحداث التي يشهدها عصرنا، باتَ يُدرك تماماً أنّ الصّراع القائم بين الدول الكبرى هو حول التكنولوجيا وامتلاكها والسيطرة عليها. فإنّ أبرز ما رافَقَ الطفرة التكنولوجية التي دخلها العالَم مع توسيع استخدام أنظمة المعلومات والتكنولوجيا في العلوم العسكريّة هو تزايُد التوتُّر والسّباق نحو تطوير التّرسانات النوويّة وإدخال أنماطٍ من التحسينات عليها تُعرَف بالذكاء الاصطناعي والأسلحة الذكيّة. بل إنّ هناك مَن يَعتقد أنّ علاقات الرّدع القائمة لا يُمكن المُحافَظة عليها مستقبلاً سوى بالتحكُّم في هذه التكنولوجيا خاصّة بين الولايات المتّحدة الأميركيّة والصّين وروسيا، وبدرجة أقلّ باقي الدول مثل اليابان والهند.
وبالتالي فإنّ الدول التي تَمتلك مفاتيح التكنولوجيا، هي الأقدر على تطوير مواردها واستخدامها بكفاءةٍ لتحقيق أهدافها الاستراتيجيّة، ومن ثمّة فإنّ الدول التي تَفتقر إلى التكنولوجيا المُتقدّمة، ستكون عاجزة عن تطوير مواردها وإمكاناتها، بينما يشكِّل تخلُّفها في الميدان التّكنولوجي عامل تحَدٍّ يَحدُّ من حركتها السياسيّة؛ فالتقدُّم العلمي والتّقني يدعم القدرة العسكريّة للدولة.
ختاماً، إنّ البيئة الأمنيّـة الاستراتيجيّة للدول في عصرنا الحالي، أكثر تعقيـداً وتنافسيَّة مـــن تلك التي كانـــت سائدة فـي الحقب المُنصرمة، إذ أَصبح نطـاق المعـارك المُحتملـة متّسعاً ومتعـــدِّدَ المجـالات، ليشـــمل الســاحات الجويــَّة والبريـَّـة والبحريـَّة والفضائيَّة والإلكترونيّة. كما باتـت القــدرات غير التقليديّة والتسليحيَّة والأمنيَّة موظَّفةً تكنولوجيّاً، وشـــديدة الاختلاط والتداخُـــل، للدرجـة التي جعلـتِ التّمييــزَ بينهـا أمراً معقّداً، وهـو مـا يَجعل التمييز بين أهميّة التكنولوجيا المتقدّمة ومَخاطرها أمراً صعباً للغاية.
إنَّ العالم يقفُ على مُفترق طُرقٍ اليوم، فنظامُه فوضويٌّ وغير مُنتظم، وتقف الإنسانيَّةُ معه على مُفترقاتٍ أخرى تمتلك التكنولوجيا المتقدّمة لتدمير الحياة على كوكبنا، نعم نحن في زمن الحضارة، فقد وصلنا إلى القمر واستقصينا بعُمق في ما وراء نظامنا الشمسيّ. كما طوَّرنا وأوجدنا طرائق لتخزين تريليونات الأجزاء من المعلومات على رقائق السّيلكون، وتمكنَّا من فكِّ شيفرة حمضنا النَّوويِّ، وبلغنا مراحل التّصنيع بالطريقة النّانونيَّة، ومع ذلك، ما زلنا لم نتعلّم كيفيّة العيش بسلام، ولا العيش المُشترَك القائم على العدل والقانون الدّولي واحترام سيادة الدّول، بل حقّ الشّعوب في تقرير مصيرها.
*باحث من سوريا -مؤسسة الفكر العربي