ما وراء الموقف السياسيّ لدول الغرب
حنّا عبّود*
قُبيل نهاية الحرب العالَميّة الثانية كنّا نلحّ على أستاذنا أن يفسّر لنا سببَ رفْضِ فرنسا نظام المَلَكيّة، بعدما نصّبت إنكلترا فيصلاً على هذا القطر، وتتمسّك بالنظام الجمهوريّ، ما دَفَعَ إنكلترا أن تولّيه مَلكاً على العراق. أجابنا أستاذنا في ذلك الوقت: حتّى لا تواجه فرنسا النفوذَ الإنكليزيّ في عقر البلاد المُنتدَبة عليها؛ فالإنكليز في عمّان، ونصيرهم في دمشق، ما يشكّل ضغطاً مباشراً، وهي بغنىً عن ذلك. واقتنعنا، ولم نكُن نعلم أنّ للأردن حدوداً مع العراق، لجهلنا بمعاهدة سايكس بيكو.
كبِرنا وكبرتْ معنا الهمومُ السياسيّة، ولم نَعُد نقتنع بالكلام التفسيريّ من غير أدلّة واقعيّة دامِغة. فبعد الحرب العالميّة الثانية، لم يقع أيُّ عداء أو قتال أو مناجزة بين إنكلترا وفرنسا. السؤال لم يَعُد: لماذا لم تَقبل فرنسا فيصلاً في سورية وقبلتْ به في العراق؟ بل صار السؤال أعمق من ذلك بكثير، لماذا تتمسّك إنكلترا بالنظام الملكيّ، في حين تتمسّك فرنسا بالنظام الجمهوريّ؟ لماذا تُناصر إنكلترا الأنظمة الملكيّة أينما حلّت، في آسيا أو أفريقيا أو أستراليا أو أميركا، فحتّى كندا تنضوي تحت النظام الملكي الإنكليزي؟ وفي المقابل، لماذا ظلّت فرنسا نصيراً قويّاً للنظام الجمهوريّ في بلادها، وفي كلّ البلدان التي دخلتها؟ لماذا أطاح نابليون بعروش البلدان التي غزاها؟ لماذا حوَّلت فرنسا فيتنام إلى جمهوريّة، بينما قبعت مصر تحت الحُكم البريطانيّ منذ منتصف القرن التّاسع عشر حتّى منتصف القرن العشرين، من غير أنّ تغيّر النظام الملكيّ، ومن غير أن تُجبر مصر على إعلان الاستقلال عن الدولة العثمانيّة؟ ماذا وراء هذا الموقف الإنكليزي والفرنسي؟ هل هناك فلسفة معيّنة، أم وقائع ماديّة جرت على الأرض؟
الوقائع التاريخيّة
بعدما دَحَرَ الظاهر بيبرس آخر جيوش الصليبيّين، رجعَ "فرسان الهيكل"، وأيضاً "فرسان الاسبتاريّة"، إلى أوروبا، وبدأ المُتديّنون بتسعير التحضير لحملةٍ جديدة، والتهبت أوروبا من جديد، ولكنّ هذه الحماسة لم تكُن دائماً في الشدّة ذاتها، بل كانت تخفّ وتشتدّ، بحسب الظروف وأوامر رجال الدّين والسياسة. وبالتدريج تراخت هذه الحماسة بعدما تكدّست الأموال في أيدي فرسان الهيكل الذين كانوا يخدمون الباباوات والملوك، ولكنّهم، إلى جانب ذلك، قاموا بمشروعاتٍ مُجزية جدّاً في أرجاء أوروبا، لكنّ المشروعات الكبرى كانت من نصيب إنكلترا، وكانت تُسمّى باسم الهيكل (Temple)، كمحطّة الهيكل، وساحة الهيكل، وسوق الهيكل، وهكذا... لكن بعد بداية القرن الرّابع عشر، عمدَ ملكُ فرنسا فيليب الجَميل، إلى سدّ ضائقته بالاستيلاء على أموال اليهود. وكالعادة اتّهمهم بالكفر، وأنّهم في صَلاتهم يشتمون المسيح. لم تكفهِ هذه الأموال، فطلبَ من البابا أن يُعلِن تكفيرَ فرسان الهيكل، لكنّه رفض أن يتخلّى عن أقرب الموالين له. وانتظرَ الملكُ حتّى مات البابا، فأَجلس بابا جديداً اسمه بنيديكت، فوافق الرجل على ما طلب منه المَلك. وعلى الفور أَمَرَ فيليب باعتقال فرسان الهيكل والتحقيق معهم بتهمة الكفر والبصق على الصليب، وعدم تقديس مريم العذراء... وغير ذلك من التّهم. وفي حملةٍ واحدة اعتقلَ الآلاف من فرسان الهيكل، واعترفوا قسراً بأنّهم كفَرَة فَجَرَة، يكفرون بالمسيح ويقذعون بحقّ العذراء، ويمارسون السحر الأسود... وغير ذلك ممّا يتيح للمَلك مُصادَرة مُمتلكاتهم. وشاعَ ذلك في إنكلترا وأوروبا. اعترفوا، عُذّبوا، أُحرقوا... فشاعَ الرعبُ في العالَم الغربيّ، وبدأت الجمعيّات السريّة بتأسيس الأجهزة المناوئة لسلطتَيْن أساسيّتَيْن، الملوك والباباوات، أي تغيير النظام المَلكيّ وتنحية الدّين عن أيّ عملٍ دنيوي.
كان هذا في فرنسا، حيث وقعتِ الكارثةُ بالفرسان، وظلّت الدعوات السريّة تنتشر إلى أن قامت الثورةُ الفرنسيّة وأطاحت بالنظام الملكيّ. لكنّ الأمر لم يكُن على هذه الشاكلة في إنكلترا، بل اكتفى الإنكليز بمُناوأة السلطة الباباويّة فقط، وبخاصّة بعدما شاهدوا ماذا فَعلت الثورةُ في فرنسا، وهُم النافرون من الثورات، بعدما فعله كرومويل. إنّ الخروج من خَيمة الباباويّة والحفاظ على النظام المَلَكي، بل التشدُّد في ذلك، هو ما سارت عليه إنكلترا.
وفي القرن الخامس عشر، عندما بدأت الاكتشافات الجغرافيّة، وطفقت الدولُ الأوروبيّة تستعمر الخارج، ظلّت الدولتان، فرنسا وإنكلترا، مُحافظتَيْن كلّ واحدة على نهجها. فكلّ ما وصلتْ إليه يدُ فرنسا صارَ جمهوريّاً، وكلّ ما وصلتْ إليه يد إنكلترا بقيَ ملكيّاً، وإن لم تطّرد القاعدة دائماً.
من هذه اللّمحات نَعلم كيف ظهرت التعاليم الجديدة على يد طلائع المفكّرين من أمثال فولتير وروسّو وديدرو وبقيّة الموسوعيّين. كانت تعاليم ثوريّة جدّاً، على عكس التعاليم التي ظهرت في إنكلترا، والتي كانت تدعو إلى إدارة المَملكة إدارةً واعية لتحقيق شيئَيْن أساسيَّيْن: الحفاظ على الوجود البشريّ، والعمل على وقف الأذى الاجتماعي. لذا نعتقد أنّه لا يُمكن أن يظهر في تلك الفترة، جون لوك، ودافيد هيوم، وتوماس هوبز... إلّا في إنكلترا، ولا يُمكن أن يظهر الموسوعيّون، والحركات المُناوئة للمَلك إلّا في فرنسا.
أدّت هذه المواقف إلى ظهور خلافٍ كبير بين المَحفلَيْن: الإنكليزيّ والفرنسيّ، بين المُحافظ والثوريّ، بين الثابت والمتغيّر، ما أدّى إلى كثيرٍ من الصدام بينهما.
الموقف الفلسفيّ
إنكلترا التي ظَهَرَ فيها روجر، وفرنسيس بيكون، ونيوتن، وداروين، وانطلقت منها الثورة الصناعيّة، في القرن الثّامن عشر... لا نظنّ أنّها تركن للأحداث التاريخيّة وحدها. إنّها أعمق من ذلك بكثير. إنّ الثورة الفرنسيّة حادثٌ عابر يُمكنها التغلّب على آثاره السلبيّة، والسلطة الدينيّة يُمكن ترويضها لتكون في يد التّاج البريطانيّ... أمّا النظام الملكيّ، فهو أمر آخر، إنّه الوجود بالنسبة إلى الإنكليز، إنّه النظام الطبيعيّ الذي لا تنازُلَ عنه؛ بل نذهب إلى القول إنّ البحث عن الثابت من القوانين جَعَلَهم يتّخذون الموقف الذي أشرنا إليه. إنّ تقدُّم العلوم، وخصوصاً ما جاء به داروين في علوم الأحياء، أدخل في ذهنهم - قبل أن يظهر عِلم الأحياء التخليقي، والجزيئي، والنمائي، في القرن الحادي والعشرين - أنّ كلّ نظام "يخالف الطبيعة" نظامٌ فاشل.
إنّ دراسة التاريخ في إنكلترا لا تختلف عن دراسة نيوتن للجاذبيّة، ولا عن دراسة داروين للأنواع الحيّة. إنّ البشريّة لم تَعُد تقدِّم شيئاً جديداً في الفلسفة بعد الإغريق. وعجائب الدنيا السبع لا يُمكن أن تتكرّر. ولم يَظهر القانون، ومجلس الشيوخ، والمُستشارون، والوزراء التنفيذيّون... إلّا في ظلّ الملوك، من أيّام حمورابي حتّى القانون الروماني، واللّاحق أَخَذَ من السابق.
عرفتِ البشريّةُ أنظمةً عديدة، لكنّ أطولها وأوطدها هو النظام المَلَكيّ، الذي لا يزال مُستمرّاً حتّى اليوم في الدول المتقدّمة. وقد عزَّزتِ الدراساتُ العلميّة هذا المُعتقَد، فلكلِّ عالَم مَملكة: النحل والنمل والذئاب والنمور والغابة والجبل والصحراء... خُذْ عالَم النحل تَجِدُ نظاماً من أدقّ الأنظمة في الوجود، حتّى أنّه عندما تموت الملكة ولا تَظهر ملكةٌ مكانها تنتهي حياة الخليّة، فيُبعد النحّالون الخليّة ويطلقون ما فيها. وبغياب اليعسوب يضيع شعبها في الشّتات. وعندما لا تكون المؤونة في المَملكة كافية، تأمر الملكةُ بالخلاص من عددٍ محدَّد من الذكور؛ والغريب أنّ تقدير عدد الضحايا يكون صحيحاً، فيكون الاحتياط كافياً حتّى الموسم المُقبل، وهذا حرصٌ على استمراريّة الوجود، ولا علاقة له بـ "الهولوكوست". إنّه نظام الأحياء، حتّى يظلّوا أحياء.
واهتمام عُلماء النحل بهذه المخلوقات فريدٌ من نوعه، حتّى أنّ البريطانيّين حموا إحدى الجُزر التي يُربّى فيها النحل من كلّ العوامل الدخيلة، حفظاً لهذا النّوع الأصيل. وقد عمَّت هذه التجربة في الشرق والغرب. فالوطن شعب بمَلكٍ وعَلَمٍ ونشيد، كما عند النحل في المُعتقد البريطاني.
يؤكّد فرنسيس فوكوياما أنّ الديمقراطيّة التي تتغيّر ألوانها كلّ أربع أو ستّ سنوات، ستعمّ العالَم، ولكنّ صمويل هنتنغتون يرى أنّ الأنظمة البديلة لم تنجح، فمنذ أن دخل السوفييت أفغانستان، وأطاحوا بالمَلك - وكان أعزّ أصدقائهم - لم تعرف أفغانستان الهدوء، ولو لحظة، وبعدما خرج السوفييت تشكَّل وفدٌ كبير وعادوا بالمَلك، فرفض العرش، بعدما كثرت اليعاسيب المزيّفة، وألقى كلمة مؤثّرة: "كلّ شيء تغيّر" "أتمنّى لكم التوفيق بنظامكم الجديد". وهذه أوّل مرّة، بعد بوذا، نَجِدُ مَلكاً يرفض العرش، على الرّغم من مُطالَبة الجماهير.
المُلاحظ أنّ البريطانيّين يميلون إلى الثابت، وليس إلى المتغيّر، ويعتقدون أنّ المتعلّق بالمتغيّر يعلم سلفاً أنّ هذا المتغيّر لا يمكث إلّا قليلاً، كما تفرض ذلك طبيعته، وما التعلّق به سوى تجسيدٍ للسياسة الانتهازيّة، في حين أنّ المتعلّق بالثابت من القوانين يتمسّك به، تجربةً وليس إيماناً مسبّقاً، لا يأبه بالسريع العاجل الذي يشبه التقليعات التي لا تلبث أن تملّها العَين وتنبو عنها الأنظار. وفي المقابل، كان الفرنسيّون مُصرّين على ما وضعته الجمعيّات السريّة الأوروبيّة منذ القرن الرّابع عشر، وهو إقصاء الملوك والباباوات عن إدارة الدولة، بتصوّرٍ فلسفيّ فيه من العموميّة ما يجعله هلاميّاً. إنّ المتشوّقين للتغيير أنفسهم يقرّون صراحة أنّ التّاج البريطاني "آخر تيجان الأرض".
السياسة الأميركيّة
الثورة الأميركيّة وليدة الفكر الأوروبي.. ونتيجة الصراع بين المَحفلين، حمل الفرنسيّون - قبل أن يقوموا بثورتهم - أفكارَ القرن الثامن عشر إلى أميركا، وأرسلوا قائداً عسكريّاً على رأس فيلقٍ للدفاع عن الثورة، وهو الكونت "لافاييت"، الذي سمّيت مدينة باسمه، وشوارع في مُدنٍ أخرى، وقطعت الولايات الأولى الثائرة علاقتها بالنظام البريطانيّ وأقامت نظاماً جديداً، لا يشبه أيّ نظام في أوروبا. وقد مرّت السياسة بثلاث مراحل، ظهر فيها أنّ الأميركيّين لا يؤمنون إلّا بالناحية العمليّة فقط، وقد انطلقت من مبادئ مونرو التي ترى أنّ أميركا فيها من الخيرات ما يكفيها، فهي تغلق على ذاتها حتّى لا تضار بأيّ علاقة مع الدول الأخرى.
لكن عندما ظهر النظام السوفييتي، فتحت أبوابها وراحت تُصادق أيّ دولة تقف إلى جانبها في مُكافحة الشيوعيّة، لا يهمّها نوع النظام، ولا مَن يقوم على رأس هذا النظام، وهي تقدّم المساعدات لقاء موقف هؤلاء "الأصدقاء"... المهمّ إسقاط هذا النظام الجديد، الذي رأت فيه خطراً عليها.
ولكن بعد انهيار الاتّحاد السوفييتي، غيَّرت موقفها وخرجت بنظريّة "الفوضى الخلّاقة"، ومعناها أنّه لا بدّ أن تكون هناك فوضى، أو صراع في هذه البلدان، وصولاً إلى "التصفيات الأخيرة"، وعند ذلك تعقد الاتّفاقيّات مع الجانب المُنتصر الذي يثبت أنّه الأقدر على ضبْط الداخل والالتزام بالمُعاهدات.
ولكن ما كانت لتجهد نفسها وتضع مثل هذه السيناريوهات المُرهقة، لو لم توسّع نظرتها لتُكمِل الهَيْمنة على المسارات العالميّة: "طريق الحرير" وملحقاته. والذرائع لديها كثيرة، منذ الإسكندر الذي أقنعه أستاذه أنّ العالَم لن يستقرّ ما لم ينضوِ تحت لواء ثقافة واحدة، وحتّى كانط الذي رأى أنّه لا خلاص من العنف والفوضى وتحقيق السِّلم، إلّا بقيام حكومة ع..الَميّة. وتأسَّست "عصبة الأُمم"، ثمّ "هيئة الأُمم"، ولكنّهما لم تُقدّما شيئاً ممّا طالب به كانط. يبدو أنّ البشريّة لم تقبض بعد على "الثابت" الذي كان يبحث عنه نيوتن وداروين وأمثالهما. ولا ندري إن كانت البشريّة قادرة على تحقيق ما اقترحه كانط.
*كاتب وناقد من سوريا - مؤسسة الفكر العربي