من يلتسن إلى بوتين..تحولاتُ السياسةِ الخارجيةِ الروسية

news image

 

من التَودُدِ للغربِ إلى عدَاوتِه..و مآلات الصّراع الحاليّ و تبعياتُه على المنطقة العربية


إعداد - مروة شاهين - تقرير خاص "بث":
بعد عقودٍ ملتهبة من الصراع بين عملاقين عالميين بحجم الاتحاد السوفيتي الذي كان يمتد على مساحة ٢٢ مليون كيلومتر مربع في قارتين و يمتلك ترسانة عظيمة من الأسلحة النووية و التقليدية على حد سواء، و بين الولايات المتحدة الأميركية التي ضمت تحت جناحها ما يقرب من اكثر من نصف القارة الأوروبية مشكلةً أصخم حلف عسكري في العالم الا و هو حلف شمال الأطلسي، شهد العالم في نهاية الثمانينات أهم تحول جيوسياسي منذ القرن العشرين و حتى الآن، ألا و هو إنهيار الاتحاد السوفيتي الذي خلف وراءه فراغاً إستراتيجياً كبيراً إضافة الى العديد من الحمهوريات الوليدة، التي بقيت مكشوفة إستراتيجياً و سياسياً و عسكرياً بعد زوال العملاق السوفيتي الذي كان يتحكم بهذه المناطق و يملأ فجواتها على كل المجالات و الأصعدة.
و بعد هذه الفترة الملحمية من تاريخ العالم، وجدت جمهورية روسيا الاتحادية نفسها مثقلة بأعباء و مميزات ورثتها من الإتحاد السوفييتي الذي أفل نجمه بفعل الخلافات السياسية و الإيديولوجية الداخلية إضافة الى الأزمات الإقتصادية، فمن ناحية، كانت روسيا الاتحادية وريثة لتاريخ عظيم للاتحاد السوفييتي كقوة عظمى عالمية بالإضافة إلى ترسانته النووية الضخمة و جيشه المتطور على صعيد الأسلحة التقليدية و الإستراتيجية، و من ناحية أخرى ، ورثت هذه الجمهورية الوليدة ديوناً هائلة عن عاتق الاتحاد المنهار، لكن أبرز ما ورثته روسيا من الإتحاد السوفييتي كان عداوة الغرب، التي لم تستطع روسيا على الرغم من كل محاولات التودد و التنازلات التي قدمتها للغرب أن تزيل عنها وصمة " وريثة إمبراطورية الشر" بحسب التصور الغربي.
 

لم تفلح كافة محاولات يلتسن و سياساته التي تركزت حول التوجه غرباً بنيل الرضا الغربي و ازالة حالة العداء ضد روسيا، حيث فكك روسيا جزءاً من ترسانتها النووية و الصاروخية و خفضت برامج التسلح و فتحت اقتصادها للاستثمارات الرأسمالية و تعهدت بعدم توجيه صواريخها نحو الأراضي الأميركية و لم تقدم على انشاء اي تحالفات عسكرية مع دول الجوار بعد حل حلف وارسو، الا ان كل هذه التنازلات لم تؤتي ثمارها، و أدت في نهاية المطاف إلى اتهام معارضي يلتسن إياه بالخضوع للغرب و بتبديد مصالح روسيا في الداخل و الخارج و الفشل في تبني سياسات خارجية بناءة تجاه الغرب، ما دفع به إلى الاستقالة من منصبه بعد ان كان اول رئيس لروسيا الاتحادية، و تسليم سدة الرئاسة الى رئيس وزراءه فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين.


روسيا الاتحادية في عقدها الأول..لا مفرّ من عداوة الغرب:


خلال فترة رئاسة بوريس يلتسين، التي امتدت من عام 1991 إلى عام 1999، خضعت السياسة الخارجية الروسية لتغييرات كبيرة، مما يعكس التحول المضطرب الذي كانت البلاد تمر به بعد تفكك الاتحاد السوفييتي.
و تميزت سياسة يلتسين الخارجية بتطورها عن المحاولات المبكرة لإقامة علاقة تعاون مع الغرب إلى موقف أكثر حزماً وواقعية، حيث شهدت السياسية الخارجية الروسية في عهده أول محاولة للتعامل مع الغرب على أنهُ جزء من العالم لا على أنهُ عدوٌّ مُطلق، بل أكثر من ذلك، أراد يلتسن أن يجعل من روسيا حليفاً للولايات المتحدة الأميركية في كل المجالات و خاصةً العسكرية منها، بعد أن عرض يلتسن على الولايات المتحدة الأميركية التعاون في مجال الدرع الصاروخي، لكن طلبه هذا قوبل بالرفض من قبل الولايات المتحده ، و فيما يلي سنتعرف على أبرز المحطات التي مرت بها السياسة الخارجية الروسية في عهد يلتسن:

1. السنوات الأولى: طلب التعاون و التوجه غرباً
في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي مباشرة، سعت إدارة يلتسين إلى بناء علاقات ودية مع الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة. وقد اتسم النهج الذي تبناه يلتسين باستعداده لتقبل المساعدات الغربية نظراً لأوضاع روسيا الصعبة إقتصادياً في ذلك الحين، وهو ما تجلى في تعاون روسيا مع صندوق النقد الدولي وغيره من المنظمات الدولية،  واتسم هذا العصر برغبة روسيا في الاعتراف بها باعتبارها لاعباً عالمياً مسؤولاً، ورغبتها في الاندماج في الاقتصاد العالمي.
2. خفض التسلح:
تبنت سياسة يلتسين الخارجية  قبول التعددية السياسية ونزع السلاح،  ولعبت روسيا دوراً بناء في المفاوضات المتعلقة بالحد من الأسلحة وتخفيضها، بما في ذلك اتفاقيات معاهدة خفض الأسلحة الاستراتيجية (ستارت) مع الولايات المتحدة، واعتبرت هذه الجهود بمثابة خروج عن موقف المواجهة الذي اتبعه الاتحاد السوفييتي، ما عكس تحولاً كبيراً في السياسة الخارجية تجاه الغرب مقارنة مع الاتحاد السوفيتي.
3. الصراعات على الجبهة الداخلية
واجه يلتسين العديد من التحديات في الداخل، بما في ذلك الاضطرابات الاقتصادية، وعدم الاستقرار السياسي، والحركات الانفصالية في الدول المستقلة حديثا في الاتحاد السوفياتي السابق، غالبًا ما كانت هذه القضايا الداخلية تحد من مدى قدرته على المشاركة بنشاط في الشؤون الخارجية و قد أدت هذه الأزمات إلى دخول روسيا بحالة من العزلة الدولية ما أدى الى ترك فراغات إستراتيجية في آسيا الوسطى و مناطق النفوذ الروسي السابقة و أتاح المجال لتمدد النفوذ الأميركي في هذه المناطق، وكان تركيز روسيا في كثير من الأحيان موجهاً نحو الداخل، الأمر الذي أعاق قدرتها على التنفيذ الكامل لسياسة خارجية متماسكة.
4. توسع الناتو والعلاقات الغربية
كانت إحدى القضايا الأكثر إثارة للجدل خلال رئاسة يلتسين هي توسع حلف شمال الأطلسي في أوروبا الشرقية، فقد اعتبرت روسيا توسيع حلف شمال الأطلسي تهديدا مباشرا لأمنها واحتجت بشدة ضده، لا سيما بعد حل حلف وارسو و بدء الولايات المتحدة بالتوسع في دول هذا الحلف المحلول، إلى توتر علاقات روسيا مع الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، وكان بمثابة تحول نحو نهج أكثر تصادمية في السياسة الخارجية الروسية.
5. الصراع الشيشاني
كان لحرب الشيشان الأولى (1994-1996) وحرب الشيشان الثانية اللاحقة (1999) تأثير عميق على السياسة الخارجية الروسية، حيث تعرض أسلوب يلتسين في التعامل مع الصراع الشيشاني لانتقادات واسعة النطاق، على المستويين المحلي والدولي، و أثارت هذه الصراعات مخاوف بشأن انتهاكات حقوق الإنسان وتوترت علاقات روسيا مع الدول الغربية، مما ساهم بشكل أكبر في اتخاذ موقف أكثر عدائية في السياسة الخارجية تجاه الغرب، بعد ان تمادت روسيا في الأيام الأولى لعهد يلتسن في التودد للغرب و تقديم التنازلات له على حساب المصالح الإستراتيجية الروسية.
6. ظهور عالم متعدد الأقطاب
ومع اقتراب نهاية رئاسة يلتسين، كان هناك اعتراف متزايد بأن عالم ما بعد الحرب الباردة كان يتطور إلى نظام تعددية الأقطاب، خصوصاً مع ظهور عدة عوامل و مؤشرات على عدم امكانية قيام نظام عالمي مستقر في ظل الأحادية القطبية الأميركية. بدأت روسيا، في عهد يلتسين، في فرض نفسها باعتبارها لاعباً رئيسياً في الشئون العالمية، وخاصة في تعاملاتها مع الدول السوفييتية السابقة في رابطة الدول المستقلة، و مهدت هذه الفترة الطريق لدور روسيا المستقبلي على المسرح العالمي.


في كل الأحوال شهدت رئاسة بوريس يلتسين سياسة خارجية ديناميكية ومتمايزة بشكل كبير عن تلك التي كانت متبعة خلال أيام الاتخاد السوفيتي، وفي حين اتسمت سنواته الأولى في السلطة بمحاولات إقامة علاقات تعاون مع الغرب و تقديم تنازلات مقابل تحسين صورة روسيا أمام المجتمع الغربي و التخلص من ميراث سمعة الاتحاد السوفيتي المعادية للغرب، فإن السنوات اللاحقة شهدت تبني روسيا لموقف أكثر حزماً وواقعية، وخاصة في الرد على توسع منظمة حلف شمال الأطلسي والصراعات الشيشانية، كما إن التراث الذي خلفه يلتسين في السياسة الخارجية الروسية معقد، وهو يعكس التحديات المتمثلة في الإبحار في حقبة ما بعد الحرب الباردة والدور المتطور الذي تلعبه روسيا على الساحة الدولية.


الغرب و استخدامُ البوتينية كحُجةٍ للصراع بديلاً عن الشيوعية السوفيتية:


بعد العديد من المحاولات الروسية التودد للغرب و الإندماج معه و التي يطول الحديث عنها، لم يقبل الغرب فكرة تحول الروس من عدو إلى صديق و حليف، لكن الخصومة مع اي بلد تتطلب عقيدة أو مبادئ معينة لبناء الخصومة على أساسها، و من هنا جاءت البوتينية كركيزة للعداء مع روسيا بدلاً من الشيوعية..
و البوتينية  مصطلح صيغ لوصف الأيديولوجية السياسية وأسلوب الحكم المرتبط بفلاديمير بوتين، ذلك الشاب ذو الخلفية الإستخباراتية الذي استلم سدة الحكم بعد استقالة يلتسن الذي ترك روسيا مع حجم هائل من الديون و الأزمات السياسية و المواجهات مع الحركات الانفصالية في الشيشان و بعض الأقاليم الروسية، بالإضافة الى تراجع   روسيا على صعيد النفوذ و التأثير العسكري خصوصاً في دول الاتحاد السوفيتي السابق، حيث كان للبوتينية تأثير عميق على روسيا ودورها في السياسة العالمية، فإن الغرب الذي يرى في روسيا خصماً تجب مواجهته بهدف عدم السماح له بالنهوض في اي مجال من المجالات حتى لا ينافس النفوذ الغربي، رأى في ما أسماه البوتينية رخصة للمضي قدماً في انتهاج سياسات تطويق روسيا و خنقها إقتصادياً و أمنياً، فما هي الجوانب الرئيسية للبوتينية بالنسبة للغرب؟ و كيف يُسوق الغرب أصولها ومبادئها الرئيسية وتأثيراتها على سياسات روسيا الداخلية والخارجية.


أصول ومبادئ البوتينية في وجهة النظر الغربية
1. الاستبداد:
من الأمور المركزية في البوتينية كما يقدمها الغرب، التركيز القوي على مركزية السلطة وتوطيد السلطة، حيث يقول الغرب ان فلاديمير بوتين سعى باستمرار إلى تعزيز دور الرئاسة الروسية، وغالباً على حساب الفروع الأخرى للحكومة، والحفاظ على قبضته القوية على مقاليد السلطة،  وقد أدى ذلك إلى ظهور نظام سياسي شديد المركزية والاستبدادية في روسيا.
2. القومية:
القومية والوطنية موضوعان أساسيان في البوتينية بحسب المفهوم الغربي، حيث يقولون ان نظام بوتين عمل على تعزيز الشعور بالاستثنائية والفخر الروسي، و التأكيد على أهمية حماية الثقافة والقيم والهوية الروسية،  وقد تم استخدام هذا كقوة موحدة محليًا وكأداة في السياسة الخارجية.
3. المشاعر المعادية للغرب:
وتتميز البوتينية بحسب المفهوم الغربي بالتشكك العميق في نوايا الغرب ونفوذه، و لقد وضع بوتين وحكومته في كثير من الأحيان روسيا كثقل موازن للهيمنة الغربية، وغالباً ما يصورون الغرب كتهديد للمصالح الروسية،  وقد تم استخدام هذه المشاعر المعادية للغرب لتبرير السياسات الخارجية الحازمة.
4. الديمقراطية المدارة:
فبدلاً من تبني المبادئ الديمقراطية بالمعنى الغربي، روجت البوتينية لمفهوم "الديمقراطية الموجهة"، كما يصفها المنظرون الغربيون،  ويستلزم هذا الحفاظ على مظاهر الديمقراطية مع السيطرة في الوقت نفسه على المشهد السياسي لضمان بقاء نظام بوتن في السلطة، وتم تهميش أو قمع أصوات المعارضة.


النظرة الغربية و تحليل البوتينية و أهدافها:
1. توحيد السلطة:ففي ظل زعامة بوتن شهدت روسيا تركز السلطة السياسية في أيدي الرئاسة وضعف المعارضة السياسية. وقد أدت سيطرة مؤسسة الرئاسة على وسائل الإعلام، والقضاء، والعمليات الانتخابية إلى ظهور نظام سياسي شديد المركزية والخاضع للسيطرة.
2. السياسة الاقتصادية:
لقد أشرفت البوتينية على اتباع نهج عملي في التعامل مع السياسة الاقتصادية، وقد ركز النظام على الحفاظ على الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي، إلى حد كبير من خلال إدارة الموارد الطبيعية الهائلة في روسيا، ومع ذلك، أدى هذا النهج أيضًا إلى مزاعم بالفساد ونقص التنويع في الاقتصاد.
3. السياسة الخارجية:
لقد بشرت البوتينية بسياسة خارجية أكثر حزماً وقومية. وتعكس تصرفات روسيا في أوكرانيا وسوريا وموقفها الحازم في علاقاتها مع الغرب هذا النهج. على سبيل المثال، يُنظَر إلى ضم شبه جزيرة القرم باعتباره مظهراً من مظاهر تأكيد البوتينية على حماية المصالح الروسية في ما يسمى بدول الطوق الروسي او دول الاتحاد السوفيتي السابق .
4. المكانة الدولية:
لقد لعبت البوتينية دوراً محورياً في إعادة تشكيل صورة روسيا على الساحة العالمية، لقد أعادت روسيا تأكيد نفسها كلاعب رئيسي في الشؤون الدولية، متحدية هيمنة القوى الغربية وتسعى إلى إنشاء نظام عالمي متعدد الأقطاب، و قد بدأت في ذلك منذ حرب الشيشان في ١٩٩٩ و تستمر بذلك إلى اليوم.


بوتين و انعطافاتُ روسيا..بدايةُ استعادة الإرث الروسي:


شهدت رئاسة فلاديمير بوتين، التي بدأت عام 1999 واستمرت حتى اليوم ، تطورات مهمة في السياسة الخارجية الروسية،  حيث اتسم نهج بوتين في العلاقات الدولية بالاستمرارية مع أهداف السياسة الخارجية السوفيتية والروسية السابقة والرغبة في إعادة تأكيد نفوذ روسيا العالمي، و فيما يلي نظرةٌ توضيحية للسياسة الخارجية الروسية خلال رئاسة فلاديمير بوتين، مع تسليط الضوء على الموضوعات والاستراتيجيات الرئيسية وآثارها.

1. إعادة تأكيد النفوذ الروسي
كانت إحدى السمات المميزة لسياسة بوتن الخارجية هي السعي إلى الاضطلاع بدور أكثر حزماً واستقلالاً لروسيا على الساحة العالمية. وبعد الاضطرابات التي شهدتها فترة التسعينيات، سعى بوتين إلى استعادة نفوذ روسيا في الشؤون العالمية، وقد تجسد ذلك في مشاركة روسيا النشطة في المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة و مجلس الأمن، حيث استخدمت بشكل مستمر حق النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لحماية مصالحها و مصالح الحلفاء السابقين للاتحاد السوفيتي، و معارضة القرارات الأميركية في مجلس الأمن لا سيما قرار التدخل الاميركي في العراق عام ٢٠٠٣.
2. التركيز على التكامل الإقليمي
وقد شهدت رئاسة بوتين تركيزاً على التكامل الإقليمي في منطقة دول الاتحاد السوفييتي السابق لا سيما آسيا الوسطى و البلقان، وعلى الأخص من خلال إنشاء منظمات مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، و رابطة الدول المستقلة و منظمة شنغهاي للتعاون، ويهدف هذا التركيز على التكامل الإقليمي إلى تعزيز نفوذ روسيا الاقتصادي والسياسي في البلدان المجاورة لها.
3. دبلوماسية الطاقة
لقد تم استغلال موارد الطاقة الهائلة في روسيا كأداة للسياسة الخارجية خلال فترة ولاية بوتين، وقد لعب قطاع الطاقة دوراً محورياً في تشكيل علاقات روسيا مع أوروبا، وخاصة من خلال إمدادات الغاز الطبيعي و ما تبعها من مشاريع هامة كمشروع خط نورد ستريم ٢. وقد أعطى هذا لروسيا نفوذاً كبيراً في البلدان التي تعتمد على الطاقة، وقد تم استخدامه في بعض الأحيان كأداة سياسية مثل ما حدث في حرب أوكرانيا الأخيرة.
4. سياسات الدفاع والأمن
كما اتسمت سياسة بوتين الخارجية أيضاً بالتركيز على الدفاع والأمن، لقد استثمرت الحكومة الروسية بكثافة في تحديث جيشها، مما سمح لروسيا بتأكيد نفسها في صراعات مثل ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014 وتدخلها في سوريا، و لقد أدى انبعاث القوة العسكرية الروسية إلى تغيير ديناميكيات الأمن العالمي خصوصاً في الشرق الاوسط.
5. الصراعات الجيوسياسية
كانت إحدى أبرز سمات سياسة بوتين الخارجية هي تورط روسيا في الصراعات الجيوسياسية، حيث أدى ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014 والصراع المستمر في د أوكرانيا إلى توتر علاقات روسيا مع الغرب، كما كان التدخل الروسي في سوريا لدعم نظام الأسد مصدرا للتوتر مع القوى الغربية.
6. الموقف الحازم من الغرب
تحت قيادة بوتن، تبنت روسيا موقفاً حازماً على نحو متزايد في التعامل مع الغرب، وتدهورت العلاقات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بشكل كبير، مع فرض العقوبات على روسيا والشعور المتزايد بالتنافس، ويرتبط هذا التوجه الجازم برؤية بوتن لروسيا باعتبارها قوة موازنة للهيمنة الغربية.
7. النظام العالمي المتعدد الأقطاب
لقد دعا بوتين باستمرار إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب، حيث تلعب روسيا دورا بارزا إلى جانب القوى العالمية الأخرى، في مواجهة ما يعتبره هيمنة غربية. وقد أثرت هذه الرؤية على النهج الذي تتبناه روسيا في التعامل مع المؤسسات العالمية والعلاقات الدولية.
باختصار، اتسمت رئاسة فلاديمير بوتين بنهج متعدد الأوجه في التعامل مع السياسة الخارجية، والذي يجمع بين عناصر الاستمرارية مع أهداف السياسة الخارجية السوفيتية والروسية  و استعادة امجاد روسيا القيصرية، والدافع لإعادة تأكيد نفوذ روسيا العالمي،  وكان التركيز على التكامل الإقليمي، ودبلوماسية الطاقة، والسياسات الدفاعية، جنباً إلى جنب مع المواقف الحازمة في التعامل مع الصراعات الجيوسياسية و منها توسع حلف شمال الأطلسي، سبباً في إعادة تشكيل الدور الذي تلعبه روسيا على الساحة الدولية.


سياساتُ التحوّل عن التوجه غرباً.. البحث عن شركاءٍ في الشرق:


ان صراع الهوية الذي تولد بعد نشأة روسيا الاتحادية حول كونها دولة أوروبيةً او آسيوية، تمت الإشارة اليه في شعار الدولة الروسية الذي يظهر فيه نسران واحد ينظر الى الشرق و الآخر ينظر الى الغرب، في إشارة الى ان روسيا دولة أوروبية و آسيوية في آن معاً، و هو ما اصطلح على تسميته بالأوراسية، في إشارة الى الجمع بين آسيا و أوروبا في آن معاً.
و بعد ان اقتنعت روسيا خلال عهد يلتسن بفشل السياسات التوجهية نحو الغرب وحده، و ضرورة الموازنة بين العلاقات مع الشرق و الغرب في آن واحد، بدأت روسيا تبحث عن شركاءٍ لها في دول الجوار القريب، لإعادة التوازن للعلاقات الروسية الخارجية، و تعزيز مصالح روسيا في القارة الآسيوية، و من هنا كان التوجه الروسي الأساسي في آسيا نحو الصين و الهند.
و كانت السياسة الخارجية الروسية في التعامل مع الصين والهند، وهما من الدول الأكثر سكاناً ونفوذاً في العالم، تشكل عملية توازن دقيقة و شاملة، و  لقد تطورت علاقات روسيا مع البلدين بشكل كبير على مر السنين، متأثرة بالعوامل التاريخية، والديناميكيات الإقليمية، والجغرافيا السياسية العالمية، و ان عهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تطوراً كبيراً في سياسة روسيا الخارجية تجاه الصين والهند، فكيف كانت  الديناميكيات والتداعيات الرئيسية لهذه العلاقات؟

السياسة الخارجية الروسية تجاه الصين
1. الروابط التاريخية:
تتمتع العلاقات الروسية الصينية بتاريخ طويل، يتسم بفترات من التعاون والتنافس، حيث أدى الانقسام الصيني السوفييتي خلال الحرب الباردة إلى توتر العلاقات، ولكن منذ أواخر القرن العشرين، كان هناك تحسن ملحوظ وكانت المصالح المتبادلة هي العامل الرئيسي في رسم العلاقات الروسية الصينية، وخاصة في مواجهة النفوذ الغربي، حيث كان هو الدافع الاساسي وراء التعاون.
2. الشراكة الإستراتيجية:
حيث تؤكد دائماً روسيا والصين أن علاقتهما "شراكة استراتيجية"، وتشمل هذه الشراكة التعاون الاقتصادي والتعاون العسكري والتوافق بشأن القضايا العالمية مثل معارضة الأحادية ودعم التعددية القطبية، والجدير بالذكر أن البلدين انخرطا في مناورات عسكرية مشتركة لا سيما في بحر الصين الجنوبي و دول آسيا الوسطى، كما تجدر الإشارة إلى زيادة مبيعات الأسلحة و التعاون العسكري بين البلدين خلال العقدين الماضيين.
3. التعاون في مجال الطاقة:
وتلعب الطاقة دورا حاسما في الشراكة الروسية الصينية، وتعد روسيا موردا هاما للنفط والغاز الطبيعي للصين، وهو ما يخدم مصالح البلدين، و يعطي روسيا موقعاً مؤثراً في السياسة الصينية، وقد عزز هذا التعاون في مجال الطاقة العلاقات الاقتصادية والسياسية و العسكرية.
4. الاهتمامات الإقليمية:
تشترك كل من روسيا والصين في المخاوف بشأن النفوذ الأمريكي في منطقة آسيا الوسطى والمحيط الهادئ، و لقد سعوا إلى موازنة الوجود الأمريكي وعملوا معًا في منظمات مث منظمة شنغهاي للتعاون لتعزيز مصالحهم في آسيا الوسطى و البلقان ز الشرق الأقصى.

السياسة الخارجية الروسية تجاه الهند
1. العلاقات التاريخية:
تشترك روسيا والهند في علاقة تاريخية قوية ودائمة، خلال الحرب الباردة، كان الاتحاد السوفييتي حليفًا رئيسيًا للهند، وقد استمرت هذه الرابطة التاريخية في تشكيل شراكتهما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي و قيام روسيا الموحدة.
2. الدفاع والتكنولوجيا:
إن أحد الركائز الأساسية للعلاقات الروسية الهندية هو التعاون في مجال الدفاع والتكنولوجيا، حيث تعتبر الهند واحدة من اوائل الدول في العالم في مجال العلوم والهندسات الالكترونية و الصناعية ، وكانت الهند مشترٍ رئيسيّ للأسلحة الروسية، وتعاون البلدان في مشاريع دفاعية مختلفة، وقد عزز دور روسيا كمورد دفاعي مكانتها كشريك استراتيجي للهند.
3. التعاون الاقتصادي:
ولم يكن التعاون الاقتصادي بين روسيا والهند قوياً مثل قطاعي الدفاع والجيش، و لكن أدرك كلا البلدين الحاجة إلى تنويع علاقاتهما الاقتصادية، لكن التقدم كان أبطأ مقارنة بالتعاون الدفاعي والتكنولوجي.
4. التوافق على القضايا العالمية:
غالباً ما تتفق روسيا والهند حول القضايا العالمية، بما في ذلك دعم نظام عالمي متعدد الأقطاب، ومعارضة الأحادية، والجهود المشتركة في المنظمات الدولية، كما أنها تتعاون ضمن مجموعة البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) لتعزيز نفوذها في الحوكمة العالمية.


التحديات والتداعيات:


تشكل موازنة العلاقات مع كل من الصين والهند تحديات كبيرة  للسياسة الخارجية الروسية، ويتعين على روسيا أن تبحر في المنافسة الاستراتيجية بين هذين البلدين مع الحفاظ على مصالحها وسيادتها. علاوة على ذلك، فإن المصالح الأمريكية المتنامية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ تزيد من تعقيد هذه الديناميكيات.
إن العواقب المترتبة على علاقات روسيا مع الصين والهند تمتد إلى ما هو أبعد من العلاقات الثنائية. إن تعاون روسيا مع هؤلاء العمالقة الآسيويين يعزز مكانتها ونفوذها العالمي، وفي الوقت نفسه، تساعد هذه العلاقات كلاً من الصين والهند في جهودهما الرامية إلى موازنة الهيمنة الغربية و تحقيق دور أقوى لبدانهما على الساحة العالمية، مما يعزز العلاقات الثنائية مع روسيا على أساس المصالح المشتركة.

 

العودة الروسية إلى الشرق الأوسط..إعادة الارتباط الاستراتيجي:


شهدت السياسة الخارجية الروسية تجاه الشرق الأوسط انتعاشاً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، مما يدل على إعادة الارتباط الاستراتيجي مع المنطقة، و يرمز هذا التحول إلى طموح روسيا لاستعادة دور بارز في الشؤون العالمية وموازنة نفوذ القوى الغربية في الشرق الأوسط،مما يستدعي التعمق في الجوانب الرئيسية للسياسة الخارجية الروسية في الشرق الأوسط، والقوى الدافعة وراءها، والآثار المترتبة عليها في الساحة الإقليمية والعالمية.

 

السياق التاريخي


تتمتع روسيا بتاريخ طويل من التدخل في الشرق الأوسط، يعود تاريخه إلى العصر الإمبراطوري واستمر خلال الحرب الباردة، فخلال الحرب الباردة، أقام الاتحاد السوفييتي تحالفات مع دول شرق أوسطية مختلفة أهمها مصر و سوريا و قد تمثل هذا التحالف في دعم السوفيات لهذه الدول خلال الحروب العربية الإسرائيلية، لكن هذه العلاقات تضاءلت مع انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991. وفي أوائل فترة ما بعد الاتحاد السوفييتي، تضاءل نفوذ روسيا في المنطقة بشكل كبير، حيث ركزت روسيا بشكل كبير على مشكلاتها الداخلية ، و مع ذلك، شهد أوائل القرن الحادي والعشرين اهتمامًا متجددًا بالشرق الأوسط.
الجوانب الرئيسية للسياسة الخارجية الروسية في الشرق الأوسط

1. موازنة النفوذ الغربي:
أحد الدوافع الرئيسية لانخراط روسيا في الشرق الأوسط هو رغبتها في موازنة الهيمنة الغربية في المنطقة، وترى روسيا نفسها لاعباً حيوياً في تشكيل مستقبل المنطقة وكثقل موازن للولايات المتحدة وحلفائها.
2. المشاركة العسكرية:
كان التدخل العسكري الروسي في الشرق الأوسط سمة مميزة لسياستها،  ويعد التدخل في سوريا، الذي بدأ في عام 2015، مثالا واضحا على ذلك، إضافة الى التدخل العسكري في ليبيا، حيث إن الوجود العسكري الروسي لم يحمي مصالحها الاستراتيجية فحسب، بل عزز أيضاً نفوذها في السياسة الإقليمية.
3. دعم الأنظمة المعادية للغرب:
لقد أبدت روسيا استعدادها للتعامل مع الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط، بغض النظر عن سجلاتها في مجال حقوق الإنسان. ويعطي هذا النهج الأولوية لجهود الاستقرار في المصالح الإستراتيجية الروسية على الإصلاحات الديمقراطية، و قد ظهر هذا جلياً من خلال الدعم الروسي العسكري لنظام الأسد في سوريا.
4. دبلوماسية الطاقة:
إن التعاون في مجال الطاقة يشكل جانباً حيوياً من سياسة روسيا في الشرق الأوسط.د، فالمنطقة موطن لاحتياطيات كبيرة من النفط والغاز الطبيعي، وقد سعت روسيا إلى تأمين شراكات واستثمارات في مجال الطاقة مع دول الشرق الأوسط الرئيسية، لا سيما بعد الاحتياطات الهائلة من الغاز التي تم اكتشافها مؤخراً في شرق المتوسّط.
5. المشاركة الدبلوماسية:
اتبعت روسيا دورًا دبلوماسيًا في صراعات الشرق الأوسط، وخاصة في سوريا، حيث حاولت وضع نفسها كوسيط وميسر لحل النزاعات، وقد أدى ذلك إلى استضافة روسيا لمفاوضات تضم مختلف الجهات الفاعلة الإقليمية والعالمية حول الملف السوري، و أهمها مؤتمر سوتشي.

إعادة الانخراط الروسي في الشرق الأوسط كان له آثار عديدة آثار عديدة على خريطة التوازنات في المنطقة، أهمها:

1. التحول في ديناميكيات القوة الإقليمية:
لقد أدى التدخل الروسي إلى تغيير ديناميكيات القوة الإقليمية، حيث أصبحت موسكو الآن لاعباً رئيسياً في صراعات متعددة ومبادرات دبلوماسية،  وهذا له آثار على النظام الإقليمي وجهود صنع السلام.
2. التأثير في الصراعات الإقليمية:
كان لانخراط روسيا العسكري والدبلوماسي في صراعات الشرق الأوسط تأثير كبير على مسارات هذه الصراعات، على سبيل المثال، عزز دعمها للحكومة السورية بشكل كبير موقف النظام السوري و أخرج الأراضي السورية في معظمهما من دائرة النفوذ الأميركي.
3. الجغرافيا السياسية للطاقة:
وتتمتع صفقات الطاقة التي أبرمتها روسيا مع دول الشرق الأوسط بالقدرة على إعادة تشكيل أسواق الطاقة العالمية، خاصة في ضوء احتياطيات المنطقة من النفط والغاز، و هذا واضح من خلال تواجد روسيا على سواحل البحر المتوسّط عسكرياً عبر الساحل السوري، و مفاوضات أنابيب الغاز نحو الشرق الاوسط مروراً بتركيا عبر خطوط ترك ستريم.
4. تعزيز المكانة العالمية:
لقد ساهمت سياسة روسيا في الشرق الأوسط في تعزيز مكانتها العالمية،  لقد سمح لروسيا بتأكيد نفسها كقوة متعددة الأقطاب وعززت نفوذها الدبلومااسي على الساحة الدولية من خلال إعادة فرض نفسها كقوة مؤثرة في أهم منطقة جيواستراتيجية في العالم الا و هي الشرق الاوسط.
وفي الختام فإن السياسة الخارجية التي تنتهجها روسيا في التعامل مع الشرق الأوسط تمثل إعادة ارتباط استراتيجي يهدف إلى إعادة ترسيخ دورها باعتبارها لاعباً عالمياً مهماً، وترتكز هذه السياسة على اعتبارات استراتيجية وجيوسياسية مختلفة ولها آثار بعيدة المدى على ديناميكيات الشرق الأوسط والمشهد العالمي الأوسع، ومع استمرار روسيا في الاضطلاع بدورها في المنطقة، فإن تأثير مشاركتها سيكون عنصراً حاسماً في تشكيل مستقبل الشرق الأوسط.


الهيمنةُ الغربية و صناعة الأعداء:


ان الحرب الباردة التي بدأت مع إعلان رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل عن مبادرة الستار الحديدي في عام ١٩٤٦ و انتهت مع انهيار الإيديولوجية الشيوعية و إعلان بوريس يلتسن و جورج بوش الأب عن نهاية الحرب الباردة رسمياً في قمة كامب ديفيد عام ١٩٩٢، لم تلبث ان عادت لتلوح بظلالها على العالم من جديد بكل تداعياتها المتمثلة بسباق التسلح الذي عاد الآن ليزدهر لا سيما مع تطور الصناعات العسكرية للدول الكبرى و إعلان روسيا انسحابها من معاهدة حظر التجارب النووية، إضافة الى إعادة تغذية حروب الوكالة من جديد في اكثر من بقعة في العالم أهمها أوكرانيا و سوريا، لكن ما يميز هذه الحرب عن سابقتها، هو كونها بين دولتين أو مجموعتين من الدول في شرق العالم و غربه، و ليست بين إيديولوجيتين كما في السابق..
و ان كانت الحرب الباردة السابقة قد انتهت مع انهيار الاتحاد السوفييتي السابق و إعلان هزيمة الإيديولوجية الشيوعية، فما هو الحدث الذي يمكن ان يشكل نهاية الحرب الباردة الحالية؟
ان الصراع اليوم ليس حول إيديولوجيات معينة، فلا رأسمالية و لاشيوعية في الصراع، بل هناك شرق و غرب، و كتل و مجموعات دولية تحاول تغيير النظام العالمي لأخذ موقع هام على الساحة العالمية، للخلاص من سيطرة الولايات المتحدة الأميركية و هيمنتها على مفاصل النظام الدولي.
لكن الهدف الروسي الأول من كل هذه التحركات ، هو ازاحة وصمة الهزيمة عن روسيا، التي لا يزال الغرب يتعامل معها على إنها خرجت مهزومة من الحرب الباردة، بينما الغرب هو الطرف المنتصر، بالإضافة الى رد اعتبار روسيا كدولة لها تاريخ عريق، دون ان يعني ذلك بالضرورة مواجهة مباشرة و حتمية مع الولايات المتحدة الأميركية.
و ان روسيا التي لم توفر جهداً خلال سنينها الأولى لكسب ود الغرب و درء عداوته، كانت تريد العودة إلى سابق عهدها كجزء من الحضارة الغربية ، حيث كانت روسيا القيصيرية تاريخياً حليفاً للغرب ضد الممالك الشرقية و الألمانية، و قد دخلت روسيا القيصرية بالفعل إلى الحرب العالميه الاولى الى جانب الحلفاء ضد دول المحور، قبل ان تنسحب إثر الثورة البلشفية عام ١٩١٧، ليكون ذلك آخر عهدها كدولة تشكل جزءاً لا يتجزأ من الحضارة الغربية.
لكن الغرب و خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، الذي ما لبث ان قضى على النازية حتى اتخذ من الشيوعية عدواً له، لكن المفارقة كانت انه حتى بعد انهيار الإيديولوجية الشيوعية السوفيتية، لم ينهِ الغرب عداءه لروسيا، بل زاد في توسيع حلفه العسكري لتطويقها، خوفاً من نهوض اي قوة قد تهدد سيادة الغرب على العالم، فسرعان ما ذهب الغرب إلى اختراع مفاهيم جديدة لبناء الخصومة مع روسيا، كالبوتينية و التوسعية الروسية.
و الحقيقة أننا لسنا بصدد التنديد بسلوك الغرب او شجبه، و إنما نطرح التساؤل الذي لا يسعنا ان لا نطرحه، ألا و هو كيف يُحدد الغرب معايير خصومته و عداواته؟ و هل بالفعل كانت روسيا في عهد يلتسن و أوائل عهد بوتين تشكل خطراً على الغرب و الولايات المتحدة الأميركية، أم ان السلوك التعجرفي للولايات المتحدة كرابح الحرب الباردة و القطب الأوحد في العالم قد دفع بروسيا و غيرها من الدول المناوئة للولايات المتحدة إلى انتهاج سياسات معادية للتصورات الغربية التي تتمحور حول الهيمنة و منع اي دولة او جهة دولية من مخالفة وجهة النظر الأميركية و إلا تم اعتبارها كدولة مارقة و خارجة على النظام العالمي الذي نصبت الولايات المتحدة الأميركية نفسها عليه كإمبراطور لا يحق لأحد ان ينازعه على ملكه.
و ان كانت هذه الفرضية صحيحة، فإن الخطورة تكمن في أن محاولات دولنا العربية و الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط النهوض إقتصادياً و سياسياً نحو تحقيق الإستقلال و رفاهية الشعوب بالإضافة إلى تنويع العلاقات الإقتصادية و السياسية مع دول العالم بمن فيها الدول المناوئة للهيمنة الغربية، يُنظر إليها من قبل الولايات المتحدة على إنها محاولات للخروج على الزعامة الأميركية للعالم، على الرغم من اعتبار الكثير من دول المنطقة أنفسهم حلفاء مخلصين للغرب و يتوقعون منه ان يبادلهم المثل، و هنا لا يسعنا إلا أن نسأل أنفسنا، إذا انتهت الولايات المتحدة من حربها الباردة -والتي يمكن ان تتحول إلى حرب ساخنة-مع روسيا و دول الشرق الاقصى و خرجت منتصرة، و بما ان الغرب و خصوصاً الولايات المتحدة يتغذى سياسياً من خلال تصوير طرف دولي معين على انه عدو يتربص بالشر للولايات المتحدة و كل ما تمثله من قيم غربية، فهل ستتجه الأنظار الأميركية نحو صناعة عدو جديد متمثل بالدول العربية و الشرق أوسطية مع كل ما تمثله هذه الدول من اختلافات حضارية و دينية و ثقافية مع الغرب؟ ..