لِماذا تُصّرُ إسرائيل على المعركة البرِّية؟ و كيفَ يُشكّلَ التصعيدُ فُرصةً ذهبيّة للولايات المتحدة؟ :

news image

اعداد- مروة شاهين - تقرير خاص "بث" :

منذ بدء المعركة المحتدمة بين غزة و إسرائيل في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، بدأت تتصاعد دعوات احتواء الصراع و الحرص الشديد على عدم توسيعه ليشمل أقاليم أخرى في المنطقة غير غزة و الأراضي الفلسطينية المحتلة، و لعل المسؤولين الأميركيين كانوا أبرز المناشدين بضرورة عدم توسيع رقعة الصراع، فضلاً عن تحذير "الأطراف الأخرى" من محاولة الاستفادة من الأجواء المشتعلة في فلسطين التي تعتبر بالمعنى الجيو-إستراتيجي بوابةً للشرق الأوسط. 
و إذا تعمقنا قليلاً في مجريات الأحداث و تبعياتها، نجد أن الأميركيين و كأنما يتحدثون إلى أنفسهم، و لعلّ المثل الشعبي المصري "الشتيمة تلف و ترجع لصاحبها" ينطبق هنا على الحالة الأمريكية مع تغيير بسيط "التهديد يلف و يرجع لصاحبه"، فلا أحد يستفيد و يُريد توسيع رقعة الصراع و استثمار الأجواء التصعيدية في المنطقة أكثر من الأميركيين.


قصفُ غزّة و ترهيبُها عِقابٌ كافٍ..فلِماذا الاجتياحُ البرّي؟:


إذا نظرنا من وجهة النظر العسكرية، فإن قيام إسرائيل بمحاصرة غزة لفترة طويلة مع استمرار القصف و العمليات العسكرية و قطع الإمدادات التي ممكن أن تساعد في إعادة بناء القدرات العسكرية التي تخسرها حركة حماس مع مرور الوقت، ستكون قادرة لوحدها مع مرور الزمن على تحقيق الأهداف العسكرية الإسرائيلية المتمثلة بالقضاء على القدرات العسكرية لحركة حماس و شل قدرتها على شن هجوم مستقبلي مماثل لهجوم السابع من أكتوبر من دون اللجوء إلى الغزو البري ، و يمكن أن نُثبت وجهة نظرنا هذه من خلال البراهين الآتية:

١-  إن التصريحات الإسرائيلية حول القضاء على حماس بشكل نهائي، أي أن لا يكون هناك حركة حماس على الإطلاق، هدفٌ لا يُمكن تحقيقه  حتى و لو غزت إسرائيل قطاع غزّة برياً، لأن حماس ليست منظمة ذات فكر خاص متمايز عن غيرها من المنظمات التي تتخذ من المقاومة المسلحة سبيلاً لها، و لذلك فإن أغلب سكان القطاع بنسبة هم بطبيعة الأمر من مؤيدي حركة حماس، لا لشيئ خاص بها، بل لأنهم مؤيدون للمقاومة المسلحة التي تقوم بها حماس، و لهذا فإن القضاء على حماس بالكلية يعني القضاء على ما يقرب من ٦٠ بالمئة على الاقل من رجال القطاع، أي ٧٠٠ ألف نسمة، و هذا أمر مستحيل الحدوث، و بالتالي فإن أكبر هدف ممكن ان يحققه الكيان الصهيوني هو القضاء على قدرات حماس لا على حماس.

٢-إن تشديد الحصار و فرض رقابة مشددة على منافذ القطاع البرية و البحرية و التحت أرضية -أي الأنفاق- يمكن أن يؤدي إلى قطع إمدادات السلاح و المواد اللازمة لتصنيع الصواريخ و منصات الإطلاق و الطائرات المسيرة، و هذا بدوره يمكن أن يؤدي إلى نفاذ المخزون العسكري لا لحماس فقط بل لكافة الفصائل الفلسطينية المسلحة المتواجدة في قطاع غزة نظراً للاستنزاف الكبير للمخزونات العسكرية سواء عبر استعمالها في المعارك أو القصف، ما يعني بالضرورة القضاء على القدرات العسكرية لحماس مع مرور الوقت.

٣-إن حجم الخسائر البشرية و المادية التي تكبدتها حركة حماس و غزة، ستكون رادعاً مستقبلياً لأي خطط قد تنفذها الفصائل الفلسطينية، فإنه قد ظهر جلياً أن حركة حماس لم تتوقع أن يكون الرد الإسرائيلي بهذا الحجم، و كان التعويل على أن عدد الأسرى الكبير بيد حركة حماس سيُجبر إسرائيل على تقييد ردها العسكري و الجلوس سريعاً إلى طاولة المفاوضات و هذا ما لم يحدث، و قد رأينا حركة حماس تعرض تسليم عدد من الأسرى و في بعض الأحيان جميع الأسرى المدنيين مقابل وقف إطلاق النار، و هذا يعتبر تراجعاً في نبرة الخطاب بالنسبة لبداية المعركة حيثُ كانت نبرة الخطاب من غزة أعلى نسبياً من الوقت الحاضر.

و هكذا، يتضّحُ أن الأهداف العسكرية الإسرائيلية في غزة يمكن أن تحقق عبر ما تقوم به من الاستخدام المكثف لسلاح الجو و غيره من الأسلحة غير القتالية كالحصار و الاستخبارات، و لهذا فإن الغزو البري يحتمل أهدافاً أخرى غير معلنة، أهمها تهجير سكان القطاع لجلب المستوطنين اليهود مكانهم، و استفزاز كافة الفصائل الفلسطينية و غير الفلسطينية المعادية لإسرائيل في الداخل والخارج لاتخاذ ذريعة لشن عمليات عسكرية إسرائيلية في داخل الأراضي الفلسطينية و خارجها لتنفيذ إستراتيجية الأمن الإسرائيلي التي تعتمد على القضاء على أي قدرات عسكرية لأي فصيل معادٍ لإسرائيل، و أيضاً استفزاز الضفة الغربية لشن عمليات تهجير و توسيع الاستيطان اليهودي كما حصل بعد انتفاضة العام ٢٠٠٠.
و لكنه من المعلوم أيضاً، أن إسرائيل ليست سوى أداة وظيفية و قاعدة عسكرية  متقدمة للغرب في بوابة الشرق الأوسط، و لهذا فلا بد من تطابق الخطوات و الخطط الإسرائيلية مع المصالح الغربية و إلا فلن تلقى إسرائيل دعماً غربياً يساعدها في تنفيذ خططها العسكرية، و هذا التطابق في المصالح بين الولايات المتحدة الأمريكية و إسرائيل بشأن العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة واضح من خلال الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل في هذه الخطوة عبر التغطية السياسية و الدبلوماسية و إرسال حاملات الطائرات و بطاريات الدفاع الجوي و الذخائر اللازمة إلى إسرائيل.


المصالحُ الأميركية و الإسرائيلية.. تشابكٌ عضويّ و إستراتيجيّ:


إنه إذا كان من المؤكد وجود مصلحة أميركية إسرائيلية مشتركة من العملية العسكرية البرية في غزة و ما سيترتب عليها من تداعيات، فإنه من الضروري الغوص في تحليل الأهداف الأميركية من التحركات في الشرق الأوسط، و في سياق الدخول إلى صلب التفكير الأميركي بشأن تداعيات التصعيد في الشرق الأوسط و ما يحمله من مكاسبٍ و أخطار، نستهلُّ تحليلنا بما ورد موقع أكسيوس الأميركي المعروف بقربه من الإدارة الأمريكية و الاستخبارات، حيثُ جاء في تقرير نُشِر في الموقع  بعنوان "خلف الستار.. ما وراء إستراتيجية بايدن البطيئة في الشرق الأوسط" و ترجمته وكالة "بث" : "أخبرنا المسؤولون الأمريكيون أن الرئيس بايدن، على الرغم من دعمه الكامل لإسرائيل وحقها في ضرب حماس، قام بشكل منهجي ودقيق بتأخير الغزو الوشيك لغزة" .
و اعتمد بايدن في ذلك على زيارات رفيعة المستوى (بما في ذلك زيارته الخاصة)، ودعم عسكري ودعم شعبي لكسب الوقت في غزة. وأوضح أيضًا أن أمريكا لا تريد أن تتصرف إسرائيل بشكل متهور، أو دون أخذ مخاوف الولايات المتحدة في الاعتبار، بحسب ما ورد في التقرير.
و بحسب الموقع تنبع استراتيجية المشي البطيء من خمسة مخاوف استراتيجية، كما أخبرنا المسؤولون الأمريكيون وخبير الشرق الأوسط في أكسيوس باراك رافيد.
ويريد بايدن تسليم المزيد من المساعدات لأكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، للحد من الأزمة الإنسانية وردود الفعل العالمية العنيفة.
وهو يريد أن يخرج ما يقدر بأكثر من 500 مواطن أمريكي محاصرين في غزة قبل اشتداد القتال. ويقول المسؤولون إن ستة محاولات لإخراجهم منذ هجوم حماس باءت بالفشل، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن حماس منعت الأمريكيين من المغادرة.
فهو يحتاج إلى مزيد من الوقت لتعزيز الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط، نظرا للمخاوف المتزايدة من قيام إيران أو الجماعات الإرهابية المدعومة من إيران بمهاجمة إسرائيل.
وهو يخشى أن يؤدي الهجوم السريع والمتهور على غزة إلى دخول إسرائيل في معركة شوارع دامية طويلة يمكن أن تقتل عشرات الآلاف من الناس – دون أن تدمر حماس. كما يمكن أن يدفع ذلك حزب الله وغيره من وكلاء إيران إلى الانضمام إلى الحرب – مع احتمال تعرض الأمريكيين المنتشرين للخطر.
فهو يريد شراء الوقت لبنيامين نتنياهو، الذي لديه أسبابه الخاصة للتأخير. نتنياهو، على الرغم من الضغوط السياسية للتحرك بسرعة ضد حماس، كان دائما يتجنب المخاطرة. لديه وجهة نظر متشككة إلى حد ما بشأن الخطط العسكرية الإسرائيلية – ويريد الوقت. لذلك فهو يستمتع بالآراء الأخرى. كما أنه على استعداد لمنح المزيد من الوقت لمحادثات إطلاق سراح الرهائن بينما تستعد قوات الدفاع الإسرائيلية بشكل أفضل لهجوم بري.
الصورة الكبيرة: بدأ صبر القادة العسكريين الإسرائيليين ينفد بسبب التأخير. وقال رئيس أركان الجيش الإسرائيلي اللفتنانت جنرال هرتسي هاليفي يوم الثلاثاء إن الجيش الإسرائيلي جاهز للعملية البرية وينتظر فقط أمرا من الحكومة، بحسب أكسيوس. 
و يريد كبار القادة العسكريين توجيه ضربة برية – بالإضافة إلى القصف الجوي المستمر – للانتقام من هجوم حماس الإرهابي الذي أسفر عن مقتل 1400 إسرائيلي واحتجاز 200 رهينة.
و يضيف التقرير أن الحسابات الأميركية أكثر تعقيداً، يريد بايدن إطلاق سراح الرهائن الأمريكيين المتبقين والفوز بالإفراج عن المزيد من الأسرى الإسرائيليين، ويشعر المسؤولون الأمريكيون بأنه يتم إحراز تقدم.
و اضاف الموقع أن بايدن يشارك مخاوفه بشأن الخطة الإسرائيلية،  يريد بايدن أن يكون الغزو الإسرائيلي أقرب إلى ما حدث في الموصل عام 2016 وليس الفلوجة عام 2004. ولهذا السبب أرسل اللفتنانت جنرال جيمس جلين، وهو من قدامى المحاربين في الموصل، لتقديم المشورة للإسرائيليين بشأن تخطيطهم العسكري، كما يقول المسؤولون الأمريكيون.
وعلم موقع "أكسيوس" أن وزير الخارجية توني بلينكن قال لمجموعة من الزعماء اليهود الأمريكيين : "نحن لا نقيد إسرائيل أو نخبرها بما يجب أن تفعله. نحن نطرح أسئلة صعبة ونقدم أفضل نصائحنا بناءً على تجربتنا الخاصة". "


ما وَراء الإصرار الأميركي على دعم الغزو الإسرائيلي لغزّة.. و  تصعيدٌ لا بُدّ منه:


إن الاستراتيجية الأميركية منذ عهد باراك أوباما الذي أنهى فيه الأميركيون عصر بوش الذي اتصف بالمغامرات العسكرية الأميركية الغير محسوبة، تقوم على تجنب التدخل الأميركي بأي صراعٍ عسكري مباشر خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط بعد الخسائر العسكرية و الاقتصادية و البشرية الهائلة التي مُنيت بها الولايات المتحدة بعد حرب العراق. 
لكن تراجع النفوذ الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، جعل الولايات المتحدة الأمريكية تفكر في تغيير إستراتيجيتها تجاه الشرق الأوسط، خصوصاً أن التمدد الإيراني منذ عام ٢٠١٥ شكّل خطراً على المصالح الأميركية في المنطقة، كما أن بعض حالات التوتر في العلاقات مع الدول العربية و الخليجية على وجه الخصوص شكلت هاجساً لدى الأميركيين حول مدى قدرتهم على الحفاظ على المكاسب التي حصلت علصيها الولايات المتحدة الأمريكية منذ خمسين عاماً حين نصبت نفسها كقوّة مؤثرة وحيدة في المنطقة. 
و كما جرت العادة منذ أيام الحرب الباردة وصولاً إلى حرب أفغانستان و العراق، فإن الولايات المتحدة الأمريكية لا تدخل في عمليات عسكرية مباشرة إلا بحجة تمكنها من الدفاع عن مغامراتها العسكرية أمام المجتمع الدولي، و هذه الحجة ستكون هذه المرة ممثلة في الدفاع عن أمن إسرائيل و محاربة "الإرهاب" بحسب وجهة النظر الأميركية.
لهذا، فإنه و مع علم الولايات المتحدة بأن قيام إسرائيل بغزو غزة برياً سوف يؤدي إلى مفاقمة الأزمة الإنسانية و زيادة الاجرام الإسرائيلي بحق المدنيين الفلسطينيين، فإن الولايات المتحدة الأمريكية لم تدعُ إسرائيل حتى إلى ضبط النفس أو إعادة النظر في قرارها، بل إن أقصى ما طلبته هو تأجيل العملية العسكرية لتجهيز الإمكانات الدفاعية قدر الإمكان. 
و إنه من الواضح أن زيادة القدرات الدفاعية لا تستهدف حماية إسرائيل من قدرات حماس العسكرية، بل تستهدف حمايتها مما هو أبعد من ذلك، بالإضافة إلى اتخاذ وضع الاستعداد الهجومي تحسباً لفتح جبهاتٍ أخرى على مدى منطقة الشرق الأوسط.


الاجتياحُ البرّي لغزّة: سِتُّ جبهاتٍ مُحتملة:


و في برهانٍ على ما اوردناه سابقاً من تجهز الإسرائيليين و الأميركيين لعدد جبهاتٍ مفتوح يفوق جبهة حماس و الفصائل الفلسطينية، يقول الكاتب الأميركي البارز توماس فريدمان، إذا كان أمر إسرائيل يهمك، فلا بد أن تشعر بالقلق أكثر من أي وقت مضى منذ 1967. ففي ذلك العام انتصرت إسرائيل على جيوش 3 دول عربية؛ هي: مصر وسوريا والأردن، فيما بات يُعرف بحرب الأيام الستة.
واليوم -يضيف فريدمان في مقال بعموده الأسبوعي في صحيفة "نيويورك تايمز"- تخوض إسرائيل "حرب الجبهات الست".
ويقصد فريدمان بحرب الجبهات الست بأنها حرب تواجه فيها إسرائيل أطرافا لا تنتمي لدول بعينها، ودولا قومية، وشبكات اجتماعية، وحركات "أيديولوجية"، ومجتمعات الضفة الغربية وفصائل سياسية إسرائيلية. ويصف هذه الحرب بأنها "الأكثر تعقيدا  على الإطلاق".
لكن هناك شيء واحد واضح وضوح الشمس بالنسبة للكاتب الأميركي، وهو أن إسرائيل لا يمكنها أن تكسب حرب الجبهات الست وحدها، إلا إذا نجحت هي والولايات المتحدة في تشكيل تحالف دولي، حسب قوله.
ويعرب عن أسفه من وجود حكومة ائتلافية في إسرائيل يترأسها بنيامين نتنياهو "الذي لا يستطيع ولن يستطيع إبداء العزم اللازم لدعم مثل هذا التحالف الدولي".
ويتمثل هذا العزم -برأي فريدمان- في إعلان نهاية توسيع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية وإصلاح علاقات إسرائيل مع السلطة الفلسطينية، بحيث تصبح شريكا فلسطينيا شرعيا ذا مصداقية، وقادرا على حكم قطاع غزة في حقبة ما بعد حركة حماس وإقرار حل أوسع للصراع يؤسس لدولتين، بما في ذلك الضفة الغربية.
و لكن يمكننا أن ننقد كلام فريدمان حول هذه النقطة، إذ نستبعد قبول نتنياهو و الأطراف السياسية اليمينيّة المتطرفة المتحالفة معه بتحسين العلاقات مع الفلسطينيين و القبول بالالتزام بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود ١٩٦٧. 
ووفقا للكاتب، فإن الجبهات الست تبدو خفية، إلا أن من السهل تحديدها، فحركة حماس لديها ترسانة من الأسلحة صنعتها بنفسها ونشرتها واستخدمتها في شن هجوم بحري على إسرائيل يوم الثلاثاء، وأطلقت الأربعاء صواريخ بعيدة المدى باتجاه مدينة إيلات الساحلية. 
أما إسرائيل -التي تولى زمام الحكم فيها ائتلاف مكون من "يهود متطرفين، ويهود عنصريين"- فبدأت بالتصرف بطرق ساعدت بالفعل في تعزيز الجبهات المناهضة لها.
أما ثاني تلك الجبهات فهي تلك التي تواجه فيها إسرائيل إيران ووكلاءها الآخرين؛ وهم: حزب الله في لبنان وسوريا، والميليشيات الإسلامية في سوريا والعراق، وجماعة الحوثي في اليمن.
ويعني فريدمان بالجبهة الثالثة عالم الشبكات الاجتماعية وغيرها من المنشورات الرقمية، التي تدندن حول من هو الطيب ومن هو الشرير.
والجبهة الرابعة هي الصراع الفكري الفلسفي بين الحركة التقدمية العالمية وإسرائيل، كما يراها كاتب المقال، معربا عن اعتقاده بأن بعض عناصر تلك الحركة فقدت توجهها الأخلاقي في هذه القضية. وضرب مثالا على ذلك بالمظاهرات العديدة التي شهدتها الجامعات الأميركية التي تلوم إسرائيل، وترى أن حماس منخرطة في "نضال مشروع ضد الاستعمار".
وخامس الجبهات مسرحها داخل إسرائيل والأراضي المحتلة، حيث يهاجم المستوطنون اليهود المتطرفون الفلسطينيين، ويعيقون -من ثم- التعاون الأمني بين المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، والسلطة الوطنية الفلسطينية.
أما الجبهة السادسة فهي داخل إسرائيل نفسها، ومعظمها بين مواطنيها اليهود. وقد توارت تلك الجبهة عن المشهد في الوقت الحالي، لكنها تكمن تحت السطح مباشرة. إنه الصدام الذي تحركه إستراتيجية نتنياهو السياسية الدائمة في الداخل والقائمة على نظرية فرّق تَسُد، على حد تعبير المقال الذي يؤكد كاتبه أن رئيس الوزراء الحالي بنى حياته السياسية بأكملها على تأليب فصائل المجتمع الإسرائيلي ضد بعضها بعضا، مما أدى إلى تآكل نوع الوحدة المجتمعية الضرورية لكسب الحرب.
وحدّد فريدمان رأيه بشأن ما ينبغي لإسرائيل فعله قائلا، "هذا نزاع إقليمي بين كيانين يطالبان بالأرض نفسها ويجب تقسيمها بالتساوي قدر الإمكان بينهما. ومثل هذه التسوية تشكّل حجر الزاوية لأي نجاح لإسرائيل ضد حماس، لذا، إذا كنت مع حلّ الدولتين، فأنت صديقي، وإذا كنت ضد حل الدولتين، فأنت لست بصديقي"، على حد تعبيره.
و إن كنا نريد أن نستنتج شيئاً مما قاله فريدمان أخيراً، فإنه يقلل من احتمالية نجاة إسرائيل وحدها من حربها ضد هذه الجبهات الستة، إضافة إلى أن توجهات حكومة الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو ترفض رفضاً تاماً فكرة حل الدولتين، بل و تريد أن تنهي اي وجود للسكان الفلسطينيين داخل أراضي فلسطين التاريخية عبر التوسع الاستيطاني الصهيوني و تهجير الفلسطينيين بهدف جعل فلسطين يهودية بالكامل.


إسرائيل ليست وحدها في العمليات العسكرية:


نسب موقع "ميدل إيست آي" الإخباري البريطاني لما قال إنه مصدر عربي رفيع المستوى إن الفصائل الفلسطينية تتوقع أن تغرق إسرائيل أنفاق غزة بغاز الأعصاب والمواد الكيميائية تحت مراقبة قوات خاصة أميركية في إطار هجوم مفاجئ على قطاع غزة.
وعزا معلوماته إلى تسريبات من مصدر أميركي، أوضح أن إسرائيل والولايات المتحدة تأملان في تحقيق عنصر المفاجأة من أجل اختراق أنفاق حماس وإنقاذ ما يقدر بنحو 220 محتجزا وقتل آلاف المقاتلين التابعين لكتائب عز الدين القسام.
وتقول المعلومات المسربة إن تفاصيل العملية قد تم الاتفاق عليها، وإن الحديث عن تأخير إسرائيل غزوها البري ما هو إلا معلومات مضللة تهدف إلى كسب عنصر المفاجأة في هجوم متعدد الأوجه، سيشمل هبوط قوات خاصة إسرائيلية في شمال غزة وعلى طول الساحل. 
و تؤكد هذه التسريبات بحسب تحليلنا لها أن القوات الأميركية التي تم إرسالها و لا يزال تدفقها سارياً إلى منطقة الشرق الأوسط ليست فقط موجودة في الشرق الأوسط لتعزيز قوة الردع الأميركية، بل للمشاركة أيضاً في القتال إلى جانب إسرائيل و لو بشكل غير معلن في البداية. 
و يمكننا أيضاً استقراء النوايا الأميركية حول التدخل العسكري الواسع إلى جانب إسرائيل في الشرق الأوسط إلى مشروع القرار الذي قدمته الولايات المتحدة إلى مجلس الأمن الدولي و الذي يطلب تشكيل تحالف دولي جديد في الشرق الأوسط، لكن مجلس الأمن لم يمرر القرار بسبب فيتو مزدوج صيني روسي.


و لهذا فإنه من الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى استغلال الوضع الذي سينتج عن التصعيد على العديد من الجبهات من خلال:


١-توجيه ضربة عسكرية استباقية إلى حزب الله في الجنوب اللبناني و بيروت بالإضافة إلى ضرب الفصائل الفلسطينية المسلحة المتواجدة في لبنان، و في ذات الوقت إحداث موجة تدميرية عالية في لبنان لإعادته إلى النفوذ الأميركي الأوروبي الخالص بعيداً عن أي نفوذ إقليمي او عربي فيه.

٢-اتخاذ جماعة الحوثي في اليمن كذريعة للسيطرة على الممرات المائية في البحر الأحمر و بالتالي تحقيق سيطرة كاملة على ممرات السفن الخارجة من قناة السويس ما يعني شل قدرات مصر الاستراتيجية، و وضع البحر الأحمر تحت السيطرة الأميركية ما يُشكل زيادة في الخطر العسكري على الأمن القومي لا سيما لناحية دول الخليج العربي.

٣-تهجير السكان الفلسطينيين بحجة تطهير الأرض من "المخربين" على حد زعمهم، و بالتالي نسف اي مساعٍ لحل الدولتين.

٤-إنه من المعروف أن المنطقة العربية فيها الكثير من القواعد العسكرية الأميركية، لكن هذا الوجود العسكري المحدود بعتاد معين و عدد معين و بمناطق معينة و مخصص لأهداف محددة أهمها حماية المنشآت النفطية و السفارات الأمريكية يبقى تأثيره محدوداً نسبياً على الرغم من كونه خرقاً للأمن القومي العربي ، إلا أن تواجد حاملات الطائرات الضخمة و العدد الهائل من الجنود الأميركيين على مقربة من الجزيرة العربية في فلسطين يمكن أن يشكل تهديداً خطيراً ليس له سابق على أمن المنطقة و سيادتها.

٥-استغلال توترات العلاقات البينية في المنطقة لإحداث حالة "فرِّق تسُد"، من خلال محاولات إثارة النعرات الطائفية و القومية بين دول المنطقة لضمان تمكن الولايات المتحدة من ضرب أي وحدة صف إقليمية أو عربية قد تُسهم في مواجهة المخططات الصهيونية و الأميركية في المنطقة.

٦-إدخال الأذرع الإيرانية في المنطقة في حالة من المناوشات المباشرة سواء مع إسرائيل في سوريا و لبنان أو مع القواعد الأميركية في اليمن و العراق لإشعال الوضع في المنطقة و دفع الدول العربية إلى الدخول في مواجهة مع إيران لتحقيق المصالح الأميركية بإضعاف الطرفين (العرب و الإيرانيين) مثل ما حدث في حرب العراق و إيران.

إن حرباً عربية مع إيران في هذا التوقيت لن يكون سوى لصالح إسرائيل و الولايات المتحدة، إذ ستدفع هذه المواجهة المحتملة العرب و إسرائيل إلى أن يكونوا في مواجهة عدو واحد و بالتالي تصوير إسرائيل على أنها حليف إستراتيجي للعرب، بالإضافة إلى ضرب الاستقرار في المنطقةو بالتالي ضرب كل مخططات الازدهار التي تعزم بعض دول المنطقة على المضي قدماً بها، ما يعني تحقيق الرغبة الاميركية بإعادة العرب عقوداً إلى الوراء من خلال إنهاكم بحروبٍ إقليمية قد لا يكون هذا توقيتها المثالي.


تداعياتُ حرب غزّة و الفوضى الخلاقة.. فُرصةٌ ذهبيّةٌ للولايات المتحدة و تحدٍّ كبير أمام الدول العربية:


إن العقد الأخير و ما حمله من تراجع أميركي في منطقة الشرق الأوسط سواء عن طريق الوجود العسكري جراء انسحاب العديد من القوات الأميركية من المنطقة بدعوى تخفيف العبئ العسكري الأميركي، أو تراجع النفوذ بفعل تدخل قوات أخرى في منطقة الشرق الأوسط كروسيا و الأذرع الإيرانية بالإضافة إلى تنامي القدرات العسكرية للدول العربية و تنويعها لعلاقاتها و تعاوناتها الاستراتيجية الدولية مع قوى مناوئة للولايات المتحدة كروسيا و الصين، قد دفعت بالخطط الاستراتيجية الأمريكية إلى تقديم أولوية إعادة بسط السيطرة و النفوذ الأمريكي على منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً من الناحية العسكرية نظراً لمدى أهمية المنطقة على صعيد الاقتصاد و الموارد البشرية و النفطية و الموقع الاستراتيجي الذي يتوسط الكرة الأرضية و يتحكم بأهم طرق التجارة الدولية. 
و إن الولايات المتحدة التي تعاني من انحدار داخلي وخارجي، لا بد لها من حجة تستخدمها أمام المجتمع الدولي لتغطية تدخلاتها العسكرية ذات الأهداف الاستعمارية في المنطقة، و إن حماية أمن إسرائيل و مواجهة ما تسميه "الإرهاب" و "الفكر المتطرف" سيكون حجة مثالية لتبرير محاولات الولايات المتحدة توسيع نفوذها الاستعماري، و بالتالي فإن حالة الفوضى الخلاقة التي تمثل جزءاً هاماً من إستراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة ستكون الممهد الرئيسي لطريق الولايات المتحدة الجديد نحو العودة عسكرياً و إستراتيجياً بشكل أقوى من ذي قبل إلى المنطقة. 
أما بالنسبة لإسرائيل، فإن حكومة نتنياهو تعتبر أن أمامها فرصة ذهبية للاستفادة من الحالة الدولية و الدعم الأميركي و الغربي الغير مشروط لعملياتها العسكرية و التغطية الدولية على جرائم الحرب التي ترتكبها في قطاع غزة و الضفة الغربية، لتحقيق أهدافها بالقضاء على أي نزعة مقاومة لدى الشعب الفلسطيني و تهجيره إلى دول الجوار كمصر و الأردن لتهويد الأراضي الفلسطينية بالكامل. 
خصوصاً أن نتنياهو الذي يحمله أغلب الإسرائيليون مسؤولية فشل المنظومة الأمنية الإسرائيلية في حماية أمن المستوطنين اليهود قد خسر منذ بداية الحرب الأخيرة حجماً هائلاً من شعبيته و بالتالي فإن لم يستغل كل المعطيات الداخلية و الخارجية في تحقيق ما يمكن أن يراه الإسرائيليون نصراً، و من بينه فتح جبهات حرب واسعة و تحقيق نصر عسكري و لو جزئي، سوف يؤدي إلى خسارة الأخير بكل تأكيد مستقبله السياسي إلى الأبد.. 
و ختاماً، إنه لا يمكن الوثوق بالتصريحات الغربية و خصوصاً تلك الأميركية في ما يخص الحضّ على عدم التصعيد في الحرب، فالتاريخ الأميركي مليئ بالتضارب بين التصريحات الرسمية َ التصرفات الفعلية، و إنّا من خلال تحليلنا لأبعاد و أهداف المخططات الأميركية و الإسرائيلية بالمنطقة، لا نهدف إلى القول بأنها ناجحة و متحققةٌ حتماً لا محال، بل على العكس من ذلك، فإن كل غايتنا دراسة تفكير الأعداء و الخصوم بل و حتى الأصدقاء، لكي نساهم مع الرأي العام و صناع القرار و القادة في دول المنطقة في رسم سياساتٍ خارجية سليمة و بعيدة النظر و المدى لحماية أمن المنطقة و سيادتها من كل الأخطار المحدقة بها بالإضافة إلى العمل قدر الإمكان على خلق مرونة سياسية و إستراتيجية تسمح لدولنا بتحويل مسارات و تغيرات الأوضاع الإقليمية إلى فرصة لتحقيق مكاسب سياسية و إستراتيجية بما يتناسب مع الإمكانات الحالية و متطلبات الوضع الراهن.