روسيا تلمح بِتقديمِ تَنازُلاتٍ لإِنهاءِ الحرب في أوكرانيا.. ماذا بَعدَ ؟ .. تقرير خاص - بث:

news image

 

ماذا يَقولُ عِلمَيْ الاجتماعِ و السياسةِ عن انطباقِ مؤشِراتِ انهيارِ الدُوَل على كلٍّ من روسيا و الولايات المتحدة ؟ و ما تَداعِياتُ ذلِك على مُستقبلِ النظام الدّوليّْ؟

إعداد - مروة شاهين :  

بعد مُضِيِّ أكثر من عام و نصف على بدء الحرب التي انطلقت منها شرارة التغيير في النظام العالمي بأكمله، و على الرغم من قلة التطورات الهامة الحاصلة فيها على مدار الأيام و الأحداث الميدانية، أطلّ علينا خبَرٌ يوحي بتغير قواعد اللعبة تغيراً كلياً بين روسيا و أوكرانيا و داعميها الغربيين، حيثُ بدأت روسيا بالتلويح باستعدادها تقديم التنازلات أمام أوكرانيا، و بشكل أوضح، استعدادها للتنازل عن بعض مكتسباتها الميدانية مقابل الحصول على ضماناتٍ بعدم تجاوز مسائل الأمن القومي التي تستهدف استفزاز الجانب الروسي، خصوصاً لجهة التعاون بين أوكرانيا و الدول الغربية.


إنهاءُ الحَربِ مُقابِل ضماناتٍ أمنية:


و في هذا الإطار، أشار مسؤول كبير في الكرملين إلى أن روسيا قد توافق على إنهاء الحرب في أوكرانيا إذا تم استيفاء شرط رئيسي.
وذكرت مجلة "نيوزويك" أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أشار خلال مؤتمر صحفي في الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى أن روسيا ستعترف بحدود أوكرانيا قبل غزو موسكو إذا تعهدت كييف بعدم الانضمام إلى تحالف عسكري.
وقال لافروف للصحفيين إن موسكو في عام 1991 "اعترفت بسيادة أوكرانيا على أساس إعلان الاستقلال الذي تبنته عند مغادرة الاتحاد السوفياتي".
وأضاف أن "إحدى النقاط الرئيسية بالنسبة لنا هي أن أوكرانيا ستكون دولة غير منحازة ولن تدخل في أي تحالفات عسكرية. وفي ظل هذه الظروف، ندعم وحدة أراضي هذه الدولة".
ولفتت المجلة الأميركية إلى ما قاله مارك كاتس، أستاذ السياسة والحوكمة بجامعة جورج ماسون، إن "إعلان أوكرانيا لسيادة الدولة عام 1990 ينادي بالفعل أن أوكرانيا دولة محايدة بشكل دائم ولا تشارك في التحالفات العسكرية".
وأضاف أن "تصريح لافروف يعني ضمنا أن موسكو ستعترف بحدود أوكرانيا عام 1990 إذا تخلت كييف عن خططها لعضوية حلف شمال الأطلسي".
وقال كاتس إنه بينما كانت شبه جزيرة القرم مقاطعة تابعة لجمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية في عام 1990، إلا أن لديه شعورا بأن "تصريح لافروف قد لا يكون نهائيا، وأنه قد يكون هناك مزيد من "التوضيح" بشأنه".
وقال ديفد سيلبي، أستاذ التاريخ في جامعة كورنيل، للمجلة أنه وجد تصريح لافروف وطريقة ارتباطه بشبه جزيرة القرم "غامضا"، وهو أمر مثير للاهتمام في حد ذاته".
وأضاف "كان من السهل على لافروف أن يوضح التمييز، لكنه لم يفعل، ولم يكن ليفعل شيئا كهذا دون الحصول على تصريح من بوتين. وعلى كل منهما أن يعلم أن هذا من شأنه أن يثير على الفور تساؤلات بشأن القرم".


روسيا تُطالِبُ بنظامٍ عالميٍ أكثرَ عدلاً و إلّا ستَفرِضهُ بنفسها:


و كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قد قال إن هناك نظاما عالميا جديدا قيد التشكل ويتم ترسيم حدوده، متهما أميركا وأوروبا بعدم الوفاء بوعودهم.
وأضاف لافروف -في كلمة روسيا أمام الدورة الـ78 للجمعية العامة للأمم المتحدة– أنه "إذا لم ترد واشنطن وحلفاؤها التفاوض معنا بشأن نظام عالمي أكثر عدالة فسيكون علينا خوض ذلك بأنفسنا".
وشدد وزير الخارجية الروسي على ضرورة "إصلاح منظمة الأمم المتحدة واعتماد آليات منصفة فيها"، مؤكدا أن هناك حاجة لإعادة النظر في آليات التصويت بمجلس الأمن.
وقال لافروف إن البشرية تقف الآن أمام مفترق طرق ويجب تجنب انهيار آليات التعاون الدولي التي أنشأها أجدادنا.
وتابع لافروف أن هناك منظمات مثل بريكس تحافظ على أمنها وتسعى لتشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب، بينما تبذل الولايات المتحدة وحلفاؤها كل ما في وسعهم للحيلولة دون تشكل نظام دولي عادل.
ودعا لافروف لإعادة حقوق التصويت في الصندوق والبنك الدوليين والاعتراف بالثقل الذي تمثله بلدان الجنوب، معتبرا أن "دول الغرب ترفض مبدأ المساواة وهي عاجزة كليا عن التفاوض وتنظر باستعلاء إلى بقية العالم".
وعن الحرب التي تخوضها روسيا مع أوكرانيا، قال لافروف إن دول الغرب استمرت في تسليح أوكرانيا واستخدامها في الحرب ضد روسيا، وهو أمر غير مسبوق منذ نهاية الحرب الباردة، كما رفضت منح روسيا ضمانات أمنية، متهما الغرب بنكث وعوده بعدم توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) نحو الشرق.
وقال إن ممرات مبادرة حبوب البحر الأسود استخدمت مرات عدة لإطلاق مسيّرات فوق المجال البحري وتنفيذ ضربات ضد السفن الروسية، مشيرا إلى أن السبب الرئيسي وراء انسحاب موسكو من المبادرة هو أن "كل ما وعدونا به تبين أنه كذب".
وأشار لافروف إلى أن دول الناتو نقلت المواجهة العسكرية مع روسيا إلى الفضاء الخارجي وكذلك ميدان المعلومات، قائلا إن أميركا وأوروبا تقدم كل أنواع الوعود ولكنهم لا يلتزمون بها.
وأكد لافروف أن الوقت قد حان لاتخاذ إجراءات لبناء الثقة بين أرمينيا وأذربيجان في إقليم ناغورني قره باغ، وأن هناك قوات روسية ستساعد في ذلك، واتهم لافروف دول الغرب بمحاولة فرض نفسها كوسطاء بين البلدين، وهو ما قال إنه غير مطلوب، مضيفا "لقد قامت يريفان وباكو بتسوية الوضع بالفعل".
كما اتهم لافروف الغرب بتغذية "عدم التسامح وموجات كراهية الإسلام، وعدم الشعور بأي قلق إزاء حرق القرآن"، كما اتهم واشنطن وحلفاءها في آسيا بتعزيز "العسكرة في شبه الجزيرة الكورية"، وفي حين أكد وزير الخارجية الروسي دعم كل المبادرات التي تهدف إلى التوصل إلى حل للأزمة السودانية، قال إن تطبيع الوضع في الشرق الأوسط يتطلب حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.


مؤشراتُ انهيار الدول.. هل تنطبِقُ على روسيا و الولايات المتحدة؟ و ما تداعياتُ ذلك على النظام العالمي؟ :


على مر التاريخ، قامت الدول وسقطت لعدد لا يحصى من الأسباب، وسعى العلماء إلى فهم الديناميكيات المعقدة التي تؤدي إلى انهيار الدولة، و بعد استعراض آراء أهم العلماء الذين درسوا أسباب انهيار الدولة، وفي حين أن هناك العديد من العوامل المؤثرة، فإن هذا التحليل سيركز على الموضوعات الرئيسية التي حددها هؤلاء العلماء.


أولاً: إبن خلدون ومفهوم العصبية:

أكد ابن خلدون، وهو عالم عربي من القرن الرابع عشر، على دور العصبية، أو التضامن الجماعي، في صعود وسقوط الدول، وقال إن الدول تبدأ بإحساس قوي بالعصبية، مما يعزز التعاون والتماسك. ومع ذلك، مع مرور الوقت، يمكن أن تضعف العصبية، مما يؤدي إلى صراع داخلي وانهيار الدولة في نهاية المطاف، ووفقاً لابن خلدون، فإن فقدان التضامن الجماعي هو عامل رئيسي في تراجع الدولة.
و إذا ما أردنا إسقاط هذا التحليل الذي اورده ابن خلدون على كلا الدولتين، فسنجد أن العصبية التي تحدث عنها ابن خلدون تواجه في روسيا ضعفاً غير مسبوق، إذ أن العديد من المواطنين و المفكرين الروس يعارضون محاولات حكومة بلادهم للتوسع في النفوذ و التأثير سواء في أوكرانيا أم غيرها، و أكبر دليل على ذلك هو الاحتياج الكبير لمجموعات المرتزقة الأجانب في حرب روسيا ضد أوكرانيا، إذ أن وحدات الجيش الروسي اتسمت بالتردد في القيام بعمليات العسكرية و بمعارضة الحرب، و قد رأينا ذلك جلياً من خلال الاستعانة بفاجنر و بعض المقاتلين السوريين في الحرب ضد أوكرانيا. 
أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فالوضع في هذه المسألة معقد و حرج أيضاً، لكنه أحسن بكثيرٍ من الوضع الروسي، إذ تواجه الولايات المتحدة تراجعاً في دعم الرأي العام الأمريكي للتوسع الأميركي نفوذاً في خارج أراضي البلاد، بينما يتصف الجيش بالانسياق الكامل للحكومة الأميركية في قراراتها، كما يتمتع الجيش الأميركي بتأييد عالٍ من الرأي العام الأميركي في كافة العمليات العسكرية التي يخوضها، و إن كانت قد تعالت الأصوات المطالبة بوقف التدخل العسكري في الخارج حفاظاً على أرواح الجنود الأميركيين.


ثانيا: تشارلز تيلي وتشكيل الدولة:

ركز تشارلز تيلي، عالم السياسة الشهير، على عملية تكوين الدولة ومدى ارتباطها بانهيار الدولة. يرى تيلي أن الدول غالبًا ما تنشأ من خلال العنف والإكراه، حيث يحتكر الحكام استخدام القوة ويستخرجون الموارد من رعاياهم. ومع ذلك، عندما تفشل الدول في توفير الخدمات الأساسية أو حماية مواطنيها، فإنها يمكن أن تفقد شرعيتها، مما يؤدي إلى التمرد والانهيار في نهاية المطاف.
و بالإسقاط العملي على الحالتين الروسية و الأميركية، نرى أن كلا الدولتين في مأمن في هذا إلى حد بعيد، مع وجود خطر على الوحدة الروسية بسبب وجود العديد من الأقليات و الجمهوريات و الأقاليم غير الروسية داخل الاتحاد الروسي ما يمكن أن يؤثر سلباً على وحدة البلاد.


ثالثا: صموئيل هنتنغتون والنظام السياسي:

صموئيل هنتنغتون، هو عالم سياسي بارز، درس أهمية النظام السياسي في الحفاظ على استقرار الدولة. وقال إن الدول تحتاج إلى مؤسسات فعالة وسلطة شرعية للحفاظ على النظام، وعندما تتآكل هذه العناصر أو تصبح مختلة وظيفيا، فمن الممكن أن يبدأ الانحلال السياسي، مما يؤدي إلى انهيار الدولة. وشدد هنتنغتون على دور القيادة والحكم في منع مثل هذا الانحطاط.
و أيضاً اذا ما اتجهنا لإسقاط هذا العامل على الحالتين الروسية و الأميركية، نرى بوضوح أن الوضع في روسيا من الناحية جيد و آمن إلى حد ما، فلا تزال مؤسسات الدولة الروسية تتمتع بقدر كبير من الاستقرار و الفاعلية، بينما في الولايات المتحدة الأمريكية فإن البيروقراطية التي استفحلت في مؤسسات الدولة الأميركية جعلت منها مؤسسات اقل فاعلية، و أعطت مساحة عمل أكبر للجماعات الضاغطة و المنظمات غير الحكومية و أدت بالتالي إلى إضعاف الحكومة.


رابعا: مايكل تي كلير وندرة الموارد:

وسلط مايكل تي. كلير، الخبير في صراعات الموارد، الضوء على تأثير ندرة الموارد على انهيار الدولة، وقال إن الدول التي تعتمد بشكل كبير على الموارد المحدودة، مثل النفط أو الماء، يمكن أن تواجه عدم الاستقرار عندما تصبح هذه الموارد نادرة أو خاضعة للمنافسة، و يمكن للصراعات التي تحركها الموارد أن تؤدي إلى تفاقم التوترات السياسية والاجتماعية القائمة، مما يساهم في انهيار الدولة.
و الإسقاط هنا غني بالأمثلة على كلا الدولتين، فروسيا التي تعتمد اعتمادا كبيراً على تجارة النفط تشهد اليوم سوقاً منافساً قويا متمثلاً بالدول العربية الخليجية و إيران و الولايات المتحدة، و بالتالي فإن روسيا الغنية بالموارد الطبيعية من نفط و غاز و معادن لا يمكنها استخدام هذه الموارد كورقة ضغط على العالم بسبب اتساع سوق المنافسة في هذه المجالات و وفرتها، بينما الولايات المتحدة الأمريكية التي تستورد غالبية احتياجاتها من النفط على الرغم من امتلاكها احتياطات كبيرة فهي تهدر مواردها المالية و تضعف قدرتها على المنافسة الصناعية، أما بالنسبة لباقي الموارد مثل الحديد و الصلب و المعادن المختلفة و المواد النادرة التي تستخدم في العديد من الصناعات الثقيلة و المتقدمة فإنها تفتقر بشكل كبير إلى مثل هذه المواد و تعتمد على دول خصمة لها في الحصول على مثل هذه المعادن مثل روسيا و الصين.


خامساً: روبرت د. كابلان والعوامل الجيوسياسية:

وأكد روبرت د. كابلان، المحلل الجيوسياسي، على أهمية العوامل الجيوسياسية الخارجية في انهيار الدولة. وقال إن الدول الواقعة في مناطق تتنافس فيها القوى العظمى أو المحاطة بجيران غير مستقرين تكون أكثر عرضة للانهيار. كما يمكن أن تؤثر المنافسات والتحالفات والتدخلات الجيوسياسية بشكل مباشر على استقرار الدولة وبقائها.
و هنا يبرز وضع الدولة الروسية كحالة جيواستراتيجية معقدة، سواء من خلال تأزم علاقاتها مع جيرانها في آسيا الوسطى نتيجة حقبة الحكم السوفيتي مثل كازاخستان و أوزبكستان و غيرها و أذربيجان و غيرها، أو بسبب الأقليات المتمركزة في أقاليم جغرافية على أطراف الدولة الروسية مثل الشيشان و التتار، إضافة إلى الأزمة الجيوسياسية بين روسيا و أوكرانيا التي تريد ضرب الأمن القومي الروسي عرض الحائط بمساعيها إلى الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، بينما تتمتع الولايات المتحدة الأمريكية الواقعة في النصف الثاني من الكرة الأرضية بنوع من الأمان على التنافس الجيوسياسي على الأراضي.


سادساً: العوامل الاقتصادية والتبعية:

العوامل الاقتصادية، بما في ذلك الاعتماد المفرط على صناعة واحدة أو الديون المفرطة، تم استكشافها من قبل العديد من العلماء كمساهمة في انهيار الدولة. فالدول التي تعتمد بشكل كبير على قطاع واحد معرضة للصدمات الاقتصادية، في حين أن ارتفاع مستويات الديون يمكن أن يؤدي إلى أزمات مالية وعدم الاستقرار.
و هنا نلاحظ أن الولايات المتحدة الأمريكية ترزح تحت سقف هائل من الديون التي بلغت ما يزيد الاثنين و ثلاثين ترليون دولار، و تجدر الإشارة إلى أن غالبية هذه الديون من الصين و أن الحكومة الأميركية تنفق بشكل كبير على الميزانية الدفاعية التي يتم تمويلها في أغلب الأحيان عبر الديون.. 
و في حين يقدم كل باحث وجهة نظر فريدة من نوعها، فإن عملهم بشكل جماعي يؤكد على التفاعل بين العوامل الداخلية والخارجية في تشكيل مصير الأمم. إن إدراك ومعالجة هذه العوامل أمر بالغ الأهمية بالنسبة لصناع السياسات الذين يسعون إلى منع أو تخفيف انهيار الدولة في العالم الحديث.


بالتزامُنِ مع مؤشرات الانهيار..انخفاضُ نفوذ روسيا و الولايات المتحدة و تراجُعُ مصالحمها حول العالم:


شهدت الولايات المتحدة، المعروفة تاريخياً بمشاركتها في الأحداث العالمية ونفوذها العالمي، تحولاً ملحوظاً في موقفها الدولي خلال السنوات القليلة الماضية، كما شهدت روسيا، التي كانت ذات يوم قوة عظمى هائلة، تراجعاً تدريجياً في نفوذها العالمي و تأثيرها على الساحة الدولية في السنوات الأخيرة. 
وقد تشكل هذا التحول في مستويات النفوذ و التأثير من خلال مجموعة من العوامل، بما في ذلك التحديات الداخلية، والديناميكيات الجيوسياسية المتغيرة، والأولويات العالمية المتطورة. فما هي الأسباب الكامنة وراء تراجع النفوذ الروسي و الأميركي بالشؤون العالمية وتداعيات ذلك على كل منهما و على العالم؟ :


العوامل المساهمة في الانخفاض:

 

1. الأولويات المحلية: أحد العوامل الأساسية وراء تراجع الاهتمام الأمريكي بالعالم هو التركيز المتزايد على القضايا الداخلية. فقد أدت تحديات مثل عدم المساواة الاقتصادية، وإصلاح الرعاية الصحية، والاستقطاب السياسي، إلى تحويل انتباه صناع السياسات عن الشؤون الدولية، أما بالنسبة للحالة الروسية، فإن البلاد تواجه مجموعة من القضايا الداخلية، بما في ذلك الركود الاقتصادي والفساد والتدهور الديموغرافي ونظام الرعاية الصحية المتعثر. وقد أدت هذه المشاكل الداخلية إلى تحويل انتباه الحكومة والمجتمع الروسي بعيداً عن الاهتمامات الدولية،  وقد أدت الحاجة إلى معالجة هذه القضايا الملحة إلى تقليل التركيز على الشؤون العالمية .
2. الإرهاق من الحرب: إذ أن روسيا مثلاً قد استنزفت العديد من مواردها البشرية و العسكرية في الحرب ضد أوكرانيا ما أدى إلى إنهاكها على الصعيدين الاجتماعي و العسكري، كما أدى التورط المطول في صراعات مثل أفغانستان والعراق إلى الإرهاق من الحرب بين الأمريكيين، حيثُ إن التكاليف البشرية والمالية الباهظة لهذه الحروب جعلت الرأي العام يشكك بشكل متزايد في التدخلات العسكرية في الخارج.
3. التحولات الاقتصادية:  حيثُ واجه الاقتصاد الروسي تحديات كبيرة، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى اعتماده على صادرات النفط والغاز الطبيعي. وكان لتقلب أسعار الطاقة العالمية تأثير مباشر على الاستقرار الاقتصادي في روسيا. كما أدت العقوبات التي فرضتها الدول الغربية ردا على تصرفات روسيا في أوكرانيا وغيرها من النزاعات الدولية إلى تقييد النمو الاقتصادي. ونتيجة لذلك، اضطرت الحكومة الروسية إلى إعطاء الأولوية للاستقرار الاقتصادي على الطموحات العالمية، مما ساهم بشكل أكبر في تراجع الاهتمام بالشؤون الدولية، و مع تطور المشهد الاقتصادي العالمي، لم تعد الولايات المتحدة القوة الاقتصادية العظمى الوحيدة. وكان صعود الاقتصادات الناشئة مثل الصين سبباً في تحويل الأولويات الاقتصادية نحو الحفاظ على القدرة التنافسية ومعالجة الخلل في التوازن التجاري.
4. التعددية مقابل الأحادية: لقد حدث تحول عن النهج الأحادي الجانب لصالح التعاون المتعدد الأطراف، حيثُ أصبحت الولايات المتحدة الآن أكثر ميلاً إلى العمل مع الشركاء والمنظمات الدولية لمواجهة التحديات العالمية، مما يقلل من مشاركتها المباشرة في الصراعات الإقليمية، كما تسعى روسيا اليوم الي بناء شراكة مع دول الشرق الأوسط و دول آسيا الوسطى لتشكيل مجموعة أحلافٍ تساعد روسيا على مواجهة النفوذ الأميركي كتفاً إلى كتف مع هذه الدول.
5. التطورات الجيوسياسية :لقد تطور المشهد الجيوسياسي العالمي بشكل كبير منذ حقبة الحرب الباردة، حيثُ تضاءلت مكانة روسيا السابقة باعتبارها واحدة من القوتين العظميين، مع بروز الولايات المتحدة باعتبارها القوة المهيمنة العالمية الرئيسية. كما أدى صعود الصين كلاعب رئيسي في السياسة الدولية إلى تحول ميزان القوى، و أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية شبه عاجزة عن الحفاظ على هيمنتها السابقة، مما كان سبباً في إعادة تقييم السياسات الخارجية لتتلاءم مع هذه المتغيرات الجديدة. 
6. العزلة الدولية: أدت تصرفات روسيا في أوكرانيا، والتدخل المزعوم في الانتخابات الأجنبية، والتورط في الهجمات السيبرانية، إلى زيادة العزلة الدولية لروسيا، وقد فرضت العديد من الدول الغربية عقوبات واتخذت موقفا أكثر انتقادا تجاهها، وقد جعلت هذه العزلة من الصعب على روسيا أن تشارك بفعالية في الدبلوماسية العالمية، مما ساهم في تراجع اهتمامها بتوسيع نفوذها و مصالحها، كما ان محاولات الولايات المتحدة الأمريكية الاهتمام بشؤونها الداخلية  و عدم توريط نفسها في القيام بدور شرطي العالم  أدى إلى فقد العديد من حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية ثقتهم بمدى فاعلية التحالف مع دولة أصبحت حلفائها بمثابة عبء عليها كما تفعل الولايات المتحدة.


عواقب تراجع نفوذ القطبين الأبرز على المسرح الدولي:


1. فراغ القوة العالمية: يترك النفوذ الروسي و الأميركي المتضائل فراغا في القيادة العالمية، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى صراع على السلطة وعدم الاستقرار الجيوسياسي حيث تحاول الدول الأخرى ملء الفراغ.
2. العزلة الدبلوماسية: قد يؤدي تراجع الاهتمام الأمريكي و الروسي بتوسيع العلاقات مع باقي دول العالم بهدف توسيع نفوذهما إلى عزلة دبلوماسية و نأي بالنفس عند هذه الدول تجاه المشكلات و الأزمات العالمية. 
3. التحالفات الضعيفة: إن التحالفات التقليدية قد تضعف مع تضاؤل الثقة في الالتزام الأميركي، وقد يؤثر ذلك على ترتيبات الأمن الجماعي والتعاون الدولي، و يظهر هذا الأمر جلياً في أوروبا، أما في روسيا فمسألة تخلي روسيا عن دعم أرمن كاراباخ ضد أتراك أذربيجان قد أظهرت أن روسيا على وشك أن تفقد ثقة حلفائها المقربين، و بالتالي فإن هذه سيؤثِّر سلباً على متانة و فعالية هذه التحالفات. 
4. العواقب الاقتصادية: يمكن أن يؤثر تراجع المشاركة الأمريكية و الروسية في الحياة الاقتصادية العالمية إلى ركود في التجارة الدولية، والشراكات الاقتصادية، والاستقرار المالي العالمي، نظراً لكون الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك أكبر اقتصاد في العالم و تعد أكبر مركز مالي و اقتصادي على الإطلاق و أيضاً لكون روسيا تمتلك خامس أكبر اقتصاد في العالم و تتمتع بقوة كبيرة في مجال تجارة النفط والمعادن و الصناعات الثقيلة.


التداعيات والسيناريوهات المستقبلية:


إن تراجع الاهتمام الأميركي و الروسي بتوسيع نفوذهم قد يشير إلى تحول في الديناميكيات العالمية، إلا أنه لا يعني بالضرورة انسحاباً كاملاً من الساحة الدولية. فقد تتبنى الولايات المتحدة نهجًا أكثر انتقائية، مع إعطاء الأولوية للارتباطات التي تتوافق مع مصالحها وقيمها.
حيثُ إنه الضروري بالنسبة للولايات المتحدة أن تعمل على تحقيق التوازن بين معالجة المخاوف المحلية والحفاظ على نفوذ معقول، على أن تظل الجهود الدبلوماسية والتحالفات والتعاون الدولي جزءًا من مجموعة أدوات السياسة الخارجية الأمريكية، و إن فهم هذه الديناميكيات وعواقبها أمر بالغ الأهمية لكل من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي أثناء تنقلهما في مشهد دولي متطور. 
و من جهة أخرى، كان لتراجع الاهتمام الروسي بالشؤون العالمية له آثار كبيرة على كل من روسيا والعالم. وبالنسبة لروسيا فإن ذلك يعني تقليص دورها في تشكيل الأحداث الدولية والتركيز على الأولويات الإقليمية، وبينما تستمر روسيا في تأكيد نفوذها في المسائل الإقليمية، فإن انخفاض مشاركتها على الساحة العالمية له آثار على كل من البلاد والمجتمع الدولي. ومع استمرار العالم في التطور، فإن فهم الدور المتغير الذي تلعبه روسيا في الشؤون العالمية سوف يشكل ضرورة أساسية لصناع السياسات والمحللين على حد سواء.


مُستقبل النظام الدولي في عيون الخبراء المعاصرين:


إن مفهوم الدول الأقطاب المستقبلية للنظام العالمي الجديد هو مفهوم معقد ومتطور، حيث يقدم العديد من العلماء المعاصرين رؤى حول القادة والديناميكيات المحتملة لهذا المشهد العالمي الناشئ. في حين أن مصطلح الدول الأقطاب لا يستخدم بشكل شائع، إلا أنه يمكننا دراسة وجهات نظر العلماء المؤثرين فيما يتعلق باللاعبين والاتجاهات الرئيسية في النظام العالمي المتطور.


1. ريتشارد هاس:
   يؤكد ريتشارد هاس، خبير السياسة الخارجية البارز، على دور القوى الكبرى في تشكيل النظام العالمي الجديد،  ووفقاً لهاس، فإن دولاً مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا سوف تستمر في لعب أدوار مركزية، بينما تصعد إلى جانبهم مجموعة من الدول الإقليمية لتمارس ادواراً أوسع من ذي قبل، وهو يدعو إلى توازن القوى والتعاون بين هؤلاء اللاعبين الرئيسيين لمواجهة التحديات العالمية بفعالية.
2.  باراج خانا:
   يقترح باراج خانا، الخبير الاستراتيجي العالمي والمؤلف للعديد من الكتب، نظامًا عالميًا أكثر لامركزية. وهو يتصور مستقبلا تمارس فيه المدن والمناطق القوية والجهات الفاعلة غير الحكومية نفوذا كبيرا، مثل البورصات الكبرى و المنظمات الدولية غير الخاضعة لسيطرة الحكومات، ويرى خانا أن الدول المدن مثل سنغافورة والمراكز العالمية مثل وادي السيليكون سوف تصبح لاعبين رئيسيين في الحكم العالمي، إلى جانب الدول القومية التقليدية.
3. جوزيف ناي:
   ويظل مفهوم جوزيف ناي عن "القوة الناعمة" وثيق الصلة بالمناقشات الدائرة حول النظام العالمي المستقبلي،  ويشير إلى أن الدول التي تتمتع بالقدرة على جذب وإقناع الآخرين من خلال الثقافة والتكنولوجيا والدبلوماسية ستكون مؤثرة. ويسلط هذا المنظور الضوء على أهمية القادة الثقافيين والتكنولوجيين في تشكيل النظام العالمي الجديد.
4.  آن ماري سلوتر :
   تؤكد آن ماري سلوتر على الحوكمة الشبكية في القرن الحادي والعشرين. وترى أن القيادة سيتم توزيعها بين مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة، بما في ذلك الحكومات والشركات والمجتمع المدني والمنظمات الدولية. وتتطلب القيادة الفعالة، في هذا السياق، القدرة على التعاون عبر القطاعات والحدود.
5. إيان بريمر:
   يركز إيان بريمر، عالم السياسة ومؤسس مجموعة أوراسيا، على دور القادة الأقوياء والأنظمة الاستبدادية في النظام العالمي الجديد. وهو يؤكد أن قادة مثل فلاديمير بوتين، وشي جين بينج، وآخرين يعيدون تشكيل الديناميكيات العالمية. ويسلط بريمر الضوء على التحديات التي يفرضها هؤلاء القادة وحاجة الدول الديمقراطية إلى الاستجابة بفعالية.
في الختام، فإن الدول الأقطاب المستقبلية للنظام العالمي الجديد، كما يتصورها الباحثون المعاصرون، تشمل مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة والديناميات. و إن القوى الكبرى التقليدية، ودول المدن الناشئة، وقادة التكنولوجيا والثقافة، والحكم الشبكي، والقادة الأقوياء، والناشطين على مستوى القاعدة الشعبية، كلهم يلعبون دوراً.  و يتسم النظام العالمي المتطور بالتعقيد والتنوع، وسوف تتطلب القيادة الفعّالة القدرة على التكيف والقدرة على التعامل مع مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة، سواء الحكومية أو غير التابعة لدول بعينها، في التصدي للتحديات و الأزمات العالمية، فهل تستطيع الدول القطبية التقليدية الاستمرار في لعب دور هام في النظام العالمي أن أنها تتنحى جانباً لتترك المجال للاعبين آخرين أكثر كفاءة في إدارة المشهد العالمي؟..