دراما الطبقات الوسطى في لبنان

د. فردريك معتوق*

ما أَصاب لبنان أخيراً جرّاء فساد السلطتيْن السياسيّة والماليّة فيه، كان له وقعٌ مدمِّر على الصعيدَيْن السياسيّ والاقتصاديّ، غير أنَّ ما رافقَ هذا الانهيار السريع جاء دراماتيكيّاً أيضاً على المستوى الاجتماعيّ، إذ إنَّه أدّى إلى تفكُّك بناء معرفيّ وثقافيّ جديد كان المُجتمع اللّبنانيّ المتنوّع قد عمل على بنائه وتدعيمه على مدى قرنٍ من الزمن بتضحياتٍ معنويّة أهليّة جبّارة.

لو عدنا قليلاً إلى الوراء مُتفحِّصين التاريخ الاجتماعي اللّبناني المُعاصر، بإمكاننا أن نُلاحظ فيه نقلات ديموغرافيّة دالّة مهَّدت وعزَّزت انتقال البنية الاجتماعيّة فيه من حالٍ إلى حال أخرى. والأرقام والنِّسب الظاهرة في الجدول الآتي خير شاهد على أوَّلها وأبرزها، ألا وهو الانتقال السكّاني من الريف إلى المدينة.

ففي الأعوام 1900 و1932 و1960 و1970 و1996 بلغت نسبة سكّان الأرياف على التوالي (90%، و67%، و49%، و41%، و22%)، فيما ارتفعت نسبة سكّان المُدن على التوالي أيضاً بحسب السنوات نفسها من 10% إلى 33%، ثمّ من 51% إلى 59% و78% (بحسب مصادر الأرشيف العثماني، وإحصاء الانتداب الفرنسي، وبعثة إيرفد - وزارة التصميم، ومديريّة الإحصاء المركزي - القوى العاملة، ووزارة الشؤون الاجتماعيّة).

ترافَق هذا التبدّل الديموغرافي على مدى قرنٍ كامل في لبنان مع ظاهرة اجتماعيّة أخرى تمثَّلت بتوسّع مطَّرد ومتواصل لحجم الطبقات الوسطى في البلاد وفي سلَّم القوى العاملة المحلّيّة. لا بل بإمكاننا أن نعتبر أنَّ الانتقال المتواصل من الريف إلى المدينة قد استجاب لمطلبٍ معنويٍّ عميقٍ مفاده الخروج من دائرة الحياة الزراعيّة التي لطالما ترافقت مع الفقر والفقر المدقع ونفور الأجيال الشابّة منها.

فالانجذاب إلى المُدن لم يأتِ على شكل فورة ظرفيّة، بل كنزوع (TREND) متواصل وتاريخي أدَّى، بعد عقودٍ عدَّة، إلى احتلال قطاع الخدمات في لبنان، اعتباراً من النصف الثاني من ستّينيّات القرن الماضي، الموقع الأوّل في القوى العاملة في البلاد، حيث غدا هذا القطاع يحتلّ 67% من حجم هذه القوى.

جاءت مُغادَرة أحضان المُجتمع الزراعي وثقافته التقليديّة الموروثة مُتزامِنةً مع اندغام الظاهرتَيْن الديموغرافيّة والاقتصاديّة المذكورتَيْن، بحيث نتجت عن هذا الموقع الجديد حالةٌ اجتماعيّة جديدة تجسَّدت بما عُرف لاحقاً بنشوء الطبقات الوسطى واحتلالها مركز الصدارة على المستويات كافّة في البلاد.

تمفصلت عمليّة التحوّل الثقافيّة - الاجتماعيّة هذه اعتباراً من مطلع الستينيّات وتابعت سيرها بثقة لافتة جَعلتْ بروفايل المُجتمع اللّبناني بالنسبة إلى كلّ الذين كانوا يزورون البلاد أنموذجاً إرشاديّاً جديداً لما تطمح إليه جميع البلدان العربيّة الموزَّعة حتّذاك إلى طبقتَيْن أساسيّتَيْن، الأغنياء والفقراء، فيما كانت الطبقات الوسطى اللّبنانيّة واسعة وواثقة من خيارها الحضاري الجديد وغير تقليديّة، وبالتالي مصدر انجذابٍ معنوي خارجي وعربي تحديداً.

أتت الحرب الأهليّة اللّبنانيّة (1975 - 1989) لتُدمِّرَ هذا الأنموذج الذاهب عكس السير الإقليمي، نظراً إلى تحرُّره المتزايد والمطّرد أيضاً، بمُباركةٍ محلّيّة وإقليميّة ودوليّة واسعة. ومنذ ذلك الحين بدأ دكّ الطبقات الوسطى اللّبنانيّة وثقافتها الجديدة المستوحاة من الأنموذج الغربي، المزعج والمُعادي للتقليد والأصوليّات المعشِّشة في المنطقة.

عادت الطبقاتُ الوسطى في لبنان تتنفَّس الصعداء نسبيّاً بعد قيام اتّفاق الطائف، مطلع التسعينيّات، ولكن تحت عباءَة التقليد السياسي الصارم، على متن عمليّات استدانة مُفرطة وغير مسؤولة في مراميها الاستراتيجيّة البعيدة. فما كان بعد عقدَيْن من الزمن إلّا أن حَصَلَ الانهيارُ المالي والاقتصادي والسياسي الكبير، ضارباً ما قامت بقايا الطبقات الوسطى السابقة بترميمه حتّى العام 2019.

طريق الجلجلة

لم تكُن الطبقات الوسطى اللّبنانيّة يوماً وليدة صدفة تاريخيّة، بل جاءَت استجابةً لخيارٍ اجتماعيّ عامّ، شمل جميع المكوّنات الاجتماعيّة في البلاد تدريجيّاً. فإعجاب الجميع بقوّة الغرب ومتانة أنظمة حياته الثقافيّة بَعَثَا في النفوس رغبةً بتقليد هذا الغالب الذي تمكَّن من إزاحة المشروع العثماني القائم على امتصاص فائض القيمة المحلّي على مدى أربعة قرون متتالية من دون تقديم شيء يُذكر في المقابل على المستوى التعليمي أو الاقتصادي أو المعيشي أو العمراني العامّ.

بعد ذلك العصر المسدود الأُفق، غدا التماثُلُ بالغرب ثقافيّاً واجتماعيّاً شأناً عَلنيّاً وعموميّاً في لبنان، أكان على مستوى النظام التعليمي أم الاجتماعي أم الإعلامي أم الاستهلاكي. وحلَّت الأسرة النواتيّة مكان الأسرة الممتدَّة، وكبر حجْم المُدن على حساب قرى الأرياف وبلداتها.

نتيجة لهذه التغييرات المتضافرة تبلْورت رويداً رويداً الطبقات الوسطى في الأوساط كافّة، وأضحت أنموذجاً إرشاديّاً جديداً مُستورَداً ومُلبْنَناً في آن معاً. أمَّا ركائزه فكانت على المستوى الاقتصادي توفِّر إمكانيّة الادّخار، وعلى المستوى الاجتماعي توفِّر إمكانيّة التعليم والترقّي لأبناء هذه الطبقات، وعلى المستوى السلوكي توفّر تقدُّم المرأة وتحرّرها نسبيّاً، وعلى المستوى الثقافي العامّ توفِّر حريّة التفكير والتعبير نسبيّاً أيضاً.

كلّ ذلك جَعَلَ من العائلة المنضوية تحت لواء الطبقات الوسطى عائلة ترفع مبادىء الاجتهاد والكفاءَة في العمل، والإيمان بالتعليم كرافعة اجتماعيّة واقتصاديّة على السواء، واحترام السلطة ومرجعيّاتها السياسيّة والدينيّة، فتغيَّر وجه لبنان في نصفِ قرن، طوعيّاً، وغدت صورته، بفضل طبقاته الوسطى وجهودها المتواصلة، صورةً زاهية، حيث يلتقي الشرق بالغرب فيندمغان.

شكَّلت الطبقاتُ الوسطى الوجهَ الأبهى للتحديث العربي طوال تلك الفترة، فمطاعم لبنان وفنادقه ومصارفه وجامعاته ودُور نشره ومطابعه وإعلامه حملوا راية التحديث الطوعي وجاهروا به بالتزامن مع تبييئآت بلديّة مُبدعة لا يُستهان بها.

حصل كلّ ذلك على خلفيّة حماسة التعطّش للحريّة والمبادرة الخاصّة ودعم غربي وعالمي للموقع المستجدّ لعاصمة الطبقات الوسطى العربيّة بيروت، المنفتحة على الإرث الثقافي الغربي الوافد والجديد من ناحية، والمتمسّكة بالهابيتوس الزراعي وثقافته، كما المتفاخر بمحموله الإنساني المتفرنس والمتأمرك، بحيث إن طموح كلّ شابّ وشابّة في لبنان صار خلال مرحلة هذا المدّ الطبقي الوسيط، الالتحاق بشكلٍ من الأشكال بهذه التجربة، المتحرّرة ظاهراً والمنفتحة على تحديث فرِح ومتبسّم، لكن غير مبالٍ حقيقة بالمستقبل البعيد.

كان هذا الأنموذج الإرشادي الجديد، المُبتكَر تحت تسمية "نمط الحياة اللّبنانيّة"، مقبولاً في الأوساط والجماعات كلّها من دون تحفّظ يُذكر. فهو كان جديداً ومُطمْئِناً في الوقت عينه. كان يدعو إلى الاجتهاد في العمل والترقّي التعليمي في مدارس وجامعات خاصّة وعموميّة جيّدة وذات مستوى مُعترَف به دوليّاً. كما كان يُحافِظ على القيَم التقليديّة واحترام الأهل، ويُكبِّر شأن الشهادة المدرسيّة والجامعيّة، ويدعو إلى احترام الدولة ومؤسّساتها ورموزها.

بكلمة، كانت الطبقات الوسطى اللّبنانيّة تمشي واثقة من خطاها ومَسارها على وقْعِ أغاني فيروز الرائعة وخلفيّتها. لكنّ بناء الطبقات الوسطى اللّبنانيّة، على العموم ولدى الأوساط كلّها، جاء مختلفاً عن البناء الذي اعتمدته الطبقات الوسطى في الدول الغربيّة حيث نَشأت. هناك قامَ على خلفيّةٍ متينة، اجتماعيّة (مبنيَّة على المُواطَنة المدنيّة) واقتصاديّة (مبنيَّة على الإنتاج الصناعي والتكنولوجي)، أمَّا هنا فقد قامَ على نسيجٍ اجتماعي عصباني واقتصاد ريعي.

الخَلَل غير المحسوب

أكثر ما جَمَعَ بين اللّبنانيّين، في المحصّلة النهائيّة، هو تلاقيهم الطَّوعي والعفوي على قيمةٍ أَجمع الكلّ على احترامها والاقتداء بها، هي الطبقات الوسطى كأنموذج أفضل للعيش وتربية الأولاد والعمل والتميُّز. فالمنتمون إليها كانوا حاضرين بقوّة عند المسيحيّين والمُسلمين والدروز وفي جميع المناطق.

بيد أنَّ هذه الفئات الاجتماعيّة - الاقتصاديّة التي التقت على تبنّي التحديث الثقافي من بابه النّاعم لم تُقبِل على اعتماد مبادىء الحياة السياسيّة، المواطنيّة والمدنيّة، المُرافِقة لهذه الثقافة. بل على العكس من ذلك، حصلتْ عمليّة تهجينٍ مَعرفي لمفهوم الطبقات الوسطى الغربي، بحيث إنَّ الجميع أيضاً أَقدم على تبنّي المفهوم الوافد مسبوكاً في تأطيرٍ سياسيّ محلّي.

حصلتْ عمليّةُ فصلٍ في الوعي بين الانتماء الاجتماعي - الاقتصادي الجديد الأكثر شيوعاً ميدانيّاً، والانتماءات العصبيّة الأصليّة الموروثة، بحيث حافَظَ الاختلافُ السياسي، تحت عباءة العصبيّات الدينيّة والمذهبيّة، على شرخٍ مَعرفيٍّ دفين لم يَسمح لشرائح هذه الطبقات الوسطى بأن تلتقي حقّاً. فتجاوَرَ أهلُها وتباهوا ظاهراً بالتعايُش السلمي والالتقاء على نمطِ حياةٍ جامِعٍ ومُشترَك، لكنْ على قاعدة التجاوُر المادّي ليس إلّا. ذلك أنَّ انضمامهم إلى الطبقات الوسطى جاء مبتوراً في الأساس. جاء عند الجميع تحت عناوين التحديث، لا تحت عنوان الحداثة. أي أنَّ هذه الظاهرة التي استغرقَ بناؤها نصف قرن ونيّف بقي أصحابها مُلتزمين بمرجعيّات وأحزاب وقيادات سياسيّة متخلِّفة على أصل المفهوم - الأنموذج المُستورَد. وقد واكبتِ الدولةُ اللّبنانيّةُ المبنيّة على سلطة الطوائف والمذاهب هذا المسارَ بموقفٍ مبنيٍّ على تناقُضٍ بنيوي؛ إذ كان القانون يمنع "إثارة النعرة الطائفيّة" فيما كان انتخاب مجلس النوّاب وتحريك العجلة السياسيّة في البلاد يقوم على التوزيع السياسي والمُحاصَصة بين غالبٍ ومغلوب غير مُعلنَين.

سَقَطَ هذا القناع في العام 1958، ثمَّ في العام 1975، ثمَّ بعد عقد اتّفاقيّة الوفاق الوطني المُعتمَدة في الطائف في العام 1989، حيث أَعقبت الحروبَ الأهليّةَ الساخنة حروبٌ أهليّةٌ باردة، حتّى وصلنا إلى ما وصلْنا إليه اليوم. فتراجعتِ الطبقاتُ الوسطى وكادت أن تضمحلّ ويضمحلّ معها الزمن الجميل.

عليه، يُشبه البكاء على مصير الطبقات الوسطى ودَورها في لبنان اليوم بكاءَ التماسيح، ذلك أنَّ هذه الطبقات المتعلّمة والمستفيدة من بحبوحةٍ مديدة وحرّياتٍ متنوّعة، لم تعمل حقّاً على استئصالِ مَرَضِها العضال الكامن في تنشئتها الاجتماعيّة للأجيال التي بقي جلّها قابعاً في تنشئة حميميّة على العصبيّة، كعمودٍ فقري غير مُعلن لنظامها المعرفي والفكري العامّ.

فما وَضَعْتَهُ أنتَ في الطنجرة، هو ما ستَجِدَه لاحقاً في المغرفة، أليس كذلك؟

*عالِم اجتماع من لبنان - مؤسسة الفكر العربي