هل تنتهي الحرب العالَميّة الثالثة بالجحيم النوويّ؟
نبيه البرجي*
إذا كان جان دانييل قد كَتَبَ في "النوفيل أوبسرفاتور" الفرنسيّة غداة الغروب السوفياتيّ: "كما لو أنّكَ استيقظتَ ذات يوم ليُقال لكَ إنّ الشيطان مات"، الآن الكاتبة الأوكرانيّة أوكسانا زابوزكو تدعو إلى قتل "زوجة الشيطان"، أي روسيا، لتتمكّن البشريّة من الولوج إلى ... الخلاص!!
أمّا الباحث الفرنسيّ فرنسوا تويال، الذي كان يتوجّس من أهوال اللّحظة النوويّة التي يُمكن أن تفجّرها "أصابع مجنونة" أو "أدمغة مجنونة"، فقد قال آنذاك: "ما حَدَثَ أنّنا أقفلنا أبواب الجحيم".
لكنْ مَن يفتح أبواب الجحيم الآن؟ وحتّى حين يرى الباحثون الاستراتيجيّون أنّ القنبلة النوويّة هي نقطة الضعف الأميركيّة والروسيّة على السواء، لأنّها تحول دون الانزلاق إلى الحرب العالَميّة الثالثة، ألا تقترب الفسيفساء العسكريّة في أوكرانيا من المفهوم العملانيّ واللّوجيستيّ لتلك الحرب؟
هنري كيسنجر يعترض على "الثقة المُفرطة" لدى صقور الإدارة، سواء المدنيّين منهم أم العسكريّين، في رهانهم على "تحطيم أنف القيصر"، في اعتقاده أنّ العالَم يزداد تعقيداً على المستويات كافّة، من دون أن يكون واقعيّاً أن تحمل الولايات المتّحدة مشكلات البشريّة على ظهرها، موضِحاً أنّه يُدرك بدقّة كيف يفكّر الروس حين يحفرون الخنادق ليخوضوا صراعاً يعتبرونه وجوديّاً.
هذا ما لاحظه الديبلوماسيّ الأميركيّ العتيق جورج كينان، صاحب نظريّة "الاحتواء" منذ العام 1946: "مشكلتنا مع روسيا أنّها لا تصدّق كونها دولة موجودة". إذاً، الحرب الباردة لكي تتصدّع الإمبراطوريّة على صفيح بارد، باعتبار أنّ ذلك النَّوع المكفهرّ من الإيديولوجيّات (الشيوعيّة) الذي من المستحيل أن يتفاعل مع "الروح البشريّة"، لا يُمكن إلّا أنّ يتشقّق، وتتشقّق معه الإمبراطوريّة.
الآن، يبدو الاحتمال وكأنّه "الشيطان بثلاثة قرون، وربّما بثلاث أرواح". كيسنجر يرى أنّ من الضروريّ "أن نأخذ بمنتهى الجديّة التلميحات الروسيّة حول الخيار النووي"، وهو ما أشار إليه رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشنكو قبل وصول الطائرات الروسيّة العشر المزوَّدة بالرؤوس النوويّة التكتيكيّة إلى بلاده ردّاً على القرار البريطاني بتزويد فولوديمير زيلينسكي بقنابل تحتوي على اليورانيوم المنضّد.
وإذا كان الفيلسوف البريطاني برتراند راسل قد اعتبرَ أنّ إلقاء هاري ترومان القنبلة الذريّة على هيروشيما من دون أيّ مُبرِّرٍ ميدانيّ، ليقول للعالَم "من هنا يبدأ القرن الأميركي (وربّما القرون الأميركيّة)"، قبل أن ينقل جوليوس روزنبرغ وزوجته إيتل أسرار القنبلة إلى جوزف ستالين، ليقوم النظام (أو الواقع) العالَميّ الثنائيّ القطب، فإنّ بإمكان الروس أن يلقوا بالقنبلة، لتكريس "ثنائيّة الجنون"، على مكانٍ ما من الشرق الأوروبيّ ليعلنوا للعالَم قيام النظام الثلاثيّ الأقطاب (الأميركيّ - الروسيّ - الصينيّ).
الجزء الغبيّ من التاريخ
ماذا عن الهند التي أَعلن فلاديمير بوتين رغبته في أن تكون القطب الرّابع في النظام العالَمي البديل؟ هذا بعدما رأى المفكِّر الروسي ألكسندر دوغين "ضرورة أن نلقي جانباً الجزء الغبيّ من التاريخ". مثلما أسدل الروس والصينيّون الستار على نزاعاتهم الحدوديّة، وكذلك ما تبقّى من ترسّباتٍ إيديولوجيّة، لا بدّ للصينيّين والهنود، ما دامت الكرة الأرضيّة تدور بإيقاعٍ مختلف، أن يفعلوا ذلك، وهُم الذين يعلمون أنّ الإدارات الأميركيّة لم تتوقّف يوماً عن محاولاتها إشغال القوى الآسيويّة الناشئة بصراعاتٍ عبثيّة لتبقى على تخوم العالَم، بل على تخوم القرن.
كلّ الأباطرة أُصيبوا بلوثة السيطرة على الكوكب؛ من الإسكندر ذي القرنَيْن وجنكيزخان وسليم الأوّل، مروراً بالأباطرة الرومان، وصولاً إلى نابليون بونابرت وأدولف هتلر، وأحياناً من دون أيّ ديناميكية إيديولوجيّة أو ثقافيّة أو حضاريّة، ولكن لتتناثرَ في نهاية المطاف، إنْ لارتطامها بالتاريخ أو بسبب الشيخوخة والتآكل الداخلي، ناهيك بظهور إمبراطوريّة أخرى تتولّى مواراتها الثرى.
تلك الإمبراطوريّات تمحورت حول الفرد. أميركا إمبراطوريّة من نَوعٍ آخر (أم من كوكب آخر؟). هنا المؤسّسة، إن بقبّعة الكاوبوي أو ببندقيّة الكاوبوي التي حلّت محلّ الفرد. أَلَم يقُل أوليفر ستون، مُخرج "وول ستريت: المال لا ينام"، كانعكاس مروِّع لتفريغِ الكائن البشري من المعنى، "منذ رحيل فرنكلين روزفلت لم تعُد أميركا تُنتِج رجالاً بمواصفاتِ الأباطرة، ولا بمواصفات الأنبياء، تاركاً لوليم كريستول، أحد مُنظّري المُحافظين الجدد وأستاذ التاريخ والفلسفة في جامعة هارفرد، أن يسأل أيّ عالَم من دون أميركا؟"، ليعقبه سؤالٌ آخر "مَن غير أميركا تليق به تلك المهنة المعقّدة والمقدَّسة: قيادة العالَم؟".
هذه إمبراطوريّة تضمّ كلّ الأجناس البشريّة. فيها تتفاعل (أو تذوب) كلّ الثقافات، وكلّ الإيديولوجيّات، وكلّ المُعتقدات، وعلى امتداد الأزمنة، لتُحدِثَ تغييراتٍ جوهريّة في كلّ مفاهيم الحياة، بل وفي الحياة نفسها. من خلال "الهوت دوغ"، و"الكوكا كولا"، أو من خلال سراويل الجينز والسجائر الفاخرة، إلى "الروك أند رول". الأهمّ من كلّ ذلك الشبكة العنكبوتيّة التي وضعتِ الإنسانَ أمام زمنٍ آخر، تالياً أمام حياةٍ أخرى.
لطالما حاولت الماركسيّة، بدفْعٍ فكريٍّ وثوريٍّ هائل، وبتقويضٍ منهجيّ لفلسفة التاريخ، وحتّى لفلسفة الدّين، إزالة النموذج الأميركي كـ "مصنعٍ للّيبراليّة"، ولكن لتتلاشى قبل بلوغها القرن. الباحثة الفرنسيّة هيلين كارير - دانكوس قالت "حَدَثَ ذلك بشفتَيْ مارلين مونرو لا بالأنياب النوويّة".
الدخول في اللّهاث
الأميركيّون هُم مَن يسألون الآن "أيّ مقوّمات تمتلكها روسيا لإدارة العالَم؟". ألم تنقل "يو. أس. توداي" عن جيمس بيكر، وزير الخارجيّة في عهد جورج بوش الأب، والذي عُرف بجديّته ورزانته، وصْفَهُ بوريس يلتسين، أوّل رئيس للاتّحاد الروسي، إثر زوال العهد السوفياتي بـ "برميل الفودكا، وهو يتدحرج في أروقة الكرملين وبين قدمَيْ القدّيسة كاترين؟".
هل يكفي أن يقول فلاديمير بوتين "أنا القيصر" لتكون روسيا، بمساحتها الهائلة، وبمخزونها التاريخيّ (وحيث لا ينقطع صهيل الخيول)، الإمبراطوريّة التي تُقارِع الإمبراطوريّة الأميركيّة التي لم تستنسخ، كما يتردّد، الإمبراطوريّة الرومانيّة؟
الواقع أنّها لم تأخذ من هذه الإمبراطوريّة سوى الرؤية المعماريّة. توماس جيفرسون، ثالث الرؤساء الأميركيّين، أصرَّ على تسمية مبنى الكونغرس بـ "الكابيتول"، وهي الكلمة اللّاتينيّة التي ترتبط بمَعبد جوبيتر القائم في "كابيتولين هيل"، إحدى تلال روما.
رجال الإستبلشمنت واثقون من أنّ الحرب العالَميّة الثالثة، وهي الدائرة الآن، إذ يُشارِك فيها نحو 50 دولة، وإنْ على مساحة محدودة، لن تنتهي بانفجار القنبلة النوويّة، وإنّما بانفجار الدولة الروسيّة التي يبدو، من خلال تصريحات وزير الدفاع سيرغي شويغو، أنّها استَنفدت احتياطيّاتها من الصواريخ والقنابل، وقد دخلت "مرحلة اللّهاث"، كما ألمح المتحدّث باسم البنتاغون جون كيربي.
هذا ما تتوقّعه وكالةُ الاستخبارات المركزيّة أيضاً بعدما كانت أوّل مَن نقلَ إلى البيت الأبيض أنّ الروس استكملوا استعداداتهم العسكريّة لغزو أوكرانيا، ما أتاح للإدارة اتّخاذَ الترتيبات، وإجراء الاتّصالات (للتعبئة الأطلسيّة)، ما فَاجأ القيادة الروسيّة التي كانت تُراهِن على الدخول الصاعق إلى كييف، بالتالي فرار فولوديمير زيلنسكي.
اللّافت هنا أنّ السناتور الجمهوريّ البارز ليندسي غراهام لا يستبعد أن "يبيعنا فلاديمير بوتين، الخارج منهكاً من حرب أوكرانيا، سيبيريا بثرواتها الهائلة والمُشاطِئة لمضيق بيرنغ الفاصل بين أميركا وروسيا، مثلما باعنا ألكسندر الثاني، الخارج مُنهَكاً من حرب القرم، آلاسكا (في العام 1867) التي لو بقيت تحت الحكم الروسي لربّما تغيّرت الخارطة الاستراتيجيّة للعالَم".
لكن أَلَم يقل زبغنيو بريجنسكي في كتابه: "رؤية استراتيجيّة.. أميركا وأزمة قوى العولمة": "روسيا ليست دولة عظمى من دون أوكرانيا"، حتّى أنّ فلاديمير، أمير كييف، هو مَن صنع روسيا. وكان الرجل الذي قال إنّ حصانه يعشق الأنهار. من هنا كان يطوي النهر تلو النهر ليرسم المدى الجغرافيَّ لدولته.
باحثون أوروبيّون يرون أنّ من الصعب توقُّع انهيار الداخل الروسي. هذه مسألة تتعلّق بالتشكيل السيكولوجي للشعب هناك. نصيحة بأن تؤخذ معركة ستالينغراد ضدّ الجحافل النازيّة بالاعتبار. نظرة الروس إلى أوكرانيا تتعدّى نظرة بريجنسكي. هذه معركة وجود. إذا ذهبت أوكرانيا من أيديهم، ذهبت روسيا.
معنىً آخر، إنّ الروس في هذه "الحرب العالَميّة الثالثة" يُقاتلون بالذهنيّة ذاتها التي قاتلوا فيها إبّان الحرب العالميّة الثانية في ستالينغراد. من هنا ترى "البروباغندا الروسيّة" أنّ الحرب في أوكرانيا، إنّما هي حرب ضدّ النازيّة. في نظرهم أنّ "وَرَثَة الفوهرر هُم مَن يتولّون إدارة السياسات في كييف!".
التنّين عند المُفترَق
ثمّة رؤية مُقابلة للرؤية الأميركيّة. مَن يصرخ أوّلاً: أميركا أم روسيا؟ حتّى داخل الولايات المتّحدة، هناك تحذيرات متلاحقة من "الغوص أكثر فأكثر في الرّهان لأنّ التنّين ينتظرنا عند المُفترق". الصراع الحقيقي مع الصين. في هذه الحال إنّها لمُجازَفة استنزاف الإمكانات السياسيّة والعسكريّة (والماليّة بطبيعة الحال) في الحرب ضدّ روسيا.
جوزف ستيغليتز (نوبل في الاقتصاد) الذي تنبّأ بوقوع الأزمة الماليّة في العام 2008، بسبب التكلفة الهائلة للحرب في كلٍّ من أفغانستان والعراق (3 تريليونات دولار)، يدقّ ناقوس الخطر من أن تكون "أزمة أخرى، ربّما أزمة أكثر دويّاً، بانتظارنا".
كانت وزيرة الخزانة الأميركيّة جانيت يلين قد بَعثت برسالةٍ إلى رئيس مجلس النوّاب كيفن مكارثي تبلغه فيها أنّ "ديون البلاد المستحقّة عند حدودها القانونيّة 31.4 تريليون دولار، وأنّ الوزارة في صدد تنفيذ إجراءات استثنائيّة كي لا تتخلّف عن تأدية الديون، ما قد يفضي إلى عواقب وخيمة على الاقتصاد الأميركي، كما على الاستقرار المالي".
هذا منطق الأشياء، وإنْ آثَرَ آرنولد توينبي استخدامَ مصطلح "منطق التاريخ". ولكن هذه هي أميركا، كما قال الكاتب والسياسي الفرنسي جان جاك سرفان شرايبر في كتابه "التحدّي الأميركي"، ليُلاحظ قبل رحيله بالكوفيد-19 في العام 2020، أنّه يمكن وصف التكنولوجيا الأميركيّة بـ "الميثولوجيا الأميركيّة"، وحيث يتفوَّق الآلهة الأميركيّون على الآلهة الإغريق. لكن أيّ إمبراطوريّة لم تحمل في ثناياها عناصر البقاء إلى جانب عنصر اللّابقاء، وهنا التفاعل الزلزاليّ بين الحالتَيْن حتّى لو قيل "إمبراطوريّة لزمن آخر". العالِم المُستقبليّ الأميركي بيتر بيشوب يسأل أصدقاءه "على أيّ كوكب تريدون قضاء بقيّة حياتكم؟". لكنّ البريطاني - الياباني كازرو ايشيغورو (نوبل في الآداب) سأل ما إذا كانت أميركا، بإمكاناتها الأسطوريّة، "باتت تشكِّل عبئاً على البشريّة؟". ليُضيف أنّ "الأميركيّين بالإيقاع التكنولوجي المذهل، وبالانتشار الاستراتيجيّ المُترامي، قد لا يكتفون بإدارة العالَم. ربّما يفكّرون بإدارة الكَون. لا شيء يمنعهم من أن يصنعوا للفيل أجنحة!".
الحرب السيبرانيّة
منذ اندلاع الحرب الباردة والباحثون المستقبليّون لم يتخلّوا عن النظرة الكلاسيكيّة للصراع تحت عنوان: "متى يتراشق الأميركيّون والروس بالصواريخ النوويّة؟". هذا قبل أن يَظهر على السطح نوعٌ آخر من الحروب، وهو لا يقلّ هَولاً عن الحرب النوويّة: الحرب السيبرانيّة التي يُمكن أن تشلّ القوى العظمى لتظهر، في لحظةٍ ما، كما لو أنّها عادت إلى العصر الحجريّ.
لا أحد كان يتوقَّع أنّ الصراع بين القوّتَيْن يمكن أن يكون محصوراً بأرض دولة ما. جو بايدن، إذ أخذ بنظريّة باراك أوباما حول "القيادة من الخلف"، بدا وكأنّه بالأرمادا الماليّة والإعلاميّة، وهُما ركيزتان أساسيّتان في الصراع، في قلب المعركة.
ألهذا نَجِدُ كيف أنّ اللّهجة الروسيّة مرتبكة ومتوتّرة أحياناً، لكأنّها من موقف الضعف أو التوجُّس، لا رغبة لها البتّة في الصراع المباشر مع أميركا. في ذروة الضجيج العسكري، يتبادل لويد أوستن وسيرغي شويغو وجهات النظر، كما لو أنّهما يتبادلان الكؤوس.
ماذا حين تنحشر الدولتان في عنق الزجاجة، وهُما لا بدّ أن يصلا إلى هذه اللّحظة. هنا تظهر الحاجة إلى ذلك "الوسيط الجبّار". إيمانويل ماكرون، وبالتنسيق مع أولاف شولتس، يسعيان إلى دَورٍ تضْطلع به الصين. مَن يستطيع أن يُقنعَ الأميركيّين بالذّات، وهُم الذين يراهنون (على الأقلّ) على ذلك اليوم الذي يرغمون فيه القيصر على تفكيك ترسانته النوويّة. هل هو الخيال الهوليوودي؟!
صفقة حول تايوان
الجنرال مارك ميلي قال إنّ بلاده لا تستطيع أن تخوضَ الحربَ مع روسيا والصين في آنٍ واحد. الآن ضدّ روسيا لإقصائها عن الحلبة، بانتظار أن تقرع الطبول في الباسيفيك لتبدأ الحرب العالَميّة الرّابعة. ولكن هل إنّ الولايات المتّحدة يُمكن أن تدافع عن تايوان، أو تحشد لها دوليّاً، مثلما تفعل في أوكرانيا؟
الأوروبيّون لا يعتقدون ذلك، بعدما استنزفت إمكاناتهم في شرقي القارّة. ولكن، ألا يتردّد في بعض الأوساط الأوروبيّة العليا أنّ إشاراتٍ وصلت إلى بكين تفيد بأنّ الولايات المتّحدة ستكون جاهزة، وبعدما تضع الحرب أوزارها، للجلوس إلى طاولة المفاوضات حول تايوان، وإعادتها إلى الصين، كما حدث لهونغ كونغ، وإن كانت بريطانيا قد تخلّت عنها لنفاد مدّة الإيجار الموقَّع في العام 1898.
في هذه الحال، ما هو موقف اليابان وكوريا الجنوبيّة، وحتّى الفيليبّين؟ هنا لعبة الفيلة. ولكن ألا تُصبح المناطق الغربيّة من الولايات المتّحدة، وبينها كاليفورنيا، عارية على المستوى الاستراتيجي؟
عبر القرون، مَن يُراقص الكرة الأرضيّة إنّما يراقص كرة النار، كما كَتَبَ الياباني ياسوناري كاواباتا عن "العواصف التي تهبّ فجأة من الجحيم". هنا الخوف الكبير من أن تقترب الأصابع أكثر فأكثر من الأزرار النوويّة. ولكن ما الفارق في الموت بين القنبلة النوويّة والسكّين؟! سؤال وجَّهه كاواباتا إلى قايين.
غريب أن يستشهد صاحب "الجميلات النائمات" الذي ينتمي إلى حضارة أخرى، وإلى مُعتقد آخر، بالآية القرآنيّة "مَن قَتَلَ نفْساً بغير نَفْس، أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قَتَلَ الناس جميعاً، ومَن أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعاً".
حتّى وإن كان الكلام موجَّهاً إلى بني إسرائيل، بطبيعة الحال يسري على كلّ المخلوقات التي قد تبحث عبثاً عن نظامٍ عالَمي لا تندلع فيه الحروب المجنونة.. ولا تتحوّل فيه المُدن إلى حطام.
مثالب النظام العالميّ الحاليّ تظهر في مجلس الأمن الدولي الذي قراراته لا تسري إلّا على الضحايا. وها أنّ البشريّة تكاد تقف عند أبواب المقابر، لأنّها لا تدري ما ستؤول إليه الحرب العالَميّة الثالثة بين أميركا وروسيا.
لا قلب ولا عقل للإمبراطوريّات، كما رأى وول ديورانت، صاحب "قصّة الحضارات". ولكن ألا يُفترض بالإمبراطوريّات، وأكثر من أيّ جهةٍ أخرى، أن تكونَ أقرب إلى العقل وإلى القلب، لإعادة هَيْكَلَة المنظّمة الدوليّة، على المستوى القانونيّ، كما على المستوى العملانيّ، كي نطفئ كرة النار، وكي لا يبقى مجلس الأمن الدولي "شاهد ما شافش حاجة؟!".
*كاتب سياسي وباحث من لبنان - مؤسسة الفكر العربي