حوار بين ميشال فوكو وجيل دولوز
ترجمة وتقديم: حسّونة المصباحي*
نُشر هذا الحوار في مجلّة "القوس" L'Arc الفرنسيّة في عددها الصادر في الرّابع من شهر آذار/ مارس 1972. ونظراً لأهميّة الفيلسوفَيْن الفرنسيَّيْن - العالَميَّيْن الكبيرَيْن: ميشال فوكو وجيل دولوز، نُعيد نشره مُترجَماً إلى العربيّة، تعميماً للفائدة، ولأنّه يُشكّل مرآةً لحقبة سياسيّة وفكريّة وفلسفيّة، لا تزال أسئلتها تُتَداوَل، وبقوّة، إلى اليوم.
----
- ميشال فوكو: واحد من أنصار الزعيم الصيني ماوتسي تونغ قال لي: "أفهم جيّداً لماذا سارتر يُناصرنا ويقف معنا، ولماذا يهتمّ بالسياسة، وبأيّ معنى. وأنت، أفهم قليلاً، أنّك عند الاقتضاء، طرحتَ قضيّة السجن. أمّا دولوز، فلا أفهمه حقّاً".. هذا السؤال حيَّرني جدّاً، لأنّ ذلك يبدو لي واضحاً.
- جيل دولوز:ربّما لأنّنا بصدد التعامل مع مشكلة النظريّة والفعل بطريقة جديدة. فأحياناً نحن نعتبر أنّ الفعل هو تطبيق النظريّة على أرض الواقع، وكنتيجة لها، وأحياناً أخرى، يكون الأمر عكس ذلك، إذ نحن نعتقد أنّ الفعل يكون مُوحياً للنظريّة، وسابقاً وموُلّداً لنظريّة مقبلة. وإجمالاً نحن نعتبر العلاقة بينهما على شكل سيرورة تجميع في معنىً أو في معنىً آخر. وربّما يُطرحُ السؤال بالنسبة إلينا بشكلٍ آخر. والعلاقة بين النظريّة والفعل أكثر تجزّءاً وانقساماً. فمن ناحية تكون النظريّة محليّة، ونسبيّة بالنسبة إلى مجال مُحدّد، ويُمكن أن تُطبَّق في مجالٍ آخر، يكون بعيداً إلى حدّ ما. والتطبيق لا يكون له شبيهاً قَطّ.
من جانب آخر، حالما تنغرس النظريّة في مجالها الخاصّ بها، فإنّها تصطدم بعراقيل، وبجدران، وبمُعارضات تجعل من الضروريّ تعويضها بنمطٍ آخر من الخطاب (وهذا النّمط يمكن أن يُحيل إلى مجال آخر). التطبيق مجموع مناوبات بين نقطة نظريّة وأخرى، والنظريّة محطّة لتطبيقٍ يفضي إلى آخر. ولا نظريّة يُمكن أن تتطوّر من دون أن تصطدم بما يُشبه الجدار؛ لذا لا بدّ من التطبيق لإحداث ثُقْب في هذا الجدار. مثلاً، أنت بدأتَ بتحليلٍ نظريّ لموضوع السجن مُجسَّداً في مستشفى المجانين في القرن التّاسع عشر في ظلّ الرأسماليّة؛ ثمّ تجد نفسكَ أمام ضرورة أن يَشْرَعَ الناسُ المحبوسون في الكلام، وأن يجدوا مَن ينوب عنهم (أو بالعكس أنتَ مَن كنتَ المُنتدَب بالنسبة إليهم)، وهؤلاء الناس يجدون أنفسهم في السجن، وهُم في السجن. وعندما أنشأتَ: "مجموعة أخبار السجون"، كنتَ قد فعلتَ ذلك بحسب القاعدة التالية: وضْع قواعد يكون فيها بإمكان المساجين أن يتكلّموا بحسب إرادتهم. وإذن سيكون من الخطأ، بحسب ما ادّعاه نصير ماو تسي تونغ أن نقول إنّك مررّت إلى التطبيق اعتماداً على نظريّاتك. والواقع أنّه ليس هناك عدم تطبيق، ولا عدم مشروع إصلاح، ولا عدم تحقيق بالمعنى التقليدي للكلمة، بل كان هناك شيء آخر: نظام من المناوبات في مجموع، وفي تعدُّد حلقات وأجزاء نظريّة وعمليّة في الوقت نفسه. بالنسبة إلينا، لم يعُد المثقّف موضوعاً ووعياً مُمَثّلاً أو تمثيليّاً. والذين يفعلون ويناضلون لم يعودوا يُمثِّلون، حتّى عبر حزب أو نقابة يستأثران بحقّ أن يكوِّنا وعيهم. مَن الذي يتكلّم؟ ومَن الذي يفعل؟ التعدّدية دائماً، حتّى وإن تعلّق الأمر بالذي يتكلّم ويفعل. نحن جميعاً مجموعات صغيرة. لم تعُدْ هناك تمثيليّة، وليس هناك سوى الفعل، وفعل النظريّة، وفعل التطبيق والمُمارَسة، في علاقاتِ تناوُبٍ وشبكات تواصل.
- ميشال فوكو: يبدو لي أنّ "تسييس" المثقّف كان يتمّ تقليديّاً، انطلاقاً من أمرَيْن: موقعه في المجتمع البورجوازي وفي نظام الإنتاج الرأسمالي، وفي الإيديولوجيا التي أنتجتها أو فرضتها (أن يكون الإنسان مُسْتَغَلّاً، وملعوناً، ومَقصيّاً، ومُثْقَلاً بالبؤس والشقاء، ومُتّهما بالتخريب وبسوء الأخلاق...إلخ). وخطابه ككاشف لحقيقة ما، وكمُبرِز لعلاقات سياسيّة، هناك حيث لا نتحسّسُ نحن ذلك. هذان الشكلان من "التسييس" ليسا غريبَيْن بعضهما عن بعض؛ إلّا أنّ ذلك لا يعني أنّهما يتطابقان إجباريّاً. وكان هناك نمطُ المثقّف "الملعون"، ونمط المثقّف "الاشتراكي". هذان الشكلان من "التسييس" اختلطَ بعضُهما ببعض في فترات ردّ الفعل العنيف من جانب السلطة بعد ثورة 1848، وبعد "كومونة باريس" 1870، ثمّ بعد 1940: كان المثقّف مرفوضاً، ومُلاحَقاً في اللّحظة التي "تظهر فيه الأشياء على حقيقتها"، وفي الوقت الذي يجب ألّا يُقال فيه إنّ الملك عار. المثقّف يقول الحقيقة للّذين لم يكونوا قد رأوها بعد، وباسم مَن لا يستطيعون أن ينطقوا بها: وعي وبلاغة. لكن ما اكتشفه المثقّفون منذ الدّفْعَة الجديدة، هو أنّ الجماهير لم تعُد في حاجة إليهم لكي تعرف، لأنّها تعرف جيّداً، وبوضوح أكثر منهم. وهي تقول ذلك بصوتٍ عالٍ. لكنّ هناك نظاماً من السلطة يحدّ ويَمنع ويُبْطلُ هذا الخطاب، وهذه المعرفة، إذ إنّ السلطة ليست في الدوائر العليا للرقابة فقط، وإنّما هي تنْغرسُ عميقاً، وبدرايةٍ حاذقة وذكيّة جدّاً في شبكة المُجتمع. والمثقّفون أنفسهم يشكّلون جزءاً من نظام السلطة هذا، وفكرة أنّهم "وكلاء" الوعي والخطاب، تنتسب أيضاً إلى هذا النظام. ودَور المثقّف لم يعُد يتمثّلُ في أن يَتَموْضعَ "قليلاً في المقدّمة أو قليلاً إلى جانب"، لكي ينطق بالحقيقة الصامتة لدى الجميع، وإنّما بالأحرى أن يُناضل ضدّ كلّ الأشكال التي يكون فيها في الوقت نفسه: الموضوع والوسيلة: في نظام "المعرفة" و"الحقيقة" و"الوعي" و"الخطاب".
في مثل هذا المجال، لا تُعبّر النظريّة، ولا تترجمُ، ولا تُطبَّقُ فعلاً، وإنّما هي فعل؛ لكنّه فعل محلّي وجهويّ، كما أنتَ تقول، أي أنّه ليس شاملاً، ولا جامِعاً. نضال ضدّ السلطة، نضال من أجل إظهارها والشروع في خرْقِها، هناك حيث تكون الأشدّ مُكْراً والأشدّ احتجاباً وتَخفّياً. نضال ليس من أجل "يقظة الوعي" (منذ وقت طويل اكتسبت الجماهير الوعي كمعرفة، والوعي أصبح موضوعاً تنشغل به البورجوازيّة) لكن بهدف ضرب السلطة والاستحواذ عليها، إلى جانب كلّ الذين يُناضلون من أجلها، وليس في انسحاب لتنويرهم. إنّ النظريّة هي النظام المحلّي للنضال.
- جيل دولوز: تلك هي النظريّة. وهي بالضبط مثل عُلْبَة أدوات. ولا شيء يربطها بما هو دالّ، أو له معنىً ومغزىً. ما تعنيه حقّاً، هو أن تكون صالحة لشيء ما، ولا بدّ أن تكون فاعلة، لكن ليس لذاتها. وليس هناك بشر لاستعمالها، ابتداء من المُنظّر ذاته الذي ينتهي عندئذ بأن يكون منظّراً، ولأنّها لم تعُدْ لها أيّة قيمة، وأنّ اللّحظة لم تحنْ بعد. ونحن لا نعود إلى نظريّةٍ ما، وإنّما نحن نستنبط نظريّات أخرى، وهناك نظريّات سوف نبتكرها. وأمر مُثير للفضول أن يكون هناك كاتبٌ يتّخذُ لنفسه صورة المثقّف الخالص. وبروست عبّر عن ذلك بشكلٍ واضح: تعاملوا مع كتابي كما لو أنّه نَظّارات مُتّجهة إلى الخارج، وإذا ما لم تكُن هذه النظّارات صالحة لكم، ابحثوا عن أخرى، واعثروا بأنفسكم على النظّارات التي تناسبكم، والتي ستكون نظّارات لخَوض معركة. النظريّة لا تُجمّعُ، وإنّما هي تُعدّدُ وتَتعدّد. السلطة بطبيعتها تُجمّعُ، وأنتم تقولون بالضبط: النظريّة بطبيعتها ضدّ السلطة. وحالما تغوصُ نظريّة ما في هذه النقطة أو تلك، هي تصطدم بعدم احتمال أن يكون لها أدنى مردود عمليّ، وأدنى نتيجة عمليّة، ومن دون أن يُحدِث ذلك انفجاراً بالضرورة في نقطة أخرى. لذلك، فإنّ مفهوم الإصلاح مفهوم غبيّ وغير نزيه. أن يكون الإصلاح عمليّة مُبلْوَرَة من قِبَلِ أناس يزعمون أنّهم يتمتّعون بالتمثيل، ولهم أحقيّة التكلُّم باسم الآخرين، وعلى لسان الآخرين، فإنّ عمليّة الإصلاح في مثل هذا الإطار تكون مُجرّد مُهادَنة للنظام القائم، وتوزيعاً للسلطة التي تكون مدعومة بقمع في تزايدٍ مُستمرّ. أو أنّها عمليّة إصلاح تكون مَطلباً مُلحّاً من قِبَلِ مَن هو مَعنيّ بها، وعندئذ تكفّ على أن تكون عمليّة إصلاح، بل هي بالأحرى عمليّة ثوريّة تكون من عمق جانبها الجزئيّ، عازمة على زعزعة السلطة وأركانها ودوائرها ومراتبها. وهذا أمر واضح وجليّ في السجون. أدنى مطلب، وأبسط مطلب للمساجين يكون كافياً لتقويض إصلاحات "بليفن" المزعومة (إصلاحات قُدّمت بعد حركات تمرّد في السجون الفرنسيّة في السبعينيّات من القرن الماضي). وإذا ما توصّل الأطفال الصغار إلى إسماع احتجاجاتهم في رياض الأطفال، أو حتّى إلى طرْحِ أسئلتهم، فإنّ هذا يكون كافياً لإحداث انفجارٍ في مُجمل نظام التعليم. وفي الحقيقة، هذا النظام الذي فيه نعيش، لا يحتملُ شيئاً. من هنا هشاشته الجذريّة في كلّ نقطة، وفي الوقت نفسه قوّته القمعيّة الشاملة. وبحسب رأيي، كنتَ أوّلَ من عَلَّمنا شيئاً أساسيّاً في كُتبكَ، وأيضاً في المجال العملي: عدم أهليّة ومشروعيّة التّكلُّم باسم الآخرين. وأعني بذلك: نحن نسخر من التمثيل، ونقول إنّه انتهى، إلّا أنّنا لا نسْتخْلصُ نتيجة هذا التحوّل "النظري"، أي أنّ النظريّة تحتِّمُ أن يتكلّم الناسُ المعنيّون عمليّاً باسمهم..
- ميشال فوكو: وعندما شرع المساجين في الكلام، كانت لهم نظريّتهم الخاصّة حول السجن، وحول العقاب، وحول العدالة. مثل هذا الخطاب ضدّ السلطة، وهذا النمط من الخطاب - المُضادّ للسلطة الذي يُطلقه المساجين أو مَن نُسمّيهم بالمُنْحَرفين، هذا هو المهمّ، وليس النظريّة حول الجريمة والانحراف. مشكلة السجن مشكلة هامشيّة ومحليّة، لأنّه لا يمرّ بالسجون على مدى عام ما يتجاوز 100000. واليوم في فرنسا قد يكون هناك 300 أو 400000 ألف دخلوا السجون. مع ذلك، فإنّ هذه المشكلة المُهمّشة تهزّ فرنسا كلّها. وقد فوجئت بأن تُثير مشكلة السجون اهتمامَ عددٍ كبيرٍ من الذين لم يعرفوا السجن، وأن أرى عدداً كبيراً من الناس الذين لم يكونوا معنيّين بأيّ حال من الأحوال بهذا الخطاب حول السجون يجدون أنفسهم في النهاية مُهتمّين به، وكيف يرونه في الواقع. كيف نفسِّر هذا: أليس لأنّ نظام السجون والعقاب بصفة عامّة، هو الشكل الذي فيه تتجلّى السلطة في صورتها الحقيقيّة؟ أن نضع إنساناً في السجن، وأن نحتفظ به هناك، وأن نحرمه من الغذاء، ومن التدفئة، وأن نمنعه من الخروج، ومن أن يُمارِس الحبّ...إلخ. كلّ هذا يكشف عن تجلّي السلطة في أبشع مظاهرها، والتي ليس بإمكاننا أن نتصوّرها. في ذلك اليوم، كنتُ أتحدّث إلى امرأة كانت في السجن، وقد قالت لي: "حين نفكّر بأنّي أنا التي بلغتُ سنّ الأربعين، عُوقبت ذات يوم، ودخلتُ السجن، وفُرضَ عليّ نظام الخبز اليابس والماء..." وما يصدمنا في قصّة كهذه، ليس سُخْف ممارسة النظام فقط، وإنّما أيضاً الوقاحة التي بها يُمارس سلطته ونفوذه، والتي هي طريقة بدائيّة وتافهة وطفوليّة. أن نفرض على إنسانٍ ما الخبزَ والماءَ فقط، هذا ما نتعلّمه حين نكون أطفالاً. إنّ السجن هو المكان الوحيد الذي فيه تتجلّى السلطة عارية بكلّ أبعادها الأكثر غلوّاً، وأن تشرِّع نفسها كسلطة أخلاقيّة: "أنا على حقّ عندما ألجا للعقاب، لأنّكم تعلمون جيّداً أنّ السرقة والقتل من الجرائم التي لا تُغتفر.." هذا هو الجانب المُبهر في السجون لأنّ النظام يتجلّى فيه على صورته الحقيقيّة، فلا يتخفّى ولا يضع قناعاً، وإنّما هو يَبرز كشكلٍ من أشكال الاستبداد في أدنى تفاصيله وأدقّها. وهو وقح، وفي الوقت نفسه "طاهر"، و"شرعي" لأنّه بإمكانه أن يتشكّل بكامله داخل اعتبار أخلاقيّ يؤطّرُ ممارسته: استبداده الوحشي يتجلّى، كما لو أنّه هَيْمَنة هادئة للخير ضدّ الشرّ، والنظام ضدّ الفوضى.
- جيل دولوز: وهكذا يكون العكس حقيقيّاً، إذ ليس المساجين هُم وحدهم مَن يُعاملون كأطفال، وإنّما الأطفال أيضاً. الأطفال يخضعون لطفوليّة غريبة عنهم. لذلك يُمكن القول إنّ المدارس شبيهة بالسجون. والمعامل والمصانع سجون أيضاً. وأنتَ كنتَ قد عثرتَ على نصٍّ لجيرمي بنثان Jérémie Benthan
وهو من القرن الثامن عشر، وفيه يقترح إصلاحاً للسجون. وباسم هذا الإصلاح، هو يُعدّ نظاماً دائريّاً فيه يكون السجن الذي تمّ تجديده أنَموذجاً، وفي الوقت نفسه هو يسمح بأن نمرّ من دون أن نشعر بذلك، من المدرسة إلى المصنع، ومن المصنع إلى السجن، والعكس بالعكس. هذا هو جوهر الإصلاح، والحال التمثيليّة التي تمّ إصلاحها. وعكس ذلك، حين يشرع الناس في الكلام، وفي الفعل باسمهم، هُم لا يُعارضون تمثيليّة بأخرى، ولا يعارضون تمثيليّة أخرى بالتمثيليّة الزائفة للسلطة. مثلاً، أتذكّر أنّك قلتَ إنّه ليس هناك عدالة شعبيّة ضدّ العدالة، وهذا يمرّ بنا إلى مستوىً آخر...
- ميشال فوكو: أعتقد أنّه تحت تأثير الكراهيّة التي يكنّها الشعب للقضاء وللقضاة وللمحاكم والسجون، ليس علينا أن نرى فقط فكرة قضاء آخر أفضل وأكثر عدالة، لكن بدءاً، وقبل كلّ شيء، يتوجّب أن يكون لنا إدراكٌ لنقطة فريدة فيها تُمارَس السلطة على حساب الشعب. والنضال المُناهِض للسلطة القضائيّة، هو في الحقيقة نضالٌ ضدّ السلطة. ولا أعتقد أنّه نضالٌ ضدّ المظالم، وضدّ مظالم القضاء، ومن أجل توظيف أفضل للمؤسّسة القضائيّة. مع ذلك هناك ما يَصْدُمُ ويُدهش حين تكون المؤسّسة القضائيّة في كلّ مرّة تحدث فيها انتفاضاتٌ وانشقاقاتٌ وحركاتُ تمرُّد، مُستهدَفة تماماً مثلما هو الحال بالنسبة إلى المؤسّسة الضريبيّة، والجيش وبقيّة أشكال السلطة. وفَرَضيّتي، وهي ليست سوى فرضيّة، هي أنّ المحاكم الشعبيّة، خلال الثورة مثلاً، كانت طريقة بالنسبة إلى البورجوازيّة الصغيرة المُتحالفة مع الجماهير من أجل استعادة حركة النضال ضدّ القضاء واسترجاعها. ولاسترجاعها، تمّ اقتراح نظام محكمة يستند إلى قضاءٍ يُمكن أن يكون عادلاً، وإلى قضاء يُمكن أن يُصدر حكماً عادلاً. وشكل المحكمة نفسها ينتمي إلى أيديولوجيا القضاء التي هي أيديولوجيا البورجوازيّة.
- جيل دولوز: إذا ما نحن اعتبرنا الوضع الحالي، فإنّ السلطة تكون لها رؤية جامعة وشاملة. وأعني بذلك أنّ كلّ أشكال القمع الحاليّة، والتي هي مُتعدّدة، تتجمّعُ بسهولة من وجهة نظر السلطة: القمع العنصريّ ضدّ المُهاجرين، القمع في المعامل، القمع في التعليم، القمع ضدّ الشباب بصفة خاصّة. وليس علينا أن نبحث فقط عن وحدة هذه الأشكال في حركة أيّار - مايو 68 فقط، وإنّما أكثر من ذلك ففي إعداد، وفي تنظيمٍ مدروس ومُتّفَق عليه بالنسبة إلى مستقبلنا. الرأسماليّة الفرنسيّة بحاجة كبيرة إلى "مقْوَد" للبطالة، وهي تُهمل القناع اللّيبيراليّ والأبويّ للشغل المتوفّر للجميع. من وجهة النَّظر هذه، تَجد المسائل التالية وحدتها: تقليص عدد المُهاجرين، بعدما تكون الأعمال الأكثر قسوة ومَهانة قد مُنحت لهم، والقمع في المصانع، لأنّ ذلك يعني منْح الفرنسيّين "مذاقاً" للعمل الأشدّ عسراً وصعوبة، والمعركة ضدّ الشباب والقمع في المؤسّسة التربويّة، بما أنّ القمع البوليسي أكثر حدّة، لأنّ هناك انخفاضاً في عدد الشبّان في سوق الشغل. أصناف مهنيّة مختلفة مدعوَّة إلى مُمارَسة وظائف بوليسيّة تزداد دقّةً ووضوحاً شيئاً فشيئاً: الأساتذة، علماء النفس، مُربّون من مختلف الأصناف...إلخ. وهنا إشارة إلى شيءٍ ما كنتَ قد أعلنتَ عنه منذ زمن طويل، وكنّا نظنّ أنه لن يتكرَّر: تقوية أجهزة الحبْس. وأمام هذه السياسة العامّة للسلطة، هناك ردود فعل محليّة، وعمليّات دفاع حيويّة وأخرى وقائيّة. لكن ليس علينا أن نُجَمّعَ ما لا يُمكن تجميعه من جانب السلطة، ومن جانبنا، لن يكون باستطاعتنا أن نُجَمِّعَ، إلّا بإقامة أشكالٍ تمثيليّة للمركزيّة والتدرُّج. بالإضافة إلى ذلك، ما يتوجّبُ علينا القيام به، هو التوصّل إلى إقامة نظامٍ من الشبكات، ومن القواعد الشعبيّة. وهذا هو الصعب. وعلى أيّة حال، الواقع بالنسبة إلينا لا يمرّ عبر السياسة، بالمعنى التقليدي للتنافُس على السلطة وتوزيعها، ولا عبر الدوائر التي تُعتبر تمثيليّة بالنسبة للحزب الشيوعي، وللنقابات. الواقع بالنسبة إلينا اليوم هو ما يحدثُ في المصنع، وفي المدرسة، وفي الثكنة العسكريّة، وفي السّجن، وفي مركز للشرطة. وهنا يكون الخبر عن الفعل مُختلفاً عن أخبار الصحف وعن أخبار وكالات الأنباء.
- ميشال فوكو: الصعوبة والارتباك اللّذان يحصلان لنا حين نرغب في العثور على أشكال النضال المُلائمة، ألا يأتيان من أنّنا لا نزال نجهل مفهوم السلطة؟ وبعد كلّ هذا، كان لا بدّ من انتظار القرن التّاسع عشر لكي نُدرك معنى الاستغلال، لكنّنا لم نفهم بعد معنى السلطة. وماركس وفرويد، ربّما لم يكونا كافيَيْن للمساعدة على فهْمِ هذا الشيء الغامض، والذي هو مرئيّ وغير مرئي، وحاضر ومخفيّ، ومُتغلغل في كلّ المجالات في الوقت نفسه، والذي يُسمّى السلطة. إنّ نظريّة الدولة، والتحليل التقليدي لأجهزة الدولة، ربّما لم يمكّنا من توضيحٍ كافٍ وشافٍ لمُمارَسة السلطة ووظيفتها. إنّه المجهولة راهناً: مَن يُمارسُ السلطة؟ وفي أيّ مجال هو يمارسها؟.. ونحن نعرف جيّداً أنّ مَن يُمارسها ليسوا الحكّام الذي يمسكون بالسلطة. إلّا أنّ مفهوم "الطبقة الحاكمة"، ليس غير واضح وغير مُبلْور بشكلٍ مُقنع...إلخ. "القيادةّ"، و"الحُكم"، و"الهَيْمَنة"، "مجموعة في السلطة"، "جهاز الدولة"، نحن هنا أمام لعبة مفاهيم تتطلّبُ منّا التحليل. وفي الوقت نفسه، ربّما يتوجّب علينا أن نَعْلمَ إلى أيّ حدّ تُمارَس السلطة، وعبر أيّ آليات لبلوغ سلطات غالباً ما تكون ضعيفة على مستوى الترتيب، والمُراقَبة، والمنع، والحراسة، والضغوط. وفي كلّ مجال تكون هناك سلطة ومُمارَسة السلطة. لكن لا أحد يملكها. مع ذلك، هي تُمارَسُ دائماً في اتّجاهٍ مُعيّن بواسطة البعض من هنا، والبعض من هناك، بحيث نحن نجهل في النهاية مَن يُمارسها حقّاً. وإذا ما كانت قراءة كتبكَ منذ "نيتشه"، وحتّى "الرأسمالية والفُصام" بالنسبة إليّ أساسيّة، فلأنّها تبدو لي ذاهبة أبعد ما يُمكن أن يكون نحو موْقع هذه المسألة. وفي النهاية مسألة السلطة وعدم المُساواة بين السلطات، ومعاركهما. وكلّ معركة تدور حول مركزٍ خاصّ بالسلطة، (واحد من هذه المراكز المتعدّدة التي يُمكن أن يكون قائداً صغيراً، وحارساً لعمارة شعبيّة، ومديراً للسجن، وقاضياً، ومسؤولاً نقابيّاً، ورئيس تحرير جريدة). وإذا ما نحن أشرنا إلى المراكز وفضحناها جهاراً، فإنّ ذلك يُعتبر نضالاً، ليس لأنّه ليس هناك واحداً واعياً بذلك، وإنّما لأنّ الكلام حول هذا الموضوع، واقتحام شبكة الأخبار الرسميّة، وتسمية مَن فَعَلَ هذا، والإشارة إلى مَن فَعَلَ هذا، يُعتبَر أوّل انقلاب على النظام، وأوّل خطوة باتّجاه معارك أخرى ضدّ النظام. وإذا ما كانت خُطب مثل خطب المساجين، وخُطب أطبّاء السجون مثلاً تُعتبر نضالات، ومعارك، فلأنّها تُصَادِر السلطة ولو للحظة لكي تتكلّم على السجن الذي يحتلّه الآن الإداريّون وعرّابوه الإصلاحيّون. وخطاب النضال لا يتعارض مع اللّاوعي، وإنّما مع السرّ. وهذا يبدو أقلّ بكثير. وإذا ما كان أكثر؟ هناك سلسلة حول عدد من الالتباسات بخصوص "المخفيّ"، والمكبوت، و"المسكوت عنه"، والتي تسمح بالعلاج النفسي بثمنٍ بخْس لأيّ واحد يكون متورّطاً في النضال. الموضوعان اللّذان نلتقي بهما بالأمس القريب، أعني بذلك "الكتابة هي المسكوت عنه"، و"الكتابة هي الحقّ الكامل في التمرُّد"، تبدو لي فاضحة لعددٍ ما من العمليّات التي يجب التشهيرُ بها بكلّ قسوة وحدّة.
- جيل دولوز: أمّا بالنسبة إلى المسألة التي تطرحُها: نحن نرى مَن يستفيد، ومَن يستغلّ، ومَن يحكم، غير أنّ السلطة لا تزال تبدو شيئاً مُتَفشّياً ومُنْتَشراً. وأنا أستنتج ما يلي: حتّى لو أنّ، خصوصاً الماركسيّة، حدَّدت المسألة بمفاهيم المصلحة (السلطة في قبضة الطبقة المُهَيْمِنة) في اللّحظة ذاتها نحن نصطدم بالسؤال التالي: كيف يُمكن لأناسٍ ليس لهم مصالح، يتّبعون السلطة، ويعتنقونها بقوّة مُكتفين بجزءٍ صغير منها؟ ربّما بمفهوم المصلحة، سواء كانت اقتصاديّة أم لا واعية، لا تكون للمصلحة الكلمة الأخيرة، فهناك مصالح للرغبة تُفسّرُ أنّه بإمكاننا أن نرغب إذا ما كنّا بحاجة إلى ذلك، لا ضدّ مصلحتنا الخاصّة، لأنّ مصلحتنا تُتابعنا دائماً، وهي توجد هناك حيث تضعها الرغبة، لكن ليس بتلك الرغبة ذات الطريقة العميقة والمُتفشّية أكثر من المصلحة. علينا أن نقبل بصرخة الرايخ: لا لم تُخْدعْ الجماهير، لكنّها رغبت في الفاشيّة في لحظةٍ ما. هناك مصالح رغبة تُشكّلُ السلطة، وتنشرها، بحيث تكون في الوقت نفسه في مستوى الشرطي، وفي مستوى الوزير الأوّل، وبذلك لا يكون هناك فَرق بطريقة مُطلَقة بين السلطة التي يُمارسها شرطيّ صغير وبين تلك التي يُمارسها الوزير الأوّل. إنّ طبيعة مصالح الرغبة التي على كتلة اجتماعيّة، هي التي تفسِّر كيف أنّ أحزاباً أو نقابات، ربّما تكون لها مصالح ثوريّة باسم مصالح طبقة، يمكن أن تكون لها مصالح إصلاحيّة أو رجعيّة تماماً على مستوى الرغبة.
- ميشال فوكو: كما أنتَ تقول، العلاقات بين الرغبة، وبين السلطة والمصلحة، أكثر تعقيداً، بحسب ما نحن نعتقد عاديّاً، وليس بالتحديد أن يكون الذين يُمارسون السلطة، لهم مصلحة في مُمارستها، والذين لهم مصلحة في مُمارستها، لا يمارسونها. والرغبة في السلطة تقوم بلعبة بين السلطة والمصلحة، لا تزال غريبة وفريدة من نوعها. ويحدثُ في زمن الفاشيّة أن ترغب الجماهير في أن يُمارِس البعض السلطة، بعضٌ لا يختلط بها مع ذلك، لأنّ السلطة تُمارَس عليها، وعلى حسابها، حتّى موتها وتضحياتها، وحتّى المجازر، ومع ذلك هي ترغبُ في أن تُمَارَس تلك السلطة. لعبة الرغبة هذه، ولعبة السلطة والمصلحة ليست معروفة إلى حدّ الآن. وكان لا بدّ من وقتٍ طويل لكي نُدرك معنى الاستغلال. والرغبة كانت وستظلّ قضيّة كبيرة. ومن المُحتمل أن تكون النضالات التي تُخاض الآن، وهذه النظريّات المحليّة والجهويّة، المُتَقطّعَة التي هي في طوْر التبلْور في قلب هذه النضالات، ومعها تتلاحم وتشتبكُ، هي بداية اكتشاف للطريقة التي بها تُمارَسُ السلطة.
- جيل دولوز: أعود إذن إلى السؤال: الحركة الثوريّة هي متوزّعة في بؤرٍ عدّة اليوم، وليس ذلك بسبب ضعف أو عدم كفاية، لأنّ بعض التجمّعات لا تزال بالأحرى في قبضة السلطة والرجعيّة. مثلاً، فيتنام جواب محلّي رائع. لكن كيف نفهم الشبكات، والعلاقات العرضانيّة بين هذه النقاط النشطة والمتقطّعة بين بلد وآخر، أو داخل البلد نفسه؟
- ميشال فوكو: هذا التّقطُّع الجغرافي، ربّما يعني ما يلي: بما أنّنا نُناضلُ ضدّ الاستغلال، فإنّ البروليتاريا لا تقوم بالنضال فقط، وإنّما هي تحدّدُ الأهداف، والطُّرق، والأماكن، ووسائل النّضال. والتحالُف مع البروليتاريا يعني الالتحاقَ بها في مواقعها، واعتناق إيديولوجيّتها، وتقبُّل أهداف معاركها ونضالاتها. ومعنى ذلك الذوبان فيها. لكن إذا ما كان النضال الذي نخوضه ضدّ السلطة، فإنّ كلّ الذين تُمارَس السلطة ضدّهم كتعسّفٍ وكتجاوز، وكلّ الذين يُقرّون بأنّها غير مُحْتَمَلَة، بإمكانهم أن ينخرطوا في النضال هناك حيث يكونون، انطلاقاً من نشاطهم أو (سلبيّتهم). وبخوْض هذا النضال الذي هو نضالهم، والذين هُم يعرفون جيّداً أهدافه ومطامحه، والذين هُم قادرون على تحديد طُرقه بطريقة فائقة، هُم يقتحمون المصير الثوريّ. وهنا يُمكن أن يتحالفوا مع البروليتاريا، بما أنّ السلطة مُمارَسةٌ كما تُمارَس، أي للإبقاء على الاستغلال الرأسمالي. لذلك يُمكن القول إنّ انتصارهم الفعلي والعملي للقضيّة الثوريّة البروليتاريّة، يعني النضال، حيث القمع يُمارَس ضدّهم. النساء والمساجين وجنود الفيلق والمرضى في المستشفيات والمثليّون، يقومون بمعركة نوعيّة الآن ضدّ شكل خاصّ بالسلطة المتمثّلة في الضغوط، وفي المُراقبة التي تُمارسُ ضدّهم. مثل هذه النضالات تنخرط من ضمن الحركة الثوريّة شرط أن تكون راديكاليّة، من دون أن تكون إصلاحيّة أو توافقيّة، ومن دون أيّ مُساوَمة مع السلطة ذاتها، حتّى من أجل تغييرٍ ما. وهذه الحركات مُرتبطة بالحركة الثوريّة للبروليتاريا نفسها، بما أنّها مَدعوّة للنضال ضدّ كلّ أشكال المُراقَبة والضغوط التي تمثِّل السلطة في كلّ مجال. ويعني أنّ تعميم النضال، لا يحدث من ضمن التجمّع الذي كنتَ تتحدّث عنه قبل قليل، ذلك التجمّع النظريّ في شكل حقيقة؛ ما يجعل تعميم النضال واقعاً حيّاً، هو نظام السلطة ذاته، وكلّ أشكال ممارسة السلطة وتطبيقاتها.
- جيل دولوز: ولكن علينا ألّا نلمس في أيّ شيء نقطة مُعيّنة في التطبيق، من دون أن نصطدم بهذا المجموع المتفشّي الذي يدفعنا حيناً إلى الرغبة في تقْويضه، انطلاقاً من أدنى مطلب وأبسطه. وكلّ دفاع أو هجوم ثوريّ جزئيّ يلتحق بهذه الطريقة بالنضالات العُمّاليّة.
*كاتب وإعلامي من تونس - مؤسسة الفكر العربي