في اختِيارٍ حتميٍّ بين الشرق و الغرب.. لِماذا قد تَتخلّى تُركيا عن تفاهُماتِها مع روسيا؟ و كَيفَ يُمكِنُ قراءةُ تحوُّل الاستراتيجيات التركية تجاه الرّوس؟

news image

مروة شاهين - تقرير خاص - بث:
بادء ذي بدء، تُشكل العلاقات الوثيقة التي أقامتها تركيا وروسيا بعد النصف الثاني من العقد الماضي نموذجاً استثنائياً في العلاقات الدولية، و على الرغم من أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي ووقفت مع روسيا على طرفي نقيض في بعض الأزمات كالصراع السوري والأزمة الليبية وحرب قره باغ الثانية، فضلاً عن معارضة أنقرة لضم روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014. 
إلآّ أن البلدين نجحا في تحويل الخلافات بينهما إلى تعاون في معظم هذه القضايا وحققا منافع متبادلة. مع أن الحرب الروسية الأوكرانية شكلت اختباراً صعباً للعلاقات التركية الروسية، إلآّ أنها أثبتت قوة هذه العلاقات. 
فبينما احتفظت أنقرة بموقفها الرافض للحرب، فإنها لم تنضم إلى العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا بعد الحرب، كما عززت دورها الحيادي من خلال تقديم نفسها كطرف وسيط بين موسكو وكييف وعملت على منع تفاقم التوترات بين روسيا والغرب من خلال استضافة اجتماعات لقادة الاستخبارات الروس والأمريكيين في أنقرة.

ملامحُ العلاقات التاريخية بين البلدين:

منذ أواخر القرن السادس عشر 16 حتى بداية القرن العشرين، كانت العلاقات العثمانية والروسية عادة سلبية وعدائية واشتبكت القوتين في العديد من الحروب الروسية التركية، التي تضم واحدة من أطول الحروب في التاريخ الحديث.
حيث حاولت روسيا بسط نفوذها في البلقان والسيطرة على مضيق البوسفور على حساب ضعف الإمبراطورية العثمانية. نتيجة لذلك، كان التاريخ الدبلوماسي بين القوتين مريرًا وحادًا للغاية حتى الحرب العالمية الأولى. ومع ذلك، في أوائل العشرينات من القرن الماضي، نتيجة لمساعدة الحكومة البلشفية الروسية للثوار الأتراك خلال حرب الاستقلال التركية، تحسنت العلاقات بين الحكومات.
ثم ساءت العلاقات مرة أخرى في نهاية الحرب العالمية الثانية حيث قدمت الحكومة السوفيتية مطالبات إقليمية وطالبت تركيا بتنازلات أخرى. انضمت تركيا إلى الناتو في عام 1952 ووضعت نفسها ضمن التحالف الغربي ضد حلف وارسو خلال الحرب الباردة، فأصبحت العلاقات بين البلدين في أدنى مستوياتها، ثم بدأت العلاقات في التحسن في العام التالي، عندما تخلى الاتحاد السوفيتي عن مطالبه الإقليمية بعد وفاة ستالين.
و بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991، تحسنت العلاقات بين تركيا وروسيا بشكل ملحوظ وأصبح البلدان من بين أكبر الشركاء التجاريين لبعضهما البعض. أصبحت روسيا أكبر مزود للطاقة لتركيا، بينما بدأت العديد من الشركات التركية العمل في روسيا. في التسعينيات، أصبحت تركيا الوجهة الأجنبية الأولى للسياح الروس.
ومع ذلك، لا يزال البلدان يقفان على طرفي نقيض عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية، لا سيما في القضايا المتوترة مثل نزاع مرتفعات قره باغ، والحرب الأهلية السورية، والحرب الأهلية الليبية، وحرب كوسوفو ولديهم وجهات نظر متعارضة حول الإبادة الجماعية للأرمن. كانت العلاقات متوترة في أعقاب إسقاط طائرة مقاتلة روسية في نوفمبر 2015، وعادت إلى طبيعته مرة أخرى في عام 2016.

الإقتصاد أول حلقات سلسلة العلاقات التركية الروسية:

إذ تعد تركيا شريكة اقتصادية تقليدية لروسيا، ويزداد حجم التبادل السلعي بين البلدين من سنة إلى أخرى. وقد بلغ عام 2004 قيمة 11 مليار دولار. اما في عام 2008 فبلغ قيمة قياسية قدرها 33.8 مليار دولار.
وتشغل تركيا المرتبة الخامسة بين الشركاء التجاريين لروسيا. ومن أهم الصادرات الروسية إلى تركيا موارد الطاقة والمنتجات الحديدية والمواد الكيميائية. اما الواردات الروسية من تركيا فتشمل النسيج ومنتجاته والماكينات ووسائل النقل ومنتجات الصناعة الكيميائية والمواد الغذائية.
كذلك وقع البلدان على مذكرة للتعاون في مجال ضمان النقل الآمن للنفط في منطقة البحر الأسود. ويعطي الطرفان الاولوية ابان ذلك لمشروع انبوب النفط سامسون ـ جيهان الذي بدأ بناؤه في اواخر أبريل/نيسان عام 2010. ويمر الخط من شمال تركيا إلى جنوبها التفافا على مضيقي البوسفور والدردنيل، وسينقل النفط الروسي من حوض البحر الأسود إلى الأسواق الأوروبية.
ونفذت روسيا مجموعة مشاريع ضخمة، أبرزها خط أنابيب السيل التركي لنقل الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا عبر الأراضي التركية.
كذلك تنفذ روسيا مشروع محطة آق قويو النووية، ومصنع شاحنات الغاز، إضافة إلى وجود استثمارات تركية في روسيا.. كما تحتل السياحة مكاناً مهماً في التعاون بين البلدين.

تحوُل المنظور التركي للعلاقات مع روسيا بعد اندلاعِ الحرب الروسية الأوكرانية:

إن النظرة التركية لقيام روسيا بشن حرب على أوكرانيا تأخذ بالتأكيد بعين الاعتبار كون روسيا بمثل هذا التصرف تسعى إلى إعادة دور روسي قديم كانت تلعبه روسيا القيصرية، ألا و هو التوسع شرقاً نحو أوروبا الشرقية.
و بما أن روسيا القيصرية تاريخياً لها عداوات مع تركيا التي كانت تسيطر على اجزاء واسعة من أوروبا الشرقية ، فإن محاولة روسيا التوسع غرباً يشكل دافع قلق لدى الأتراك، الذين يعتبرون أن توسع روسيا نحو البلقان و شرق أوروبا من شأنه أن يضر المصالح التركية في هذه المناطق، لاسيما المناطق التي تتمتع فيها تركيا بنفوذ تاريخي مثل ألبانيا و كوسوفو و البوسنة و العديد من الدول الأوروبية التي تضم اقليات عرقية و دينية ذات علاقات تاريخية مع تركيا.
و على النقيض من هذا، فإن تركيا تنظر إلى الدعم الغربي المستميت لأوكرانيا على أنه محاولة غربية لفرض النفوذ الغربي الشامل على كامل أوروبا بشكل لا يدع مجالاً لأي دولة اقليمية سواء روسيا أو تركيا لمحاولة الحصول على نفوذ في أوروبا الشرقية، ما يتعارض أيضاً مع الطموحات التركية في شرق أوروبا.
و على الرغم من أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي، إلا أنه لا يخفى على احد أن تركيا تتعامل مع الحلف كوضعية أمر واقع و كورقة تستخدمها عند توتر العلاقات مع روسيا، إلا أنها تعلم جيداً أن الحلف يعتبرها دولة دخيلة و إن عضويتها في الحلف ليست تابعة من القيم و المصالح المشتركة بينها وبين دول الحلف، و لكن من المصلحة المتمثلة بموقع تركيا الاستراتيجي و جيوبوليتيك تركيا التي تجعلها دولة ذات أهمية كبرى في منطقة الشرق الأوسط، و بالتالي فإن استخدام تركيا َ تسخير إمكانياتها العسكرية و الجغرافية لخدمة الحلف افضل من تركها لتكون حرة في تكوين تحالفات عسكرية مع دول خارج الحلف، سواء مع روسيا أو بعض الدول العربية و الشرق أوسطية الأخرى.
و بناءً على ما تقدّم، فإن موقف تركيا من الجانبين الروسي و الغربي في ما يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية هو موقف غير متجانس مع الطرفين على حدّ سواء، فلا تركيا تريد أن انتصار الجانب الروسي تماماً، و لا انتصار الجانب الأوكراني المدعوم من حلف شمال الأطلسي على روسيا انتصاراً ساحقاً بما يحقق فائضاً في موازين القوى الأوروبية لصالح الغرب، بل على النقيض من ذلك، تريد تركيا أن يخرج الطرفان بخسائر عالية لكي لا يتمكن اي طرف من تحقيق فائض في القوة لصالحه بما يسمح لتركيا بلعب دور أكبر على الصعيد السياسي و الدبلوماسي سواء في العلاقات مع روسيا أو مع حلف شمال الأطلسي.

جمودٌ مُستَجدٌ في العلاقات الروسية التركية:

في صورة تعكس توجهات احتمالية التوتر المستقبلي في العلاقات بين روسيا و تركيا بعد موافقة تركيا على انضمام السويد إلى الناتو، هدد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف باتخاذ إجراءات استباقية ردا على احتمال انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي، وقال "إن المواجهة المسلحة في أوكرانيا ستستمر إلى أن يتخلى الغرب عن خططه للسيطرة على موسكو وهزيمتها". ما الذي قاد لافروف لإطلاق مثل هذه التصريحات النارية وما هي حصة تركيا فيها؟
و في هذا الإطار قال د. سمير صالحة أن موسكو "القرار التركي بالنظر إلى متطلبات عضويتها في الحلف" كما قال المتحدث باسم الكرملين بيسكوف تعليقاً على المفاجأة التركية. وهو قد يكون محقا عندما يردد "لا أحد في أوروبا يريد رؤية تركيا في الاتحاد الأوروبي. وهنا يجب ألا يضع شركاؤنا الأتراك نظارات وردية أيضاً". لكن التصعيد الروسي الذي يعكس حالة الانفعال والقلق حمله رئيس لجنة الدفاع والأمن في مجلس الاتحاد الروسي فيكتور بونداريف، بقوله، إن تركيا "تتحول إلى دولة غير صديقة بعد اتخاذها سلسلة من القرارات الاستفزازية.. مثل هذا السلوك لا يمكن وصفه بأي شيء سوى طعنة في الظهر"، بحسب تحليل نشره الإعلام التركي. 
و تابع بالقول تمكن الرئيس رجب طيب أردوغان خلال أعمال قمة حلف الأطلسي الأخيرة في ليتوانيا، من تذكير القيادات والعواصم الغربية مرة أخرى بالموقع والدور التركي في لعبة التوازنات الإقليمية والدولية. 
كما قدمت موسكو أكثر من خدمة للقيادات التركية في أصعب الظروف التي عاشتها وتعيشها تركيا. رد الجميل التركي لم يتأخر في أكثر من مكان ومجال.، و قد توج المسار الجديد في العلاقات برفض أردوغان الانضمام إلى العقوبات الغربية المفروضة على روسيا بسبب غزو أوكرانيا. والذي قابله علاقات سياحية وتجارية وصلت إلى 26 مليار دولار في العام المنصرم، وتعهدات روسية بدعم تركيا في الوصول إلى ما تريده في ملفات الطاقة الإقليمية، وتسريع إنجاز بناء محطة الطاقة النووية في مرسين. كما أنها وافقت على إرجاء تسديد تركيا لديونها لها بقيمة 4 مليارات دولار من فاتورة استيراد الغاز.
و اضاف أن الرئيس التركي خلال أعمال قمة حلف الأطلسي الأخيرة في ليتوانيا، من تذكير القيادات والعواصم الغربية مرة أخرى بالموقع والدور التركي في لعبة التوازنات الإقليمية والدولية. لكن موسكو ترى في ذلك محاولات مقايضة على حسابها لذلك هي غاضبة ولأكثر من سبب يتقدمه:

- سماح القيادات التركية لمجموعة من ضباط كتيبة «آزوف» القومية الأوكرانية الذين تستضيفهم تركيا في إطار عملية تبادل أسرى روسية أوكرانية، بالعودة إلى بلدهم مع الرئيس زيلينسكي الذي زار أنقرة الأسبوع المنصرم.
- حديث الرئيس التركي عن استعداد بلاده لدعم عضوية أوكرانيا في الناتو عندما يحين الوقت.

- إعلان أردوغان أن بلاده متمسكة بخياراتها الغربية سواء تحت مظلة حلف الأطلسي أو في مسألة الالتحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي وهو ما يبدد حلم روسيا أن تركيا بدأت تتوجه شرقا وتقترب أكثر من البريكس الروسي الصيني الإيراني.

- قبول أنقرة لتليين مواقفها في موضوع عضوية السويد الأطلسية والإعلان عن قرار نقل الموضوع إلى البرلمان التركي في دورته الجديدة بعد شهرين.


و هذه من المرّات النادرة التي تُصدر موسكو موقفاً ينتقد بشدّة سلوك أنقرة بعد مصالحة وتطبيع وتنسيق بدأ قبل 8 سنوات. فبعد ساعات على تصريحات الناطق باسم الكرملين كان الوزير لافروف ونظيره التركي هاكان فيدان يناقشان اتفاق الحبوب، الذي لم توافق موسكو على تمديده حتى الآن، من دون الحصول على ضمانات بتسهيل صادراتها هي أيضا. ثم جاء الفيتو الروسي في مجلس الأمن في مواجهة الرغبة الغربية بمواصلة عمليات إدخال المساعدات إلى سوريا بالطريقة المعتمدة. والإعلان عن عدم وجود أي تنسيق روسي تركي حول زيارة مرتقبة لبوتين لأنقرة في الشهر المقبل على عكس ما يقال في تركيا. وهو ما يعني أن الكرملين قد يعرقل رغبة الأتراك في أن تكون أنقرة مكاناً لحوار دبلوماسي جديد بين موسكو وكييف، على غرار ما كان يجري في الأشهر التي تلت الهجوم الروسي على أوكرانيا. 
و كان رئيس جهاز الاستخبارت التركي الحالي إبراهيم كالين يتحدث قبل أشهر عن الدول الغربية التي "تمارس ضغوطا لا تصدق علينا، يأتون ويطالبون بفرض عقوبات،

 ويسألون لماذا نتعاون مع روسيا، واحتفلنا بمراسم تسليم أول شحنة وقود إلى محطة أكويو للطاقة النووية، لكننا لم نسمع أيا منهم يسألنا لماذا تسير العلاقات التركية الروسية على هذا النحو". أما اليوم فأنقرة وكما يبدو تستعد لإغضاب موسكو أكثر في المرحلة القادمة بسبب جملة من الملفات الأساسية التي تقلق الأخيرة:
الموافقة على انضمام السويد إلى الناتو، وبالتالي منح واشنطن ما تريد لناحية عضوية السويد في الأطلسي ولاحقا عضوية أوكرانيا وهو ما يعني هزيمة روسيا استراتيجيا في الحرب الأوكرانية حتى ولو كانت تنتصر عسكريا على الجبهات. إلى جانب احتمال التراجع عن خطوة تطبيع العلاقات مع دمشق بعد محادثات أردوغان – بايدن حول موضوع شرق الفرات. فهل تذهب الأمور بالنسبة لتركيا في اتجاه استكمال حلقات المصالحة الإقليمية، أم تذهب في اتجاه التصعيد وإشعال جبهات الشمال السوري مجدّداً على حساب روسيا والنظام وإيران مما يعني توتر العلاقات معهما من جديد؟

لم تتخذ قيادات الناتو قرار دعوة أوكرانيا للحلف لأن موسكو سترى فيه قمّة الاستفزاز. لكنها حققت الخطوة الاستراتيجية التي لا تقل قيمة عنها وهي إقناع تركيا بالتخلي عن معارضتها لانضمام السويد إلى الحلف. الرئيس الأميركي بايدن يريد أكثر من ذلك. أن تكون القمة الأطلسية فرصة تقود إلى تحول استراتيجي في مسار الحرب الروسية ضد أوكرانيا. ويريدها أيضا أن تكون وسيلة لتصفية الحسابات مع موسكو في سوريا والبحر الأسود وجنوب القوقاز. القادر على فعل ذلك هو الموقع والدور التركي وهذا ما يقلق الرئيس الروسي أكثر من غيره. فلِمَ لا تكون المقايضة التركية الأميركية تتم في صفقة أف – 16 وموضوع قسد في شرق سوريا؟
الرد الروسي على أية تفاهمات تركية أميركية تظهر إلى العلن على حساب موسكو، قد لا يتأخر وهو سيكون أبعد وأهم من إلغاء بوتين لزيارته التي يتحدث عنها الأتراك
قد يترك الرئيس التركي نظيره الروسي بوتين أمام معضلة صعبة ومعقدة، هدفها عدم إطالة الحرب في أوكرانيا أكثر من ذلك ويلزمه مجددا بالتوجه نحو طاولة الحل السياسي إذا ما كان يريد موازنة العروض الأميركية المقدمة لأردوغان. موسكو لا تريد منح أنقرة فرصة من هذا النوع حتى ولو لم يحسم الوضع الميداني لصالحها. هي لا تريد أن تجلس أمام طاولة معادلة لا غالب ولا مغلوب، ثم تتحمل لاحقا أعباء وارتدادات الحرب السياسية والاقتصادية في الداخل الروسي وفي الخارج.
الرد الروسي على أية تفاهمات تركية أميركية تظهر إلى العلن على حساب موسكو، قد لا يتأخر وهو سيكون أبعد وأهم من إلغاء بوتين لزيارته التي يتحدث عنها الأتراك. الرد سيكون أولا باتجاه تغيير أرقام دراسة لمصرف "توتشكا" الروسي تظهر أن تركيا شغلت في النصف الأول من عام 2023 المركز الثاني في توريد البضائع إلى روسيا، متجاوزة بيلاروسيا بنسبة 13٪ من جميع البضائع المستوردة من الخارج. والحؤول دون لعب أنقرة للورقة الروسية في المقايضات مع الغرب. لكن التحرك الروسي الحقيقي قد يكون في مناطق تداخل نفوذ استراتيجي أكبر وأهم في جنوب القوقاز وشمال سوريا.

تركيا تتوجه إلى إعادة التوازن في علاقاتها مع الشرق و الغرب:

  حيث يرى موقع ستراتفور أن قرار اللحظة الأخيرة الذي اتخذته تركيا بدعم انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) يعكس توازن أنقرة بين الشرق والغرب، ويبدو أنه كان مدفوعا برغبتها في الحصول على مساعدات اقتصادية ودفاعية غربية.
وأضاف الموقع -وهو مركز دراسات إستراتيجي وأمني أميركي- أن تركيا تسعى إلى تحسين علاقاتها مع الغرب على أمل جذب الاستثمار الأجنبي الذي تشتد الحاجة إليه لإنعاش اقتصادها.
وألمح إلى أنه في السنوات الأخيرة تباطأت تدفقات الاستثمارات الأجنبية إلى تركيا بسبب عدم اليقين جزئيا بشأن ما إذا كان الرئيس رجب طيب أردوغان يريد تعميق علاقات بلاده مع الغرب أو تجنبها مقابل علاقات أفضل مع روسيا والصين.
وأردف بأن تركيا بحاجة ماسة إلى العملة الصعبة والاستثمار للتخفيف من أزمتها الاقتصادية المستمرة، وهو أمر يُعتبر شركاؤها الأوروبيون أفضل تجهيزا لتقديمه من شركائها الشرقيين الذين يعانون من ضائقة العقوبات، مثل روسيا.
كما يمكن للعلاقات الأكثر ودية مع الغرب أن تُمكّن تركيا من الحصول على تنازلات بشأن قضايا الأمن القومي، بما في ذلك إضعاف بعض عمليات حظر الأسلحة الحالية التي يفرضها شركاؤها الأوروبيون.
ولفت ستراتفور إلى أنه في الوقت الذي قد تقترب فيه قليلا من الغرب حاليا، ستظل تركيا تبحث عن فرص لتعميق علاقتها الوثيقة مع روسيا.
وبعد أن أصبحت الانتخابات العامة وراءه الآن وليس هناك انتخابات وطنية أخرى مستحقة حتى عام 2028، فقد دخل أردوغان إلى فترة لن يضطر فيها إلى القلق كثيرا بشأن الإذعان للمطالب الأوروبية واحتمال أن يبدو ضعيفا أمام مؤيديه الوطنيين.
وختم الموقع بالإشارة إلى علاقات تركيا مع الغرب وروسيا ودورها كوسيط رئيسي في النزاعات التي تشمل الجانبين. وكذلك دور أنقرة الحاسم في التوسط في صفقة الحبوب بين روسيا وأوكرانيا في يوليو/تموز 2022. كما ساعدت في تسهيل تبادل الأسرى طوال الصراع في أوكرانيا.

تحولات السياسة الخارجية التركية.. نتيجةٌ حتمية للتحولات الجيوسياسية:

و بكل الأحوال، فقد أدى الصراع في أوكرانيا إلى تحولات جيوسياسية كبيرة وعمليات إعادة ترتيب الإستراتيجيات في جميع أنحاء العالم، في حين أن الحرب كان لها بلا شك عواقب ضارة لأوكرانيا والدول المجاورة لها ، فمن الأهمية بمكان الاعتراف بأن بعض البلدان تمكنت من الاستفادة من الوضع لصالحها و منها تركيا ، المتمركزة على مفترق طرق بين أوروبا وآسيا ، هي إحدى هذه الدول التي ناورت مصالحها بحذر في ظل الأزمة الأوكرانية. حيث استفادت تركيا من الحرب في أوكرانيا  في جوانب مختلفة مثل المكاسب الاقتصادية ، وديناميات الطاقة ، والمواقع الجيوسياسية، و للمزيد من التفصيل نشرح ما يلي:
الفرص الاقتصادية:
لعب قرب تركيا من أوكرانيا دورًا حيويًا في تعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية. مع اشتداد الصراع ، زاد اعتماد أوكرانيا على الأسواق التركية لصادراتها الزراعية والصناعية بشكل كبير، وسارعت الشركات التركية إلى الاستفادة من هذه الفرص ، وإنشاء روابط اقتصادية أقوى مع تنويع خيارات الاستيراد، و  أدت هذه العلاقة التكافلية إلى مسار تصاعدي لنمو الناتج المحلي الإجمالي لتركيا ، وتعزيز الأهمية الإقليمية ، وفهم أكثر دقة لاقتصاد أوكرانيا.
ديناميات الطاقة:
ومن الفوائد البارزة الأخرى لتركيا الناتجة عن الصراع الأوكراني إعادة معايرة ديناميكيات الطاقة لديها، حيث أثارت الحرب مخاوف بشأن استقرار إمدادات الطاقة إلى أوروبا ، وخاصة الغاز الطبيعي ، حيث كانت أوكرانيا طريق عبور رئيسي لخطوط أنابيب الغاز الروسية. و سمح موقع تركيا الاستراتيجي كمركز رئيسي للطاقة بتأمين طرق إمداد بديلة إلى أوروبا ، بما في ذلك ممر الغاز الجنوبي ، مما زاد من أهميتها الجيوسياسية الشاملة في شؤون الطاقة، و  لم يؤد هذا التنويع إلى تعزيز أمن الطاقة في تركيا فحسب ، بل وفر أيضًا فرصًا لتطوير البنية التحتية والاستثمار وموقعًا تفاوضيًا مفيدًا في سوق الطاقة الأوسع .
المواقع الجيوسياسية:
خلق الصراع الأوكراني خطوط صدع جيوسياسية ، وتوجهت تركيا بفضل موقعها لتعزيز نفوذها في جميع أنحاء المنطقة،  مع اندلاع الحرب ، طرحت تركيا نفسها كلاعب رئيسي في المفاوضات الدبلوماسية ، وحظيت باهتمام دولي كوسيط بين الأطراف المتصارعة، و قد أتاح هذا الدور النشط لتركيا الفرصة لإظهار براعتها الدبلوماسية ، وتعزيز الاستقرار الإقليمي ، وزيادة قوتها الناعمة. بالإضافة إلى ذلك ، سمحت شراكة تركيا الاستراتيجية مع أوكرانيا بتقوية العلاقات مع الحلفاء الغربيين مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ، مما أدى إلى زيادة تعزيز مكانتها الإقليمية.
التداعيات الأمنية الإقليمية:
شكّل قرب تركيا من منطقة الصراع الأوكراني تهديدًا أمنيًا محتملاً. ومع ذلك ، فقد أتاح أيضًا فرصة لأنقرة لعرض قدراتها والمساهمة في جهود بناء السلام. لعبت تركيا دورًا حاسمًا في دعم تتار القرم ، وهم أقلية كبيرة متأثرة بالصراع ، و  تتماشى مهام المساعدة والمساعدات الإنسانية والجهود المبذولة لتحسين الظروف المعيشية لتتار القرم مع أهداف سياستها الخارجية الأوسع لدعم المجتمعات الناطقة بالتركية ، سمحت هذه المساعي لتركيا بتعزيز دورها  كلاعب الإنسان وفاعل رئيسي في شؤون الأمن الإقليمي.
مُستقبلُ العلاقات الروسية التركية بعد قمة فيلنيوس:
على مر التاريخ ، كانت لتركيا وروسيا علاقة معقدة ومتعددة الأوجه ، اتسمت بالتعاون والعداء. لكن في السنوات الأخيرة ، شهدت هذه الشراكة الاستراتيجية تطوراً هاماً أدى إلى تحول نموذجي في تحالفهم. فما مستقبل العلاقات التركية الروسية ، و ما هي العوامل التي ستشكل هذه الديناميكية المتطورة والعواقب المحتملة على كلا البلدين والمجتمع الدولي الأوسع؟
اتسمت التفاعلات التاريخية بين تركيا وروسيا بصراعات مختلفة ، تتراوح من النزاعات الإقليمية إلى الخلافات الأيديولوجية. ومع ذلك ، بدءًا من انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991 ، بدأت العلاقة بين البلدين تتحول تدريجياً. بمرور الوقت ، ظهر تعاون عملي حيث أدرك كلا البلدين الفوائد المتبادلة للتعاون في مجالات مثل التجارة والطاقة والأمن.
التعاون الاستراتيجي الناشئ:
أحد المجالات الرئيسية التي تدفع الشراكة التركية الروسية المزدهرة هو التعاون في مجال الطاقة. يوفر الموقع الجغرافي لتركيا ، الذي يعمل كجسر بين أوروبا وآسيا ، لروسيا طريق عبور جذاب لصادراتها من الطاقة إلى أوروبا. في المقابل ، يضمن هذا التعاون وصول تركيا إلى إمدادات طاقة مستقرة. عزز بناء مشاريع الطاقة الكبرى مثل خط أنابيب الغاز الطبيعي ترك ستريم العلاقات المتعلقة بالطاقة بين البلدين ، وبالتالي تعزيز التعاون الثنائي طويل الأجل.
الترابط الاقتصادي:
عزز الترابط الاقتصادي أسس العلاقة التركية الروسية. على الرغم من الخلافات العرضية ، فقد ازدهرت التجارة بين البلدين ، مما خلق فرصًا كبيرة للاستثمار والمشاريع المشتركة. أصبح السياح الروس الذين يزورون المنتجعات التركية مساهماً أساسياً في الاقتصاد التركي ، بينما نجحت الشركات التركية في اختراق الأسواق الروسية. ولدت المصالح الاقتصادية المتبادلة حوافز للتعاون وأرست أساسًا متينًا للنمو المستقبلي.
مخاوف أمنية إقليمية:
لقد وجدت تركيا وروسيا أرضية مشتركة في العديد من مسائل الأمن الإقليمي في الآونة الأخيرة. تعاون كلا البلدين ، لا سيما في مقاربتهما تجاه الصراع السوري ، من أجل وقف إطلاق النار وإنشاء مناطق خفض التصعيد ، مما ساعد على التخفيف من حدة الأزمة الإنسانية. ساهم هذا الاهتمام المشترك في ضمان الاستقرار الإقليمي في تعزيز العلاقات الثنائية ويوفر أساسًا للتعاون المستقبلي في القضايا الجيوسياسية في الشرق الأوسط الكبير.

التحديات والآفاق المستقبلية:
في حين تُظهر العلاقة التركية الروسية إمكانات كبيرة ، يمكن أن تمثل بعض التحديات عقبات في نموها المستمر. قد تؤدي الاختلافات في أولويات السياسة الخارجية ، لا سيما فيما يتعلق بالمصالح المتضاربة في منطقة البحر الأسود ، إلى احتكاكات بين الحين والآخر. بالإضافة إلى ذلك ، فإن القضايا التاريخية العالقة ، مثل اعتراف روسيا بالإبادة الجماعية للأرمن ، يمكن أن تعقد علاقتهما.
و على الرغم من فترات المصالحة ، عادت التوترات بين روسيا وتركيا إلى الظهور في السنوات الأخيرة ، مدفوعة بمقاربات مختلفة للصراعات الإقليمية والطموحات الجيوسياسية المتضاربة.
الصراع السوري:  حيثُ وجدت روسيا وتركيا نفسيهما على طرفي نقيض في الصراع السوري. إذ دعمت تركيا بعض الجماعات المعارضة ، بينما دعمت روسيا نظام الرئيس بشار الأسد. أدى هذا الاختلاف الأساسي في المصالح ، إلى جانب التدخل العسكري لكل دولة في المنطقة ، إلى العديد من الحوادث ، بما في ذلك إسقاط تركيا لطائرة مقاتلة روسية في عام 2015.
التأثير في منطقة البحر الأسود: أثار ضم روسيا لشبه جزيرة القرم والتدخل العسكري في شرق أوكرانيا مخاوف تركيا ، التي اعتبرت ذلك انتهاكًا للسيادة الأوكرانية وتهديدًا محتملاً لمصالحها في منطقة البحر الأسود، كما أدى تعزيز الناتو لجناحه الشرقي وإصرار تركيا على حماية وحدة أراضي أوكرانيا بعد الغزو الروسي إلى تفاقم التوترات.
الصراع الليبي: إذ تدعم روسيا وتركيا الفصائل المعارضة ، والتي حولت البلاد إلى مسرح حرب بالوكالة، حيثُ تدعم موسكو قوات الجنرال خليفة حفتر ، بينما تساعد أنقرة حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من قبل الأمم المتحدة و  أدت المشاركة العسكرية المتزايدة لكلا الطرفين إلى تصعيد التوترات وزادت من تصدع الاستقرار الإقليمي.
توترات جنوب القوقاز: في الآونة الأخيرة ، أظهر الصراع الأذربيجاني الأرمني حول ناغورنو كاراباخ تباينًا في النهج ، حيث وضعت روسيا نفسها كوسيط ، وتركيا تدعم بقوة أذربيجان ، ويعزز كلا البلدين دورهما في المنطقة. 
و ختاماً، يمكن القول إن العلاقات التركية الروسية و تحسنها أو تراجعها كان مرهوناً دائماً بمدى وجود مصالح مشتركة و مدى تشابك هذه المصالح مع بعضها البعض، بمعنى آخر، إن ما يجمع تركيا و روسيا ليس سوى المصالح سواء كانت هذه المصالح من طبيعة اقتصادية أو عسكرية أو أمنية، و بالتالي فإن الخطوات التركية تجاه تعزيز العلاقات مع دول حلف شمال الأطلسي من جديد يدل على أن تركيا بدأت تشعر باختلاف في التوجهات مع الروس، أي بمعنى آخر انخفاض الانسجام بين المصالح الروسية التركية ما قد يدفع باتجاه تأزم العلاقات بينهما مستقبلاً، و هذا الأمر يتوقف بكل الأحوال على حسابات صانعي القرار سواء في تركيا أو روسيا بمدى تفوق التوافقات أو الاختلافات مع الطرف الآخر، و بالتالي فإن الفترة المقبلة  و للأسباب التي قد فصلناها سابقاً، قد تشهد تحولات كبيرة في السياسة الخارجية التركية تجاه روسيا بما يُنذر بتغيرات عالية الأهمية في توازنات القوى الإقليمية و الدولية في الساحة العالمية.