الأدب والجائحة: رواية "كجثةٍ في روايةٍ بوليسيّة"
سفيان البرّاق*
يُخبرنا التاريخ بالعلاقة الوشيجة التي تجمع الأدب بالنّوائب والبوائق (= الأوبئة والحروب) المِصدامة التي عصفت بحياة الإنسان. خلَّف الأدب، على الرّغم من المآسي التي حرّكت خزّان الأحزان، تحفاً سرديّة بديعة. وقد وثَّقَ التاريخ المكتوب وأرّخ لأوبئةٍ عدّة، لا يسع المجال لذكرها كاملة، نجد من بينها: وباء الطاعون الذي استشرى في زمنٍ غابرٍ، وفَتَكَ بالإنسان، وأدمى قلوب الأهالي، فوباء الكوليرا الذي قضى فيه الألوف من البشر، ثمّ الإنفلونزا الروسيّة والإسبانيّة، وصولاً إلى أوبئة عرفها الإنسان لكنّ الأدباء لم يترجموا وقائعها ومخلّفاتها في نصوصٍ سرديّة؛ أعني: السلّ، الجدري، الإيدز... إلخ.
انطلاقاً من التاريخ، نستشفُّ أنّ كلّ هذه الأوبئة تَمكَّن الإنسان من حصْرِها في منطقةٍ جغرافيّة معيّنة من دون أنْ يتّسع نطاق انتشارها، وبالتالي فهي بقيت محلّيّة معزولة، بيد أنّه في الشّهر الأخير من العام 2019 بدأ وباءٌ مارق يجتاحُ الصين، ثمّ ما لبث أن زَحَفَ في اتّجاه مُختلف دول العالَم قاطعاً الفيافي والقِفار والمُحيطات والقارّات، ضارِباً ضرباته الشّرسة، باثّاً الخوف في النّفوس، ومُسعِّراً مشاعر الحزن والسأم، من دون رأفة بالإنسان، الذي ما فتئ يكتشفُ ضعفهُ الكبير في مثل هذه الحالات العصيبة.
اعتنت بعض النّصوص الأدبيّة، في المغرب تحديداً، بجائحة كورونا، وبلْوَرَت التحوّل الذي طرأ على حياة الإنسان في ظلّ الوباء. ولعلّ رواية "كجثّةٍ في روايةٍ بوليسيّة" لعائشة البصري نموذجٌ بارزٌ لهذه الأعمال التي واكبت جائحة كورونا. صدرت هذه الرواية في طبعتها الأولى سنة 2020، وتقع في 156 صفحة من القطع المتوسّط. أبانت الكاتبة في هذه الرواية عن تمكّنها من حِرفة السّرد ببراعة عزّ نظيرها. كما أنّها قفزت على حبال العبارات برشاقةٍ كبيرة؛ إذ كَتبت بشقشقةٍ لغويّة تُلهبُ وجدان القارئ وتستميلهُ. كما عمدَتْ إلى استخدام تقنيّةٍ فريدة أثناء السّرد تمثّلت في إقحام حكاية داخل الحكاية أو ما يُصطلح عليه بلغة النُّقّاد بـ: الـ "ميتا قصّة". جنحت الكاتبة في الأخير إلى توظيف تقنيّة حديثة مفادها أنّ السّاردة التي روت مرويّتها بضمير الـ "أنا"، كانت مرويّتها مجرّد تهيّؤ ووهم. وهذه التقنيّة يجنحُ إليها الروائيّون من خلال نسقٍ من الحكي يأبى التوقّف، فيظلّ السّارد يحكي، وفي الأخير يُفاجَئ القارئ بأنّه يعيش كابوساً، وما أنْ يستيقظ حتّى يتبدّد الكابوس، ويَجِد يَدَهُ قابضة على ريحٍ هاربة.
تبدأ صاحبة الرواية روايتَها بوصفٍ دقيق لغرفة غريبة الشّكل: كانت النّوافذ على شكل مثلّثات، وكذلك الباب والسرير والطاولات، وتضمّنت، ثلاثة مجلدّات للكُتب السماويّة: التوراة، الإنجيل، القرآن. وتوجد هذه الغرفة في مركزٍ شديد الحراسة ترقدُ فيه الساردة وتخضع للتحقيق من طَرَفِ رجلٍ يرتدي بذلة عسكريّة، يعرف عنها كلّ شيء تقريباً، وكان يتغيّا من وراء استجوابه لها، برفقة مُساعدته، معرفة مدى صدقها. وقد منتحته الكاتبة سماتٍ غريبة جدّاً تتنافى مع الخواصّ البشريّة المُتعارَف عليها، ونقرأ في هذا المضمار: "فور إغلاقنا الملفّ، لا أنا ولا مُساعدتي سنتذكّرُ ما بُحتِ به خلال هذه الساعات. حين سنغادرُ الغرفة سيمحو المُدير العام للمركز ذاكرتي تماماً" (ص34). معظم الأسئلة التي وجَّهها إليها كانت ذات صلة بحادث اختفائها منذ سنة 2010. لم نتعرّف إلى طبيعة هذا المركز الذي ترقد فيه الراوية إلّا مع توالي الصفحات، فهو مركز يراقبُ الصحّة العقليّة في الدرجة الأولى، وقد يُجرِّد مَن يرقدُ فيه من عقله.
الشخصيّة البطلة في هذه الرواية تدعى سعيدة، تعاني من اختلالٍ في الذاكرة، حيث نسيَت كلَّ شيء عن حياتها تقريباً، وتستعيد ذاكرتها لوقتٍ وجيز قبل أن تفقدها مجدَّداً. وقد احتُجزت في هذا المركز بعدما جُرّدت من جميع ثيابها وحواسّها. وكانت الغاية من وراء احتجازها معرفة أرشيف ذاكرتها منذ العام 2010، وهو العام الذي لاذت فيه بالفرار من هذا المركز، وذلك حتّى يتأكَّدوا من جهوزيّتها للموت، لأنّ من بين اختصاصات هذا المركز تقديم رخصة رسميّة لمغادرة الحياة، بالإضافة إلى أرشفة حياتها منذ صرختها الأولى في الوجود إلى أنْ تُغمض عينَيْها إلى الأبد.
في ظلّ سرد الكاتبة لهذه الحكاية العجائبيّة، كانت تستطرد بالقول إنّ البطلة المُحتجَزة في المركز كانت تسمعُ، من حينٍ لآخر، من خلال الجهاز اللّاسلكي للمحقِّق، أنباءً عن اجتياح فيروسٍ ما العالَم وقد شلَّ حركته اسمه: كورونا. وقد ظلّ الصوت يأتي من اللّاسلكي حاملاً العواجل المُثقَلة بالخطر والخوف، حول هذا الفيروس. وفي لحظةٍ ما استعادت البطلة، كما خُيِّل إليها، ذاكرتها دفعةً واحدة لتستحضرَ أحداثاً تتنافى كليّاً مع الواقع، فانتبهَ المُحقِّق إلى الجرأة التي تتّصفُ بها هذه الأحداث والطّابع الغرائبي الذي يطبعُها، ليعتقد في بداية الأمر أنّ السيّدة التي تحكي الآن ليست هي نفسها تلك التي عاشت هذه الأحداث.
تندرجُ هذه الرواية من ضمن صنفٍ أدبيٍّ معروف هو "الفانتازيا" الذي يعتمدُ على الخيال الجامح والحكي عن أمورٍ يستحيلُ أن تحدث، كالحديث عن قوىً خارجيّة مثلاً، مع إضافة عنصر الواقعيّة، لتكون الرواية متأرجحةً بين الواقع والتخييل. وتتجلّى الغرابة بقوّة في هذه الرواية عندما ادّعت البطلة، وهي كاتبة، وأعمالها موجودة في الغرفة التي ترقدُ فيها، أنّ ما تعيشه الآن سبق لها أن كَتبت عنه، وأنّ شخصيّة المحقِّق ومساعدته سبق لها أنْ كتبت عنهما أيضاً، وأنّهما خرجا من روايتها ليجدا طريقاً إلى الواقع.
ظلّ استجواب بطلة الرواية متواصلاً بلا انقطاع، سواء بالترغيب أم بالترهيب، فيما جهاز اللّاسلكي يصدحُ منه صوتٌ مبحوح يؤكِّد على ضرورة الاحتراز من الفيروس التّاجي من دون أن يُعيرَ المُستجوِبُ لهذا الأمر أدنى اهتمام. وفي حينٍ آخر، تخرج النّداءات من مكبِّر الصوت في المركز لتنبيه المحقّقين والمقرّرين إلى عدم التجوُّل بين أجنحة المركز إلّا للضرورة القُصوى.
بعدما تواصلَ الاستجواب أدركتِ البطلةُ، بما لا يدعُ مجالاً للشكّ، أنّها تعاني من اختلالٍ عقليّ، وهو ما يظهر بجلاءٍ كبير في مختلف أطوار الرواية. فالرجل والمرأة اللّذَان أقدما على استجوابها، هُما من ابتداع عقلها المُهتزّ، الأمر الذي دفعها إلى البَوح قائلةً: "أعاني منذ سنوات الصبا من تضخُّم الوهْم، أتوهَّم أشياء، أحداثاً، مشاعر... هل تحوّل التوهُّمُ إلى انفصام، وأنا الآن أتخيّل رجلاً وامرأة في غرفةٍ بيضاء" (ص47).
للبطلة المكبَّلة في أحد أسرّة المركز ثلاثة مصادر للتواصُل مع العالَم الخارجي الذي يرمزُ إلى أبنائها: المصدر الأوّل يتمثّلُ في المُحقِّق ومُساعدتِه، وذلك على الرّغم من اقتصادهما المُفرط في التواصُل. والمصدر الثاني يتجلّى في جهاز اللّاسلكي للمحقِّق ومكبِّر صوت المركز. أمّا المصدر الثالث، فيكمنُ في التمثُّلات التي تُشيّدها مخيّلتها الواسعة، بسبب العطب الذي لَحِق بذاكرتها. وفي أحد المَشاهد، وبعدما توالت التنبيهات والأخبار العاجلة من اللّاسلكي بخصوص شيءٍ غيَّرَ ملامح الحياة الاعتياديّة، والمقصود جائحة كورونا، بدأت الأسئلة تقفزُ إلى ذهنها دفعةً واحدة محاولةً استيعاب الوضعيّة التي هي فيها وربْطها بما يصدر من مكبّر الصوت وجهاز اللّاسلكي، على الرّغم من الخَلل الذي ينخرُ عقلها. يلحظ القارئ من خلال هذه التنبيهات أنّها كانت في البداية أقلّ رُعباً، ومع توالي الأحداث، ازدادت حدّتها، وهذا يظهر بجلاء للقارئ عندما يُقارِن بين أوّل تنبيه وآخر عبارة صدرت من اللّاسلكي.
انثالت الأسئلة على سعيدة وأحدثت رجّةً في ذهنها، لتكتشف بعدما استعادت ذاكرتها جزئيّاً، أنّها عاشت في السابق تجربةً مُماثلة في هذا المركز الذي هو بلا هويّة، وأنّها كتمت سرّ مكوثها فيه لسنوات، وأنّ التَّلف الذي أصاب ذاكرتها هو الذي تسبَّب في نسيانها كلّ شيء. لقد شيّدت الكاتبة روايتها هذه بسردٍ أنيق ومميَّز، يشي بتمكّنها من حرفة السرد، من خلال أربعة خيوط روائيّة تفنَّنت في القفز عليها برشاقة: الخيط الأوّل، هو الذاكرة التي تمثّلها الطفولة في المقام الأوّل، والخيط الثاني، هو الأوهام، بينما الخيط الثالث، هو سؤال الموت الذي حضر في النّص بشكلٍ بارز وقويّ؛ أمّا الخيط الرّابع، فهو التضادّ بين الرّوح والجسد، إذ تتبدّى لنا حسرة الجسد وغضبه من الرُّوح التي كانت سلبيّة وباردة وبلا مشاعر.
كشفت الكاتبة من خلال استجواب سعيدة عن الانقياد والخضوع الذي يستلبُ شخصيّة المرأة العربيّة. يظهر ذلك من خلال تعامُل المُحقِّق ونبرته الحادّة في التواصُل، فضلاً عن الدناءة التي تعاملت بها مساعدته مع الحالة وقمْعها في أكثر من مرّة. فجّرت الساردة في نهاية الرواية العجائبيّة، التي دارت أحداثها في ليلةٍ واحدة، مفاجأةً مدوّية بعدما أفشت بالعلاقة التي جمعتها بالمُحقِّق في التجربة السابقة، وهذا ما يستشفّهُ القارئ من خلال بعض الانزلاقات التي تسلَّلت من لسانه بشكلٍ مباغت.
في هذه الرواية حضورٌ قويّ للحسّ العجائبي الذي يتجلّى أساساً في طبيعة المادّة الحكائيّة التي اشتغلت عليها الكاتبة وبلْوَرَتَها. فهذا الحسّ العجائبي يُجافي الواقع، ويتنافى مع العقل والمنطق، لكنّه يستفزّه (أي للعقل)، ويستميل القارئ وهو مشدوهٌ، ويستلهمُ شخوصاً لا تتّصفُ بالقواعد الآدميّة (شخصيّة المحقِّق أنموذجاً)، ويختلقُ أحداثاً يستحيلُ أن يُعاينها الإنسان. كما أنّ هذا الصنف الرّوائي ينفصلُ عن الطبيعة المنهجيّة التي تطبع الرواية وصنوفها المتعدّدة، وهذه أبرز سمات الأدب العجائبي؛ بحيث يُمكن للمتلقّي في الأخير أن يستخلصَ ملاحظتَيْن أساسيّتَيْن: الملاحظة الأولى هي أنّ الكاتبة تقصَّدت في بناء شخوصها تبنّي مقوّمات الرواية الحديثة، والثانية هي أنّها أسرفت في استدعاء تقنيّة الـ "فلاش باك" ربّما لأنّ الرواية رحاها هي الذّاكرة.
* باحث من المغرب - مؤسسة الفكر العربي