إشكاليّة الريف والمدينة في العالَم العربيّ
د.كرم الحلو*
هل كان متوقَّعاً أن تنتهي الانتفاضات العربيّة إلى ما آلت إليه من خَيباتٍ وإخفاقاتٍ أو أنّ ما جرى يجد أصوله في بنية المُجتمعات العربيّة والزلزلة الديموغرافيّة التي عرفتها هذه المُجتمعات منذ أواسط القرن الماضي إلى الآن، وهو على صلة أساسيّة ومركزيّة بإشكاليّة الريف والمدينة في العالَم العربيّ؟
تأسيساً على هذه الإشكاليّة، نرى أنّه في خلال القرن الماضي، حصلتْ في المجتمع العربيّ تحوّلاتٌ مهمّة في البنية الاجتماعيّة العربيّة، في نُظم الإنتاج، كما في نُظم القيَم والأخلاق والتعبير، ونشأت بنية مدنيّة يُمكن أن تشكِّل أساساً لقيام الدولة الوطنيّة. وعلى مستوى التفكير، دخلت التفسيرات العقلانيّة إلى جانب التصوّرات التقليديّة، فطرحت حقوق الأفراد والجماعات وشرعيّة الأنظمة السياسيّة. لكنّ هذه التحوّلات ترافقت مع زلزلة ديموغرافيّة تمثّلت في النزوح الكثيف من الريف إلى المدينة، إلّا أنّها لم تذهب في الاتّجاه الحداثي، ولم تأتِ متساوقة مع التحوّلات التي جرت على الأصعدة السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة. فقد أخذ سكّان المُدن العربيّة يتضاعف بوتائر تصاعديّة منذ أواسط القرن الماضي على حساب القرى والأرياف التي راحت تتقهقر، اقتصاديّاً وسكّانيّاً واجتماعيّاً، حتّى أضحت الفجوة بين الريف والمدينة عميقة إلى حدٍّ يُهدِّد تماسُك الأمّة ووحدتها. ففي بعض الأقطار العربيّة يزيد عدد سكّان المُدن عن التسعين في المئة من مجموع السكّان. وهذا العدد في تزايد مستمرّ، حتّى أنّ عدد سكّان بعض المُدن تضاعفَ في أقلّ من عشر سنوات. وبصورة إجماليّة، كان عدد سكّان المُدن العربيّة 26 في المئة من مجموع السكّان في العام 1952، وارتفع إلى 38 في المئة في العام 1970، وظلَّ يتضاعف حتّى وصل إلى 55 في المئة في العام 1992 وإلى 61 في المئة في العام 2000؛ وقد بات الآن يتراوح بين 77,6 في المئة في ليبيا، و82,6 في المئة في السعوديّة والأردن، و98,1 في المئة في قطر، وأكثر من سبعين في المئة كمعدّل عامّ في العالَم العربي وفق التقرير الاقتصادي العربي الموحّد 2016.
ما يهمّنا هنا ليس حجم التزايُد السكّاني في حدّ ذاته، بل الانعكاسات الإيديولوجيّة التي رتَّبها، والتي سيرتِّبها على الواقع الاجتماعي والسياسي، وعلاقة هذه الظاهرة بالتطوّرات الطارئة على صعيد "المجتمع المدني"، الذي هو، أوّلاً وقبل كلّ شيء، "مجتمع المُدن" وفق محمّد عابد الجابري. فمؤسّساته هي تلك التي يُنشئها الناس في المدينة لتنظيم حياتهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، وهي إذاً مؤسّسات إراديّة على النقيض تماماً من مؤسّسات المجتمع البدوي – القروي التي تتميّز بكونها مؤسّسات "طبيعيّة" يولَد المرءُ منتمياً إليها، مُندمجاً فيها، لا يستطيع الانسحاب منها، كالقبيلة أو الطائفة. فالبحث إذاً في غياب المجتمع المدني أو حضوره، لا بدّ أن ينطلق من وضعيّة المدينة، هل هي التي تُهيمن على المجتمع باقتصادها ومؤسّساتها وتقاليدها وتراثها أو أنّ المُجتمع البدوي - القروي هو السائد بمؤسّساته وتقاليده وفكره وقيَمه؟
إذا ما انطلقنا من هذا الطرح الذي اعتمده الجابري، نرى أنّ التزايد المطّرد في أعداد سكّان المُدن لم يذهب لمصلحة تعزيز المُجتمعات المدنيّة، بل أدّى على العكس، أي إلى "ترييف" أو "بدْوَنَة" المُدن العربيّة التي باتت ضواحيها خزّاناتٍ للبطالة والفقر والأميّة والأصوليّات المتطرّفة التي لا علاقة لها بالقيَم والاهتمامات الحضريّة. فالتغيير في حجم المُدن العربيّة، لا يعني أنّ المجتمع المدني هو السائد، وأنّ المجتمع قد أصبح عصريّاً بعقله وتنظيماته وقيَمه؛ هو، كما يصفه برهان غليون، تحوَّلَ إلى نمطٍ هجينٍ يفتقد عناصر اتّساقه وانسجامه، ويمثّل حشداً مُتراكماً من القيَم والعقليّات والمنظومات والجماعات المتنافرة أكثر ممّا يمثّل كياناً موحّداً، حتّى أنّ مُدناً كبيروت وبغداد تبدو وكأنّها نَوع من الفيدراليّة لأحياءٍ متمايزة تتدرّج من التكامل إلى الحرب الأهليّة.
بصورةٍ عامّة، يشكّل النازحون من الأرياف القاعدةَ الأساسيّة لأحزمة الفقر على حوافّ المُدن العربيّة التي يقطنها، وفق بعض الإحصاءات بين 25 و50 في المئة من سكّان الأمّ. وفي بيروت وتونس والقاهرة وبغداد، ثمّة أحياء كبيرة من هذا النَّوع يغلب عليها الطّابع الريفي وتفتقد الخدمات الأساسيّة، وتعاني من الاكتظاظ الذي يتجاوز أحياناً المئة ألف نسمة في الكيلومتر المربّع الواحد، كما في بعض المُدن والعواصم كالقاهرة مثلاً. وإذا ما علمنا أنّ سكّان هذه الأحياء قَدموا من قراهم ومُدنهم الصغرى طَلباً للقوت، فيما بقي انتماؤهم إلى القيَم والاهتمامات القرويّة طاغياً، نرى أنّ النموّ الديموغرافي الهائل والعشوائي أدّى إلى تفتيت المجتمع المديني وتمزّقه، حيث قامت الجماعات المهمَّشة التي تكوّنت على حوافّ المدن العربيّة بالانقضاض على النُّخب الأرستوقراطيّة المدينيّة لتفرض عصبيّاتها على السلطة من خلال عقد طائفي لا مدني. فالنّظام في دمشق قام على عقْدٍ بين العصبيّة الريفيّة العلويّة وبورجوازيّة العاصمة، فيما النظام في الأردن يمثّل عقداً بين القبائل والأسرة الحاكمة الحجازيّة الهاشميّة. أمّا بيروت فهي ساحة لعصبيّاتٍ ريفيّة، مارونيّة وشيعيّة، غير مندمجة وطنيّاً. وكثيراً ما تجلّت الغلبة العصبويّة في انقلاباتٍ عسكريّة كرّست "البقْرَطَة"، ومارست الاحتكار على مصادر القوّة والسلطة، مُستبيحةً كلّ النشاطات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، فاعتقلت المجتمع المدني الهشّ، وصادرت مؤسّساته، وأنكرت حقّه في الوجود، مُنَصِّبةً نفسها البديل الشرعي الوحيد لكلّ هيئاته وتنظيماته، بادّعاء الحقّ في مراقبتها وتوجيهها، قافزةً فوق إرادة المجتمع المدني والسلطة التي يمثّلها.
الطوفان يشتدّ
هكذا نجد أنفسنا أمام ثورةٍ على المجتمع المدني وإرادةِ تحويلٍ له بالقوّة، بدل إيجاد مخارج واقعيّة وسلميّة وتوحيديّة لتمزّقه بين طوائف وعصبيّات وانتماءاتٍ متنافرة.
من هذه الزاوية، يمكن أن ننظر إلى استشراء الروح الانقلابيّة في موازاة المدّ السكّاني الهائل في اتّجاه المُدن الكبرى؛ فبينما تضاعف عدد السكّان الحضريّين في العالَم العربي بين بداية الخمسينيّات وأواخر الثمانينيّات من القرن الماضي، حصل سبعون انقلاباً عسكريّاً كرّست علاقةً مأزومة بين الدولة والمُجتمع، وشكّلت أرضيّةً ملائمة للتنامي السرطاني للحركات الأصوليّة في خواصر المُجتمعات العربيّة ومحاولتها الإمساك بزمام القرار السياسي، مع ما يرتّبه ذلك من خطر على المجتمع والأمّة.
لقد استغلّت هذه الحركات حالةَ الإخفاق الشاملة التي انتهت إليها الدولة البيروقراطيّة الانقلابيّة، لتضعَ يدَها على المُجتمعات المدينيّة، في محاولةٍ منها لاحتوائها من ضمن أُطرٍ غريبة عن العصر. ولئن كانت هذه الحركات قد أفلحت في امتصاص قطاعٍ كبير من الحراك الشعبي الرّافض للدولة التسلطيّة، فإنّها، على الرّغم من نجاحها الظاهر، اتّجهت وتتّجه نحو أُفقٍ مسدود، لأنّها عاجزة عن أن تقدّم للجماهير مشروعاً عقلانيّاً واقعيّاً للتغيير. ولعلّ هذا ما يفسّر الإخفاقات المتوالية التي آلت إليها انتفاضاتٌ مَثّلت أملاً جديداً لشرائح كبرى من الجماهير العربيّة.
حاصل القول، وصل الجميع إلى مأزقٍ حقيقي في ظلّ العداء والتنابُذ والرفض المتبادَل، فيما المجتمع العربي يعاني من زلزالٍ ديموغرافي واجتماعي وسياسي يوشك أن يقوِّضه بالكامل. فلا الدولة البيروقراطيّة استطاعت أن تفي بوعودها وشعاراتها القوميّة والاجتماعيّة، ولا المجتمع المدني استطاع أن ينهض من حالتَيْ التهميش والإلغاء، ولا الحركات الأصوليّة استطاعت أن تقدِّم للجماهير غير المزيد من الأوهام وحمّامات الدمّ.
إنّ طوفان المُهاجرين من الأرياف يشتدّ، والحصار حول المُدن العربيّة يزداد إحكاماً. والذي حدث في المُدن المصريّة وفي تونس والمغرب والسودان ولبنان في أواخر سبعينيّات وأوائل ثمانينيّات القرن الماضي، من انتفاضات شعبيّة، تكرَّر في العقد الثاني من القرن الحالي، لكنْ بصورةٍ أكثر عنفاً ودمويّة. وكلّ المؤشّرات تشي بتكراره بوتائر جديدة ومتصاعدة من العنف. وفي رأينا لا خلاص إلّا بالديموقراطيّة السياسيّة والاجتماعيّة والطبقيّة؛ فهي تطرح الحلّ لهذه الأزمة المُتمادية. وحدها الديموقراطيّة هذه من شأنها أن تضعَ حدّاً للتناقضات على المستويات كافّة. فهي وحدها المؤهَّلة لتأطير الصراع، وإعادة التآلف والاتّساق في العالَم العربي، بين الريف والمدينة وبين المدينة والمُجتمع المدني.
*كاتب من لبنان - مؤسسة الفكر العربي