إحراجات البحث العلميّ في العالَم العربيّ
د. الحبيب إستاتي زين الدّين*
يظنّ أناسٌ كثيرون، منهم مثقّفون، أنّ التاريخ هو مجموع أحداث الماضي لا غير. والحال أنّنا عندما نتأمّله نجده يربط الماضي بالحاضر، ويستشرف المقبل باستحضار مؤشّراتِ الوضع القائم وانتظاراته. في ظلّ هذا التصوُّر، وفيما نحن نتابع السباق العالَميّ نحو الريادة البحثيّة في العديد من المجالات، يتبادر إلى الأذهان تساؤلٌ مُثقلٌ بالخَيبة والحسرة: أين هُم علماؤنا وباحثونا؟ هل أَبعدتهم قواعد "اللّعبة" المُستترة التي تُلزِم الخاضعين لها "بترطيب علاقاتهم مع مَن استحدثوها اعتباطاً" بتعبير صاحب كتاب "التفاهة" آلان دونو Alain Deneault؟
بخلاف مَن يجري خلف كرة، أو يقف على خشبة مسرح، أو يَجمَع عدداً من المُشاهدات المدرِّة للدخل بطريقته الخاصّة، ومن دون التنقيص من أيّ أحد، لِمَ لا يتذكّر الإعلامُ، في الغالب، أهلَ العِلم والفكر إلّا بعد موتهم أو إشادة الغَير بهم؟ لِمَ هذا العجز عن زرعِ الثقة في عقول أزيد من 362 مليون عربيّ ونفوسهم على اختلاف مواقعهم وتوجّهاتهم؟ ألا توجد في مختلف الحقول والاختصاصات أُطرٌ علميّة على مستوىً عالٍ من الكفاءة والخبرة لم تَنَلْ حظَّها ونصيبها من الاهتمام والتشجيع المعنويّ على الأقلّ؟
أخاف أن أخيّبَ أملَ القارئ إن كان يظنّ أنّ المقال الذي بين يدَيْه يحمل إجابةً أو إجاباتٍ جدّ متفائلــة. لا أقصد أن لا شيء أُنجز، بقدر ما ألفت إلى أنّ أموراً كثيرة لم تُنجز بعد، وأنّ ما تمّ إنجازه يحتاج إلى استثمارٍ وتطويرٍ دائمَيْن داخل منظومة بحثيّة لا تزال تشكو من تضافُرِ مشكلاتٍ جمّة، سواء في ما يتعلّق بقلّة الإمكانيّات الماليّة والتقنيّة، أم هشاشة الإطار القانوني اللّازم لتطوّرها، إضافة إلى ضعف بنيات فضاءات البحث وبرامجها ومناهجها ومخرجاتها، وتواضُع تحفيز "الباحثين العاملين" وتشجيعهم على البذل والاجتهاد، ما يدفع الكثير منهم إمّا إلى الانزواء التامّ، أو الاشتغال من ضمن مجموعة صغيرة، أو الهجرة بحثاً عن فضاءاتٍ أرحب للعطاء والبحث.
ومهما كان الحُكم قاسياً بالنسبة إلى مَن يعنيهم الأمر، من إدارة وهيئة تدريس وطَلَبة، ومنهم جامعيّون وجامعيّات أكفّاء ومتجرّدون ونزهاء، وباحثات وباحثون مجدّون ومُثابرون، هناك واقعُ حالٍ غير سويٍّ، يجعل المراكز والمختبرات البحثيّة داخل الجامعة أو خارجها تتعثّر، ثمّ تَتوه بعد كلّ ولاية أو تعديل حكومي في دوّامةٍ من إصلاح الإصلاح، وطقوس الإصلاح، ما يسمّيه بيار بورديو Pierre Bourdieu بـ "الوصفة القاتلة للإصلاح". ماذا ننتظر؟ هل الأمر عسير؟ القول بالتعقيد خضوعٌ للواقع وتحدّياته، والإنكار مُكابَرةٌ وتعامٍ لا غير في عالَمٍ موسوم بتقلُّص المسافات بين أقطابه، من جهة، ومحكومٌ بمصالح وتكتّلات جيوسياسيّة كبرى، من جهةٍ ثانية.
ولعلّ المؤسف والمؤلِم في هذا السياق، بحسب الراحل المهدي المَنجرة، رحمة الله عليه، أنّ السلطات السياسيّة في البلدان العربيّة لم تفهم جيّداً بعد أنّ الاتّحاد والتكتُّل ليسا مسألة سياسيّة، وإنما هما قبل كلّ شيء مسألة بقاء. أزمة الدول المُنتمية إلى هذه البلدان معروفة منذ عقود؛ وهي أنّ النموذج التنموي الذي تمّ اختياره من طَرَفِ المسؤولين، هو عدم الاعتماد على الذّات، واللّجوء عوضاً عن ذلك إلى المساعدة الفنيّة والتعاون الدولي، في حين أنّ الحلّ الوحيد هو الاعتماد على النَّفس وخلْق النموذج التنموي الذاتي. هل هي دعوة للانغلاق كما قد يتوهَّم البعض؟ أبداً، فالعمل الجماعي ضرورةٌ لصقْلِ الخبرات وتكاملها، والاتّكال على الغير ودفع الخبرة الوطنيّة، عن قصد أو جهل، إلى الاغتراب أو التأقلُم مع القائم تكريسٌ للتخلُّف والتشرذُم ليس إلّا.
وضعيّة النماذج التنمويّة العربيّة
لنتّفق منذ البدء أنّ الارتقاء بالبحث العلمي، ومن ضمنه الحاملون لهمِّه والسّاعون لخدمته، لا يتحقَّق إلّا في إطارِ مشروعٍ وحدويّ للتنمية، وإلّا لا داعٍ لأن نقلق على مسألة هجرة الذكاء العربي لأنّ وجود الجميع سيكون مهدَّداً. لماذا أقول ذلك؟ لأنّ التنمية عمليّة تغيير هيكلي في النسق الاجتماعي - الاقتصادي تتضمَّن تطويرَ وتنويعَ البنيان الإنتاجي المحلي، بما يؤدّي إلى ارتفاعٍ مطّرد في المستوى المعيشي للناس، كلّ الناس، وتحرير المُواطنات والمواطنين بتخليصهم من عوائق المُشارَكة الفاعلة في النشاط الاجتماعي - الاقتصادي، وتمكينهم من الاقتسام العادل لعوائد هذا النشاط، وتحرير الوطن بتخليصه من ربقة التبعيّة المدمِّرة للخارج. في غياب هذا التصوُّر، سنَجد أنّه على الرّغم من كثافة الخطاب الرسمي بشأن ما تحقَّق نتيجة تطبيق معيار نسبة النموّ الذي اتّبعته بلداننا، استجابةً لإيحاءاتِ المؤسّسات الماليّة والاقتصاديّة الدوليّة وإملاءاتها، يُسجَّل استمرارُ انهيار نماذج التنمية التي فَرضتها المحافل الدوليّة، وهذا الانهيار هو المُستدام وليس التنمية. لم تنعكس هذه الأرقام "الورديّة" لهذا النموّ على البحث العلمي فحسب، بل على المستوى المعيشي للمواطنات والمواطنين أيضاً، بسبب "عدم مُراعاة البُعد الاجتماعي للنموّ"، بما يفيد بأنّ منافع النموّ لم تُوزَّع توزيعاً متكافئاً، ولم تصاحبها عمليّةُ إعادةِ توزيعٍ للدخل العامّ بطريقةٍ سليمة وعادلة، الأمر الذي قاد إلى تفشّي ظاهرة الفساد التي باتت تتشكَّل في منظومةٍ اجتماعيّة متكاملة. وإذا تأمَّلنا حالةَ هذه البلدان بخصوص سوء توزيع الثروة والطُّرق غير المشروعة للاستيلاء عليها، نَجِدُ تشابهاً بينها، مع اختلافٍ في الدرجة وليس في النَّوع، بالنَّظر إلى فَشَلِ أنظمتها في خلقِ نظامٍ اقتصاديٍّ تنافُسيٍّ عادل تكون فيه المسافة بين السلطة والثروة واضحة.
أثّر هذا الوضع، ولا زال يؤثِّر، على وظيفة البحث العلمي وإنتاجيّته ومفعوله؛ إذ كان لتحالُف المال والاقتصاد والسلطة آثارٌ سلبيّة لم تُسعِف في تحقيق الأهداف الإنمائيّة طويلة الأجل، وتحسين الأداء العلمي والتكنولوجي في المنطقة العربيّة. هذا التحالُف يؤدّي إلى خلقِ توجُّهٍ نحو تعريف الأمن القومي وفقاً لتعريفاتٍ عسكريّة. نتيجةً لذلك، يتمّ تخصيص الموارد للدفاع والميزانيّات الأمنيّة والعسكريّة، وليس لأنشطة البحث والتطوير التي يُمكن أن تساعد في مُواجهة الفقر والبطالة، وتآكُل الرفاهية الإنسانيّة، التي تستمرّ كوباءٍ في المنطق. الدول صاحبة نِسَبِ الإنفاق العسكري الأعلى مقارنةً إلى النّاتج المحلي الإجمالي هي من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ولطالما نبَّهت العديد من الدراسات المَسحيّة إلى هذا العامل، حيث لا تتجاوز نسبته في البلدان العربيّة 0,3 في المئة، وهو ما يعني أنّ نصيبها من الإنفاق الإجمالي العالَمي على هذا المجال لا يتجاوز واحداً في المئة، من دون احتساب الأضرار النّاجمة عن الصرف النوعي لهذا الإنفاق، حيث تلتهم أجورُ الأساتذة والباحثين قسطاً مُهمّاً منها، من دون أن تخضع لمعاييرَ موضوعيّة مَبنيّة على كفاءة الإنتاج العلمي ونوعيّته، ومن دون أن ترتبط بمعيار التقييم المُستمرّ لأداء الأساتذة، والتحفيز المَبني على النتائج المتحصَّل عليها بشكلٍ موضوعي.
في الحاجة إلى استخلاص الدروس
تُمثّل الأزماتُ محطّاتٍ لاستخلاص الدروس، وإعادة النَّظر في السياسات والأولويّات، والاستفادة من الأخطاء؛ وفي هذه المحطّة القاسية التي يمرّ فيها العالَم، يُطرح السؤال بحدّة حول ما إذا كانت الدول التي لطالما همّشت آليّات وبنيات البحث العلمي ومخرجاته ستُراجِع أوراقها وحساباتها من جديد بهذا الخصوص، أم ستستمرّ على نَهجها، وعلى هَدْرِ الكثير من الفُرص والإمكانيّات.
وقف جون واتربوري John Waterbury في كتابه المعنون بـ "المهمّات المستحيلة.. التعليم العالي وصناعة السياسات في العالَم العربي" على أحد مسبّبات هذا الهَدر، إذ كَتَبَ أنّ "القادة يتجنّبون المُخاطرة، وبالتالي يطبّقون سياسات ترويض الجامعات وهيئاتها البحثيّة سياسيّاً". ولكن في هذا المسار، تُستنزف قدرات الجامعات على الابتكار وخلق المعرفة، وذلك حين يقتحم ميدانَ الشؤون العامّة أناسٌ شرهون يهتمّون بإثراء حياتهم الخاصّة لا غير، ويأملون بأن يختطفوا منها السعادة التي يتوقون إليها، فعندئذ يستحيل أن تقوم حكومة صالحة، إذ إنّهم سيتصارعون في سبيل الحُكم حتّى تقضي هذه الحرب الداخليّة عليهم وعلى الدولة بأسرها.
وعياً بهذا الواقع، تكشف تقارير اليونسكو للأعوام الماضية أنّ إصلاح المناهج الدراسيّة لا يكفي وحده لإيجاد فُرص عمل في اقتصاد المعرفة، وأنّ النظام التعليمي لا يزال غير قادر على إعداد خرّيجين متحمّسين للإسهام في تحقيق اقتصادٍ أكثر صحيّة. لم لا؟ ينبغي أن تتساءل الحكومات عمّا إذا كان النظام التعليمي يتحمَّل الخطأ وحده، أو إذا كانت هناك عقبات أخرى تخنق الابتكار وثقافة تنظيم المشروعات، على الرّغم من أنّه على ربوع هذا الفضاء الفسيح من العالَم العربي، قلّما يتّفق الفاعلون، من أيّ المشارب كانوا، كما يتّفقون على أهميّة التربية والعِلم، ودَورهما في النهضة. تَرسَّخ هذا الشعور منذ أن نَشرت الأُممُ المتّحدة تقريراً عن واقع التنمية البشريّة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، سنة 2002. وفي الفترة الممتدَّة من الحراك العربي إلى اليوم، ظلّ يتجدّد باستمرار النقاشُ ذاته حول أولويّة البحث العلمي لمُواجهة مخاطر العصر في تجلّياتها المُختلفة، باعتباره المجال الأقدر على التعاطي مع المشكلات والكوارث والأزمات التقليديّة والمستجدّة التي تواجه الإنسان وحضارته بقدرٍ من الجاهزيّة والكفاءة، ما يُحتِّم تقديمَ المزيدِ من الدَّعم للباحثين للوصول إلى نتائج مهمّة تخدم قضايا المجتمع؛ فهل انعكس هذا النقاش على مكانة المؤسّسات الجامعيّة والمراكز البحثيّة (التّابعة لها أو المستقلَّة عنها)؟ وما مآل مخرجات وتوصيات مؤتمرات وزراء التعليم العالي والبحث العلمي في البلدان العربيّة؟ ألا يؤكّدون في كلّ اجتماع على ضرورة تطوير البحث العلمي والابتكار ووقف استنزاف العقول الذي يشكِّل خسارةً لا تقدَّر بثمن؟
لربّما توضَع الاتّفاقات العربيّة ونتائج المجالس العربيّة عادةً على الرفوف، لأنّ الفاعلين والمُختصّين والمُهتمّين لا يتّفقون حول الأولويّات وطُرق التنفيذ. لذلك، سيكون من المُفيد لأيّة مُكاشَفة أن تنطلق من مُفارَقةٍ ثابتة تمسّ جميع الميادين. نستهلّ أيّ رؤية أو تعاقدٍ أو برنامجٍ برهاناتٍ وتطلّعاتٍ عريضة، ونختمه بتردُّدٍ وريبة وتهرُّبٍ من تحمُّل المسؤوليّة. وحتّى لا نكون عدميّين، سنتّكئ على فكرة أنّ "الحياة بأسرها حلول لمشكلات"، لنقول إنّه، إذا جاز لنا استعارة عبارة كارل بوبر Karl Popper، "يجب أن نتحسَّس طريقنا جيّداً قبل أن نخطو"، و"أنّ أسوأ شيء هو أنّنا لا نتعلّم من الماضي". أليست كلّ كرامة في الفكر، وكلّ كرامة في الذاكرة، كما قال أندري كونت - سبونفيل André Comte - Sponville؟ لن تختلف الإجابات في نظري عن متانة العلاقة بين ثلاثيّة "الفكر والكرامة والماضي"، لكن حبّذا لو تنفلت كلّ رؤية بحثيّة، كما ينبِّه جاك لوغوف Jacques Le Goff، من إمكان استغلال الذاكرة كأداة وهدف للسلطة أو لتصفية حساباتٍ ضيّقة ليس إلّا. التنازُع حول الضَّرر، ومحاولة ألّا يتكرَّر ما حدث، هو صراع القوى الاجتماعيّة والسياسيّة حول الخَيبات المزعجة للنسيان في بلدانٍ يبدو أنّها أصبحت، بوعيٍ أو بغيره، مشيَّدة لكي تضمن لنفسها الاستمراريّة على الحالة المُلتبسة التي هي عليها. أهي مشكلة نفسيّة أم اجتماعيّة أم تاريخيّة؟ لربّما كان كلّ ما يتشكّل عبر التاريخ يتفكَّك عبر التاريخ. ويُمكن اعتبار إحدى علامات بدايات التحوُّل والتفكُّك ومؤشّراتها قائمة في تلك اللّحظة التي يدخل فيها التاريخُ بكلّ ثقله واستمراريّته واسترساله، في توتّراتٍ ظاهرة وخفيّة مع راهنِ المجتمع وحاضره ومتغيّره.
ولنا أن نتذكّر أنّ بلداناً عربيّة كثيرة كانت متقدّمة منتصف التسعينيّات على الصين وعلى كوريا الشماليّة، وفي مستوى سنغافورة تقريباً، لكنّ هذه الدول تفوَّقت عليها اليوم في مجال البحث العلمي بشكلٍ كبير، بل شقَّت طريقها لتتحوَّل من دولٍ "طاردة" للكفاءات إلى "جاذبة" لها، وقد استثمرت مبلغ ثلاثة مليار دولار وتعاقدت مع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتّحدة الأميركيّة طيلة أربع عشرة سنة في مجال الطبّ والإعلام الآلي. كما تقوم بانتقاء الباحثين بمعايير دقيقة لتكوين علاقات بحث مع أساتذتها وطَلَبَتِها. من أجل الحصول على ما يكفي من المواهب لملء الوظائف التي يحتاجها اقتصادنا المتنامي، كما يقول لي كوان يو Lee Kuan Yew، أوّل رئيس وزراء لجمهوريّة سنغافورة (1959 - 1990)، شرعنا "في اجتذاب المواهب والاحتفاظ بها: أعني رجال أعمال يتمتّعون بروحٍ تجاريّة مُغامِرة، ومهنيّين مُختصّين، وفنّانين، وعمّالاً مَهَرة". هل نجحت سنغافورة في هذا الطموح؟ الإحصاءات والمؤشّرات الاقتصاديّة تؤكّد ذلك، فكيف تحقَّق الأمر؟ الوعي بدَور العِلم مُهمّ جدّاً هنا،وقوّة الدول تتأثّر جذريّاً بقدرتها على رعاية عُلمائها ومدى قدرتها على اجتذاب المواهب. في العام 1980، وعِبر البحث المنهجي عن الكفاءات والمواهب في أرجاء العالَم كافّة، "استطعنا اجتذاب بضع مئات من الخرّيجين كلّ سنة، وقد عوَّضنا عن خسارةٍ سنويّة تتراوح نسبتها 5 - 10% من أفضل مواطنينا المتعلّمين الذين يهاجرون إلى الدول الصناعيّة".
المُستفاد أنّ استمالة الذكاء ورعايته تتطلَّب استراتيجيّةً وطنيّة طويلة الأمد، بينما مشكلة بلداننا أنّها لم تخرج بعد من دوّامة سياسات ردّ الفعل والارتباط بالغَير، إمّا بمُبرِّر، كما سبقت الإشارة، العجز عن التصدّي للتطوّرات والاضْطرابات المحليّة والإقليميّة بسبب تعقيدها، أو الاستمرار في الوضع الرّاهن واستدامته بالمُمارسات السابقة نفسها التي لم تتخلّص بعد من الاعتقاد في جدوى سرديّة "الأمن قبل لقمة العيش". حالة سنغافورة، وغيرها كثير، أبرز دليل على إمكانيّة التغيير. ليس من اليسير أن تنتقل دولةٌ في ثلاثة عقود ونصف العقد من البحث عن لقمة العيش إلى تحقيق أعلى مستويات المعيشة. سرّ النهضة يكمن في التقيُّد بمعايير الحوكمة واختيار العقول المُناسِبة لإحداث الفارق. من جهة، تمّ التفكير في برامج دراسيّة لشحْذِ الذكاء المحلّي، ثمّ فُتحت في ما بعد جسورُ التواصُل مع الباحثين الآسيويّين المتميّزين في جامعاتهم لتشجيعهم على العمل في سنغافورة الأقرب لثقافتهم والأفضل لطموحاتهم. في محطّةٍ ثالثة، توجَّه الاهتمامُ إلى البحث عن ألمع المهارات والخبرات في أرجاء العالَم كافّة بعد توفير الآليّات والبنيات اللّازمة (مختبرات ومعاهد ومراكز علميّة بمواصفاتٍ عالية الجودة) للاستفادة من طاقاتهم ومساعدتهم على إنجاح مشروعاتهم البحثيّة التي ستعود بالنَّفع عليهم وعلى البلد الذي وَثق بهم. على خلاف ذلك، في غياب معايير ورؤىً واضحة محفِّزة على البحث وجاذِبة له، تتولَّد نفسيّة أو عقليّة لا تنظر بتقديرٍ ورضىً لتحسين ظروف الاشتغال أو الرَّفع من تعويضات ومنح البحث العلمي لفائدة الأستاذ(ة) أو الطالب(ة).
يقود هذا الأمر إلى التأكيد على خطورة وجود هذه النفسيّات والعقليّات، أو ضعف، إن لم أقل غياب، بيئات حاضنة للتحصيل والتكوين العلميَّين، ووجود ثقافة مُعادية للنجاح أو غير مهيَّأة للاعتراف بوجوده أصلاً، بغضّ النَّظر عن وجود جديّة ملحوظة من عدمها تطبع الإسهامات العلميّة على المستوى الكمّي والنَّوعي. وما يزيد الوضع سوءاً أنّ الثقافة قُلبت رأساً على عقب إلى أن تحوَّلت إلى صناعةٍ للترفيه!
*أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة القاضي عيّاض، المغرب - مؤسسة الفكر العربي