وريث كاتب السلطان وتلميذ سقراط
د. فردريك معتوق*
أعلَم تماماً أنَّ هذه الأيّام ليست هي أيّام المفكّرين الأحرار، بل هي أزمان نقائضهم؛ لكنّني أعلَم أيضاً أنَّه من دون المفكّر الحرّ، لا استنبات لأفكارٍ ولإبداع؛ وبالتالي فلا ثقافة حيَّة راهناً، بل نحن أمام تراثٍ ثقافيٍّ أفقيٍّ مُستدام، خالٍ من أيّ دَسَمٍ فكريٍّ فوّار.
فالمفكّرون الأحرار هُم أهل النافورة، يُطلقون أفكارهم عالياً في الفضاء. أمَّا المفكّرون الحكوميّون، أو بالمصطلح الأكثر دقّة المثقّفون الحكوميّون، ويتفرَّع منهم المثقّفون الحزبيّون، فهُم أهل البلاغة التي تسحب الأفكار إلى ما تحت سابع أرض.
مهما حصل، ومهما كان شكل الدول والنُّظم السياسيّة الحاكمة، سيبقى المفكّر الحرّ مِلح الأرض، به تنبض الرؤى، ومعه تُزهر الثقافة وتَستبصر فضاءات المستقبل للأجيال على كرّ العصور.
فما الفَرق بين هذا وذاك في الحياة العمليّة؟
1- يعتبر المُثقّف الحكوميّ نفسه مسقوفاً سلفاً، فيما لا يعتبر المُفكّر الحرّ نفسه مقيَّداً بسقوفٍ مُحظَّر عليه اختراقها.
فالصنف المُفضَّل للكتَّاب في المجلّات العربيّة السائدة اليوم، هو ما يُمكن أن نُطلق عليه مُسمّى المُفكّر الحكومي، أو أكثر تلطيفاً ودقّة المثقَّف الحكومي. فهذا الشخص يكتب بحسب قاموس المفردات والمفاهيم المُعتمدة في المجلّة ويلتزم بمضامينها الفكريّة. فإن كانت المجلّة تعتمد مصطلح "الوطن العربي"، يعمل هو على استخدام هذا المفهوم آليّاً من غير التفكير في عدم مُطابقته للواقع العربي الموضوعي العامّ، ومن غير التحفّظ عليه، لأنَّه يعلم أنَّه عند اختراقه لهذا السقف، لن يُنشر مقاله، فيُحاذر الرفض مُسبقاً باعتماده.
حبَّذا لو كان لنا وطن عربي حقيقي، موحَّد الرؤى والمصير، لكن أيّاً كان من الناس بإمكانه أن يرى بأُمّ العَين أنَّ الوطن العربي شعار - سراب في الوقت الرّاهن، وأنَّ تمسُّك العرب بعصبيّاتهم، بلداً بلداً، لا يُتيح لهم حتّى الآن سوى تكرار مقولة أنَّ العرب اتّفقوا على ألّا يتَّفقوا.
أمَّا المفكّر الحُرّ، فهو ليس ملاكاً هابطاً من السماء، لكنَّه إنسان لا يعتبر نفسه مُلزَماً بتكبيل أفكاره لمجرَّد أنَّ الواقع يفترض ذلك، أو أنَّ خطّ المجلّة أو الصحيفة لا يوافق على رأيه أو أفكاره الجديدة. وفي العالَم العربي المعاصر لا تأتيه هذه النزعة من تنشئته الاجتماعيّة البيتيّة أو المدرسيّة، المقولبتَيْن من ضمن قالبٍ معرفي موحَّد، لاغيتَيْن كلّ تفرّد فكري، باسم الأعراف والتقاليد، بل تأتيه من احتكاكه بأنماط التفكير الغربي المتوفّرة بسخاء في مصادر الثقافة الحديثة المُتمأْسِسَة في الغرب.
فالتفكير الحرّ بات له منذ عصر التنوير الأوروبي مؤسّساته ومنشوراته ومصادره الخاصّة والمستقلّة، على عكس الحال التي نحن فيها.
2- يلتزم المثقَّف الحكوميّ بما هو مطلوب منه، بينما لا يلتزم المفكّر الحرّ إلّا بما يراه مُفيداً لتقدّم المعرفة.
فالأوّل يسأل عن الموضوعات المُعتمَدة، ويكتب في الأبواب المُكرَّسة والمُعتمدة في الوسيلة الإعلاميّة التي يُشارك فيه. كما أنَّه، عندما يقلق من تجاوُزٍ مُحتمل لما هو مرسوم ومطلوب، يتَّصل بالمَعنيّين ويحثّهم متوسّلاً، على نحوٍ غير مباشر، الموافقة على ما يعرضه. هو لا يثق فكريّاً بما يكتب، ويتلافى "الدعسات النّاقصة"، فيمشي قَلِقاً على الدوام، وكأنّي به موظَّف أوكلت إليه مهمّة الكتابة أو النَّسخ الفكري، ليس إلّا. إنّه غائبٌ في النصّ المكتوب، أو ظاهرٌ بخجل. وفي جميع الأحوال لا يُغامِر بفكرةٍ يستشعر فيها خطراً على مستقبل وظيفته الكتابيّة. وبغية تطمين نفسه، لا يجد في ما يقوم به عَيباً، بل يعتبر نفسه وسطيّاً، لأنّه يمسك دوماً العصا من نصفها. فهذه "الوِضعَة" بنظره مهارة بحدّ ذاتها لأنَّها تؤمِّن له عملاً دائماً وثابتاً.
أمَّا المفكّر الحرّ فيحترم قواعد الكتابة ويُلمّ بها، بيد أنَّه لا يرى أنَّ الأمر يتوقَّف على مهاراتِ الكتابة وتقنيّاتها، فالأهمّ يكمن في ما يُضيفه تفكيره على هذه المهارات. ومن المُمكن أن تكمن الإضافة في كلمة، أو في عبارة، أو في شرحٍ مُطوَّل لفكرةٍ جديدة تفتح الباب أمام ظهور أنموذجٍ إرشادي جديد (paradigme).
وفي هذا السياق نتذكّر أنّ من بين أمْهَر مَن عبَّر عن هذه الحالة الفيلسوف دنيس ديدرو، الذي لخصَّ مشروعاً ثقافيّاً وفكريّاً مُتكاملاً في كلمة واحدة، استنبطها وأضافها على الإنسيكلوبيديا الفرنسيّة في العام 1752م. وهي "القاموس المُعقلَن للعلوم والفنون والمِهن". أي أنَّه أعلن بهذه الكلمة ظهور عصر فكري جديد يقوم على عقْلنة المادّة المكتوبة وإخضاعها تالياً للنقد.
لدى المفكّر الحرّ، الفكرة تتقدَّم على الكتابة، على عكس ما يعتمده موظّف الكتابة الذي لا دَور حيّاً لتفكيره في ما يكتبه.
3- يبتعد المثقَّف الحكوميّ أو الحزبيّ عن الموضوعات الحسّاسة، فيما يعتبر المفكّر الحرّ أنَّ من حقّه الدخول إلى أيّ موضوع يشغل بال الإنسان.
فالأوّل لا يتجنَّب فحسب، بل يبتعد عنوةً عن الموضوعات أو المُقاربات التي تحمل في طيّاتها رائحة الاعتراض على المألوف، والمأثور، والموروث.
فالموضوعات التي يعتبرها محظَّرة، هي تلك التي تخدش مشاعر الأعراف والتقاليد المألوفة في ما مضى، (كالثأر مثلاً)، ولكن غير المقبولة من الإعلام الخارجي، حيث إنَّ من المُستحسن عدم ذكرها أو التطرّق إليها. ومن أخطرها على الإطلاق مفهوم العصبيّة، إذ يُطرَح من زاويةٍ نفس – اجتماعيّة فقط تحت مُسمّى التعصّب، من دون ذكر لمحموله السياسي الدفين والعميق؛ فتنتهي المسألة عند المثقَّف الحكومي بكلامٍ توريقي يتناول فيه بهذا الصدد مفاهيم رديفة، مستعارة من قاموس دوائر الأُمم المتّحدة، الذي يدور حول خطاب الكراهيّة وثقافتها، من دون الدخول في صلب الموضوع.
فالتناول الجانبي للموضوعات يُساوي معرفيّاً في عمل المثقّف والكاتب الحكومي، التجاهُل المتعمَّد لموضوعاتٍ بعينها. لذلك حفاظاً على حظوظه في نشر مقالته أو نتاجه الثقافي، يحفظ لنفسه هذا المثقَّف خطَّ العودة حتّى قبل أن يبدأ بكتابته. يُساير باستمرار الخطّ التقليدي المرسوم للمجلّات الحكوميّة، ويُسهِم في تعميمه، لكنَّه يُضحي تدريجيّاً، مع كلّ مقالٍ ينتجه، كاتباً ومعلِّقاً تقليديّاً لا طموح لعمله سوى الزخرفة الثقافيّة والتجميل.
من ناحيته يعمد المفكّر الحرّ إلى عدم الاكتفاء باستعراض الموضوعات كمكعَّباتٍ مصفوفة على رفوف سوبرماركت، بل يبحث عميقاً في مكوّناتها ومصادرها ومقاصدها غير المُعلنة. لذلك فهو مزعج، لأنَّه يُحرّك ما يُراد له أن يبقى ساكناً، سامحاً لنفسه السَّير بخلاف خطّ العبور المعهود.
في الواقع، هو يُخالف عمداً خطّ السَّير التقليدي، لأنَّه يمشي بحسب خطّ السير العقلاني والتجريبي. فعندما تناولَ اليعقوبي مثلاً في العام 802 م. سلوكَ الخلفاء في كتابه مُشاكلة الناس لزمانهم، تعاملَ مع الموضوع كمفكّر حرّ، إذ لم يُمجّدهم بالجملة، بل تناولهم واحداً.. واحداً، وصنَّف نصفهم في خانةِ غير الأنقياء وغير الحكماء، فيما اعتبر أنَّ النصف الآخر فاضلٌ ومُتديّنٌ وحكيمٌ. هكذا يكون الإنصاف المُعَقلَن.
4- لا يعتبر المثقَّف والكاتب الحكوميّ أنَّه مُلزم بموقفٍ فلسفيّ وإنسانيّ عامّ، في حين أنَّ المفكّر والكاتب الحرّ يربط نتاجه الكتابيّ بأُفقٍ فلسفيّ إنسانيّ مفتوح.
فالمثقّف الحكومي هو بمثابة مفكّر للسلطة، تتجلّى صورته القصوى بالمفكّر الحزبي الذي يتعامل مع الفكر أيديولوجيّاً. فالأيديولوجيا، كمنظومةِ تفكيرٍ سياسيّة، تدور في فضاء الالتزام السياسي، لا في فضاء التفكير الفلسفي الحرّ. لذلك، حتّى ولو أنَّ صاحبها يُكثِر من الكلام ذي الطابع الفكري ويبني تحاليله على مفاهيم فلسفيّة أصيلة (كالحريّة مثلاً)، غير أنَّه يسجنها عمداً في زنزانةٍ إفراديّة، هي زنزانة الأيديولوجيا الحزبيّة التي يعمل لمصلحتها وتحت إمرتها.
وقد بيَّنت التجارب التوتاليتاريّة كم أنَّ مفهوم الحريّة في خطابها مجرَّد خدعة بيانيّة، لا بُعد فلسفيّاً لها، يلجأ إليها الخطيب أو الكاتب للتكبيل، لا للتحرير. يعود ذلك إلى أمرٍ خطير مفاده أنَّ الكاتب الحكومي أو الحزبي يضع سلَّماً ذهنيّاً في وعيه تأتي في رأسه السياسة فيما تقبع تحته الفلسفة. فالولاء والإملاء السياسيّان دفينان لديه، بحيث يغدو بعدها الاعتبار للشأن الفكري مُستتبعاً كلّ الاستتباع. من هنا يُمسي تفكير المثقّف الحكومي أو الحزبي مُمأسَساً سياسيّاً قبل أن يكون مَبنيّاً فلسفيّاً.
في المقابل، يلتزم المفكّر الحرّ بالفلسفة التنويريّة، السقراطيّة الجوهر، التي تجعله يتمسَّك بصحَّة الفكرة وعقلانيّة المقاربة على نحوٍ مبدئيّ. وفي هذا الصدد هو لا يدير ظهره للسياسة في تفكيره، بقدر ما يجعل من الشأن السياسي مُعطى، لا غاية له بذاته. فالغاية عنده هي حريّة التفكير وحريّة التعبير. ومن هنا إصراره على طرحِ أيّ مسألةٍ أو موضوعٍ إنساني من دون تحفّظ، طالما أنَّ طرحه يأتي في سياق طرحٍ عقلانيّ مسؤول.
5- بالنسبة إلى المثقَّف والكاتب الحكوميّ، يكمن المبدأ في الكتابة؛ أمَّا بالنسبة إلى المفكّر والكاتب الحرّ، فإنَّ العمل الكتابيّ برمَّته يقوم على التوعية.
فالمثقّف الأوّل يوهِم نفسه ويوهِم القارئ بأنَّه قد اختار بحريّة موضوعه، فيما غالباً ما يكتب غبّ الطلب، بحسب المحور الرئيس للمجلّة أو ملفّ العدد، أو من خارجهما، لكن من ضمن المستحبّ في توجّهات المطبوعة. وما ينطبق هنا على مقال المجلّة ينطبق أيضاً على المنتَج السمع - بصري في الإعلام التلفزيوني الذي بات يحتلّ الساحة الثقافيّة منذ ستينيّات القرن الماضي.
إنَّ المثقَّف الحكومي أو الحزبي يهتمّ باحتلال الساحة الثقافيّة عبر كتاباته بغرض إبقاء غَلَبَة الأفكار فيها لخطٍّ سياسي هو مقتنع به أو مطلوب منه أن يلتزم به تحت طائلة عدم توظيفه أو التعاقُد معه. فهو موظّف يعتمر قبَّعة المفكّر ليس إلّا.
لذلك فإنَّ المثقَّف الحكومي أو الحزبي غير مُبدع وغير خلاّق، ذلك أنَّ من شروط اختياره أو قبوله في دائرة كتّاب منشورة حكوميّة، مطبوعة أو سمع - بصريّة، أن يلتزم بالكتابة التوريقيّة، بعيداً عن مرامي الظاهرة التي يكتب فيها.
بالنسبة إلى المفكّر الحرّ، في المقابل، الكتابة عبّارة تسمح له بالدخول إلى فكرة، والفكرة مَعبر إلى التوعية المجتمعيّة العامّة.
مَهمّة المفكّر النهضوي تحت هذا اللّواء ليس الكتابة فحسب، بل إيقاظ العقول والتوعية. فهو ينطلق من الكتابة كشأنٍ عامّ وعمومي، فيدفعه احترامه للعموم إلى مشاطرتهم ما يراه وما يستبصره عقله من مُقارباتٍ جديدة ومُجدِّدة للوعي. فلولا هذا الصنف من الكتّاب لتحوَّلت الكتابة إلى ما يُشبه النَّسخ.
وهذا هو تماماً ما يحصل مع الكتّاب التراثيّين السلفيّين الذين يرون أنَّ مهمّتهم تقتصر على تحقيق نصوص قديمة ومراجعتها، يبترونها من أيّ ديناميّة، حتّى لو كانت، في الأصل، مفعمة بالحياة والدلالات والدروس القابلة للتطوير.
وفي هذا الخصوص، يكفي أن نذكر مثلاً أنَّ ابن خلدون قد ذكر في معرض كلامه عن الصنائع والعلوم، أنَّها تُكسِب المرء "عقلاً جديداً يستعدّ به لتقبُّل معارف أخرى"، وكان قد كَتَبَ ذلك في العام 1375 م. في المقدّمة. فهل أروع وأحدث من هذه الفكرة تربويّاً؟
6- هكذا، يمشي المثقّفون الحكوميّون على خطى المحقّقين التراثيّين، فيما يسير المفكّرون الأحرار على خطى الفلاسفة التنويريّين.
فالفئة الأولى لا تعتبر نفسها مَعنيّة بتجديد المعرفة أو باستبصار أنموذج إرشادي جديد. هي منشغلة بنقل المعرفة فقط، وأحياناً بتحليل بعض عناصرها، لكن مع عدم التجرّؤ على تقديم تفسيرٍ لمضامينها ومَراميها. لذلك فإنَّ عمل المثقَّف الحكومي أو الحزبي يقتصر على ما يسمّى في علوم اللّغة الفرنسيّة بالـ paraphrase، أي بالعبارة التي تكتفي بتكرار مضمونِ عبارةٍ ما، بتعابير ومفردات أخرى، لكن غير مختلفة المعنى أو المغزى.
سهل هو العمل الذي يحتال على موجب التفسير الفكري بالالتفاف عليه وردّ القارىء دوماً إلى المربَّع الأوّل. فالتكرار يُنمّي الذاكرة ويُفعِّل الحفظ، لكنَّه لا يؤدّي أيّ دورٍ تحفيزيٍّ للعقل، بل يدفعه تدريجاً إلى النُعاس، فالغرق في النوم.
هكذا تضيع السنوات والقرون وتبقى الثقافة التي أنتجتها هذه الفئة من المثقّفين غائبة عن الواقع وغائبة عن الوعي. ينجم خطرها الأكبر أنَّها توهِم معشر قرّائها بأنَّ المعرفة المجفَّفة التي ينقلونها هي ثقافة كلّ الأزمنة، وأنَّها هي السند الفكري الموثوق. ويُضيفون للإقناع، أنَّها هي الثقافة الأصيلة. غير أنَّ كلّ ما يحتكّ بعمق ما يُسمّى التراث، يستطيع أن يكشف كم أنَّ الحيويّة الفكريّة تدبّ في عروقه. فالتراث لم يكُن تراثاً عندما وضعه أصحابه، بل مادّة فكريّة حيّة ملتزمة بقضايا عصرها وداعية للتفكير، لا للتمجيد والتجميد.
المفكّر الغربي الحرّ، واضع هذا التقليد اعتباراً من عصر الأنوار الأوروبي، لم يجمّد تراثه الثقافي ولم يمجّده، كما أنَّه لم يُدر ظهره له، بل قامَ بمراجعته عقلانيّاً، نقطة بنقطة، وفَصَلَ الزوان عن القمح؛ ثمَّ عمل على تثمير حبّات القمح الصالحة في تربة العصر الجديد، بحيث أعطت مواسم من الأفكار الجديدة ما لبث أن اعتُبرت حديثة، أي منتمية إلى عصرٍ جديد ومنظورٍ معرفيٍّ جديد.
فالمفكّر الحرّ لا يستخفّ بالتراث، بل يحترم ما يضمّه من مواد تُسهم في تقدّم الإنسان والإنسانيّة. هو لا يُراجع المعرفة فقط، أو ينقلها فحسب، بل يضعها من ضمن منظور جديد منفتح على الواقع والمستقبل. لذلك ما يقدّمه يُسائل كلّ موروث. فهل أنَّ الموروث الثقافي مقدَّس أو مُنزَل كي لا تجوز مُساءَلته؟
7- يسبح المثقَّف الحكوميّ في العموميّات مُحاذراً تجاوُز حدودها، بينما يعمد المفكّر الحرّ إلى التوقُّف عند الخصوصيّات فيُسائلها.
يلجم المثقَّف الحكومي تفكيره، بحيث يتجنَّب الخروج عن المألوف من الموضوعات، حاصراً نفسه به، مخافة أن يقع على موضوع يتسبَّب له بإحراجٍ ما؛ لذلك تأتي كتاباته لطيفة وملطِّفة للأجواء ومقلِّمة الأظافر، لا تُثير تموّجاتٍ، بحيث تبقى السفينة مستقرّة في بحيرةٍ كبيرة من دون أن تخرج إلى عرض البحر. كما يقوم هذا المثقَّف ذو التفكير الدائري المغلق بلجم قلمه، بحيث قلَّما يلجأ إلى مفاهيم جديدة، فيزخرف بيانيّاً تعابيره، ويحوِّل المفاهيم إلى مصطلحاتٍ ليس إلّا. فالمعاني البعيدة لا تهمّه. ما يهمّه هو أن يُنجِز مقاربته بأقلّ التزامٍ مُمكن وبأكثر توصيفٍ مُمكن.
تُضحي كتاباته، وفق هذه الأطر والمعطيات، على شاكلة المفاتيح التي تفتح جميع الأقفال، فهي تُناسِب كلّ الأذواق ويرتاح لها كلّ القرّاء.
أمَّا الكاتب الحرّ، فهو يبدأ بالعموميّات بغية الانتقال على وجه السرعة إلى خصوصيّات الموضوع المطروح. لذلك فهو ينطلق دوماً من سؤالٍ إشكالي، لا من مجرَّد تساؤلات عامّة. يقصد جوهر مضمونه ويدخل متسلّحاً بسؤالٍ إشكاليٍّ دقيق. فعند صاعد الأندلسي، في كِتابه الشهير طبقات الأُمم، جاء السؤال على النحو التالي: لماذا هناك أُمم نابهة، تُقابلها أُممٌ غير نابهة؟ وعند مونتسكيو جاء السؤال الإشكالي في كتابه روح الشرائع ليقول: لماذا يختلف ترتيب السلطات لدى المُجتمعات الإنسانيّة؟ وعند ابن خلدون، في المقدّمة، انطلق التحليل من السؤال الإشكالي الآتي: لماذا يمرّ المُلك بأطوارٍ خمسة، ليعود دوماً إلى ثباتٍ في نمط الحكم، على نحوٍ دائري ومُغلَق؟ وعند إميل دوركايم: لماذا ينتحر الباريسيّون في نهاية القرن التّاسع عشر؟ في كتابه الشهير الانتحار.
فالكتابة هنا حرَّة، بيد أنَّها في الوقت عَينه استقصائيّة – فكريّة، تبحث عن سبب المشكلة، أو عن المعنى الخَفي للظاهرة. ومن هنا التشويق الفكري الذي يُرافق هذه الكتابة عند القارئ. فالمسألة فيها لا تقتصر على توصيفٍ ما لموضوع، بل يحوّلها المفكّر الحرّ إلى إشراكٍ بحثيّ للقارئ في تفسير ظاهرة لا يتوقَّف عندها عموم الناس.
8- يَنشد المثقَّف الحكوميّ الثبات وعدم التغيير، فيما يسعى المفكّر الحرّ إلى إبقاء حيويّة العقل في عروق كلماته.
فالأنموذج الثقافي الأوّل تقليدي حتّى العظم، حتّى عندما يطرق بابَ موضوعاتٍ معاصرة أو حديثة؛ فهو لا يؤمن بحداثتها، بل يستعرضها على نحوِ أفكارٍ واجتهاداتٍ تنتمي إلى مُجتمعاتٍ أخرى وبعيدة عن الأعراف والتقاليد الممتدَّة في مُجتمعه. من هنا يضع نفسه مُسبقاً خارج دائرتها ويستهجنها باحترامٍ مصطنع، لا يخفي خشيته من تأثيرها.
وفي هذه العمليّة، عندما يُقارب موضوع الديموقراطيّة الحديثة ومندرجاتها على سبيل المثال، يُشبه شخصاً يقف تحت المطر مُرتدياً مشمَّعاً يغطّيه من الرأس حتّى الكاحلَيْن كي لا يتبلَّل. فهو، في المجلّات الحكوميّة أو الحاصلة على دعْمٍ حكومي، مُلتزِم بإظهار نفسه أنَّه يهتمّ بالمسائل المعاصرة ويُتابعها، غير أنَّها في الحقيقة لا تعنيه، ولا يُحبّذ نقلها إلى قرّائه بشحنتها التغييريّة العقلانيّة العضويّة.
أمَّا المفكّر الحرّ، فيرى أنَّ الحداثة ليست تقليداً جديداً يُقابل به حزمة من التقاليد القديمة، بل إنَّها أنموذج إرشادي جديد يقوم على تحسينٍ مُستدام لعناصر الثقافة. فالاختبار الميداني للفكرة وصحّتها مقياسه الأساس ومبدأه. والفكرة التي تُناسب المجتمع وتضمن مصلحة الأجيال الجديدة والتحدّيات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة الجديدة تكون الفكرة الأصحّ، حتّى لو أنَّها اصطدمت بفكرةٍ سابقة موروثة.
فالتقدُّم الاجتماعي والمُجتمعي العامّ مَطلب المفكّر الحرّ، وسرّ الكتابة عنده لا يَكتب ليرتزق أو يحصل على مكافأة حتّى عندما تكون أحواله المادّيّة غير مريحة. يكتب كفيلسوفٍ مُعاصر، يرى نفسه مكمِّلاً لنهجٍ معرفي يستحقّ أن يُعمَّم لفوائده الإنسانيّة الجامعة.
صحيح أنَّ عموميّة الأفكار وكونيّتها الإغريقيّة القديمة قد سقطت في غير مجتمع وقارّة عبر العالَم (والعصبيّات الجيّاشة في كلّ مكان من المعمورة خير إثبات على ذلك)، بيد أنَّه يرى، في المقابل، أنَّ أحداً لم يستطع إثبات، مثلاً، بطلان شرعة حقوق الإنسان وحاجة البشريّة إليها، علماً أنَّ هذه الشرعة التي اعتمدتها منظّمة الأُمم المتّحدة منذ العام 1948 كانت قد أَبصرت النور مع الثورة الفرنسيّة في آب/ أغسطس من العام 1789، الأمر الذي يُشير إلى استحالة تجاوُز أفكارها وبنودها وعصيانها على العصبيّات.
9- المثقَّف الحكوميّ أو الحزبيّ لا يبحث عن إضافةٍ حين يكتب، بينما لا يرى المفكّر الحرّ من مبرّرٍ لعمله، إلّا من خلال تقديمه إضافة لما هو معروف.
فالمثقَّف أو الكاتب المحسوب على الصنف الأوّل، لا تشغله مسائل الإبداع التي ما اعتاد في تنشئته الفكريّة على التجرّؤ عليها. مع الإشارة هنا إلى أنَّ التنشئة الفكريّة لدى هذا المثقّف تعتمد على "الفاست فود" الثقافي التقليدي الذي تضعه الجماعة المُحيطة به كطعامٍ فكري جاهز ومجّاني.
ينبع تحفّظه الدائم من أنَّه لا يسعى حقّاً لمخاطبة عقل القارئ، بقدر ما يعمل على مُحاكاة العموميّات الثقافيّة ونقلها إلى قارئٍ يشبهه، مطواع وقنوع. فالجرأة عنده تهوّرٌ وخروجٌ على سويّة الأمور. لذلك، كالتلميذ النجيب، ينسخ الأفكار المعروفة، وكأنّي به كاتب للسلطان أو راهبٌ ناسِخ من الأزمنة الغابرة، من دون أيّ التزامٍ حقيقي بجوهر حيويّة الموضوع.
أمَّا المفكّر الحرّ، فهو مقدامٌ في الحقل المعرفي ويشدّه السعي لتقديم إضافة، وإلّا فلا يَعتبر أنَّ مقاله أو ما كتبه أو ما أباحَ به يستحقّ النشر، على عكس الكاتب الحكومي الذي يعتبر أنَّ كلّ ما يكتبه مهمٌّ ويستحقّ النشر.
الكاتب الحرّ قلقٌ عندما يعمل، لكونه غير أكيد من أنَّه سيتمكَّن من تقديم إضافته الفكريّة على نحوٍ واضح بما فيه الكفاية بالنسبة إلى القارئ. فهو لا يستقرّ على الصيغة النهائيّة لمقاله إلّا بعد تعديلاتٍ وتنقيحاتٍ وتصويباتٍ تنبع من هاجس ألّا ينجح في توصيل فكرته المُضافَة بالشكل المناسب، فيما الكاتب المؤسّساتي قادرٌ على كتابة ما يكتبه دفعةً واحدة ومن دون تردُّد، كمن يكرّ بكرة طويلة متواصلة لفَّها أحد سواه، فما عليه سوى كرّها.
ثمّة صعوبة لأن تكون مفكّراً حرّاً، وكاتباً حرّاً، في كلّ الأزمنة، وليس في الزمن الرّاهن فقط. فقد تختلف المعوّقات أمامك اليوم عمّا كانت عليه بالأمس القريب أو البعيد، بيد أنَّها ستحيط بك دوماً، وستحاول أن تطوِّعكَ باستمرار وتُدجِّن استعداداتكَ الفكريّة، بحيث لا تخرج عن المألوف والمعروف.
إلّا أنَّ مهمّتكَ، إن قرّرتَ أن تكون كاتباً ومفكّراً حرّاً، تدفعكَ بقوّة نحو المضيّ قدماً في نهجكَ، لسببٍ بسيط قد تثبت صحّته على مستوى جميع التجارب البشريّة، وفي القارّات كلّها، وهو أنَّ التفكير الحرّ، هو الذي يُنتِج ثقافةً مفتوحة على العمران البشري والحضارة، ويُهيّئ القرائح لمُواجَهة المستقبل بعقلٍ مفتوح.
10- تجدر الإشارة أخيراً إلى أنَّ الإضافة العموميّة الكبرى للكاتب والمفكّر الحرّ قد تجسَّدت في هذا المفهوم والمبدأ التأسيسيّ للمُجتمعات الحديثة المعروف بحريّة التعبير.
فلولا حريّة التفكير لما وُجدت حريّة التعبير، ولولا المفكّر الحرّ لما وُجدت حريّة التعبير ولا حريّة التفكير. فالإنجاز الحضاري، المُسجَّل اليوم في جميع الدساتير والمواثيق التي تُعلن عن نفسها منتميةً إلى الحداثة، مصدره التفكير الحرّ، والمفكّر الحرّ، هو مَن فتح هذا الباب منذ عهد سقراط، وهو مَن دفع ثمنه غالياً، ودافع عنه على حساب نفسه ومصلحته المباشرة، ماديّاً ومعنويّاً. هو مَن قدَّم للحضارة البشريّة هذه الزهرة النادرة الفوّاحة التي تعطِّر، في الثقافة والفنون والآداب والعلوم والمِهن، حياة الإنسانيّة اليوم.
*أكاديمي وباحث من لبنان - مؤسسة الفكر العربي