الذاتيّة - الآخريّة عربيّاً: مقاربة نفس - اجتماعيّة

news image

 

 

د. مصطفى حجازي*

تطرح الذاتيّة العربيّة الإسلاميّة في علاقتها بالآخريّة إشكاليّة فعليّة تتمثّل في أنّنا لم نُنجز بعد النقلة الحضاريّة الكبرى التي أنجزها الغرب في ثورته الصناعيّة وحداثتها، وهو ما أدّى إلى بروز صدارة الفرديّة ومرجعيّتها الجوانيّة المتمثّلة بمفهوم الذاتيّة الرّاهن. وإنّما نحن لا زلنا مجتمعات خراجيّة أساساً محكومة بثلاثيّة العصبيّات، والفقه السلفيّ، والاستبداد، وهو ما يلغي الذّات أصلاً. وحين تُلغى الذات يُلغى معها الآخر.

الآخر هو مكوِّن محوري من بنية الذات، إنبنائيّاً وجدليّاً. نجد عند هيغل فكرة النقص التكويني في إنسانيّتنا إذ يقول: يتعيّن أن نلتقي ما ليس ذاتنا كي نصبح نحن ذاتنا. كما تتمثّل خصائص الإنسان بتلك الحاجة الحاكمة للقاء الآخر، وضرورة المرور من خلال الآخر كي نصبح على مستوى إنسانيّتنا. فالذات لا تجد ذاتها إلّا من خلال جدليّة علاقتها بالآخر.

يتوافق عُلماء النَّفس على القول إنّ الذّات الراشدة تنبني في أثناء مراحل النموّ المختلفة، من خلال سلسلة متكاملة من التماهيات (من تماهي Identification)، والتي تتمثّل باجتياف خصائص الأشخاص المرجعيّين في حياته وديناميّات علاقته بهم: الأمّ أوّلاً، ثمّ الأب فالأخوة، فالأسرة الممتدّة، والمعلِّم والرفاق في المدرسة، والنجوم والأبطال المحبّين. وتتفاعل هذه السلسلة من التماهيات الايجابيّة مع التكوين البيولوجي الوراثي للفرد وتعطيه تلك الذاتيّة الشخصيّة الفريدة المميِّزة له، إضافة إلى إنجازاته وخياراته.

يتمثّل الطفل والناشئ هذه التماهيات، فتُصبح جزءاً من ذاته تتجلّى في علاقاته وسلوكاته وتوجّهاته. وتصبح هذه التماهيات في تداخلها وتفاعلها المتبادل هو ذاته في فرادته الذاتيّة، ويلعبها من ثمّ في علاقاته اللّاحقة بالآخرين. ويتجلّى ذلك في الرغبة ونقصها، وبالتالي توقها إلى الآخر الذي يكمِّلها، من دون أن تكتمل أبداً. ذلك ما يتمثّل في القول إنّ "كلّ إنسان يُحِبُّ ان يُحَبّ" أي يحظى بالاعتراف المتبادل والتكامل ما بين رغبته مع رغبة الآخر.

يعرض شارل بيبان، بشكل جميل، في كتابه بعنوان "اللّقاء" (تر. مصطفى حجازي، 2022) مدى أهميّة الآخر في تكوين الذات وتفتُّحها. فنحن نصير من خلال اللّقاء، ومن خلال ما بين الذاتيّة نكتشف ذاتنا. فاللّقاء هو ذلك الحدث الفريد الذي يلقي بي إلى ما يتجاوز ذاتي، وإلى أن أصير. ففعل الوجود Exister من اللّاتينيّة Ex-sistere يعني الخروج من الذات. فاللّقاء يكشفنا لأنفسنا ويفتحنا على العالَم. ومن خلال الخروج من القوقعة الذاتيّة ولقاء الآخر نستقرّ في حقيقتنا الإنسانيّة الفعليّة.

فالآخر يجعلني أكتشف ذاتي، ويجعلني أنطلق حين يمدّني بجناحَيْن؛ فكلّ لقاء هو بمثابة ولادة جديدة. تعبِّر كلّ هذه الأفكار عن مدى ارتباط الوجود الذاتي بالآخر. وجدليّة الذات – الآخر هي جدليّة تكوينيّة إنسانيّاً.

الحداثة وصدارة الفرديّة وذاتيّتها


مفهوم الذاتيّة المتداول راهناً، هو وليد صدارة الفرديّة، والمُعَبِّر عن بُعدها الجوّاني. وهذه بدورها هي بنت الحداثة التي تمثِّل البنية الفوقيّة المعرفيّة والفكريّة والثقافيّة للثورة الصناعيّة؛ إذ لم يكُن هناك من فرديّة وذاتيّة قبل الثورة الصناعيّة، بل ساد الحُكم الإلهي وسلطة الكنيسة ومرجعيّة سلطان الغيب. وبالتالي لم يكُن هناك أفراد بالمعنى الحديث، وإنّما رعايا وأتباع. كما لم يكُن يُعْتَرَفْ عندها بذاتيّةٍ ذات مرجعيّة جوّانيّة. كما أنّ الحداثة لم تتشكّل وتقوم بحدّ ذاتها، كما يجنح إليه بعض مفكّرينا، مقطوعة الصلة بالثورة الصناعيّة. إذ أصبح من المعروف أنّ التقنيّات الصناعيّة هي التي تولِّد أنماط الحضارة ونُظم العيش والاجتماع الإنساني ونشأة المُدن وأنظمتها ومؤسّساتها.

أدَّت الثورة الصناعيّة إلى إنتاج ثوراتٍ أربع هي التي تشكِّل في مجموعها الحداثة: الثورة الفكريّة والبحثيّة، الثورة التعليميّة، الثورة السياسيّة، وثورة الحرب على الكنيسة. قامت هذه الثورات الأربع متضافرةً لخدمة الصناعة والإنتاج والتسويق، والإدارة، وتنظيم العلاقات القانونيّة. كما كان لا بدّ من إعداد الإنسان المنتج، الصانع، المُجدِّد والمبتكر لخدمة التنافُس الإنتاجي على الأسواق. واحتلَّ إعداد هذا الإنسان العلمي والتقني والمهني مكان الصدارة. وهو ما فتح السبيل للمبادرات العلميّة والفكريّة وتحرير العقول وإطلاق الطاقات الحيّة بغية دفْع الصناعة وثورتها قُدُماً. وبالتالي احتلّ الإنسان وفرديّته مكان الصدارة بتحريره من قيود الكنيسة وعلومها الغيبيّة. أصبح الإنسان طليق الفكر والطاقات هو المرجع. وتكرَّس ذلك سياسيّاً بواسطة قيام نُظم الحكم السياسي بالتفويض من خلال الانتخاب.

نشأت الفرديّة ومرجعيّتها الذاتيّة الجوانيّة نتيجة الحداثة بنت الثورات الأربع. وبذلك انطلقت النقلة الحضاريّة الكبرى والتي استمرّت أكثر من قرنَيْن من الزمان. وقامت الدولة – الوطن، وظهر مفهوم المواطن ومرجعيّته، ومعها النظم الديموقراطيّة والحريّة. إنّها نقلة تتمثّل بنيويّاً في صدارة الإنسان وفرديّته ومرجعيّته الذاتيّة الجوّانيّة وفكره الطليق من كلّ قيود الغيبيّات.

يلخّص ميشال فوكو هذه النقلة الحضاريّة أجمل تلخيص من خلال القول بمفهوم الأبيستيمة Épistemè ويعني بها الإطار المعرفيّ الجامع والقبْليّ للثقافة والفكر في مرحلةٍ تاريخيّة معينة، ولاختلاف الثقافات. استخلص فوكو ثلاث إبيستيمات للثقافة الغربيّة: أوّلها وحدة الوجود والتشابه بين الأشياء والوقائع واللّغة التي تدلّ عليها. وسادت حتّى منتصف القرن السادس عشر. وحدث تبدّلٌ فجائي إلى إبيستيّمة التصنيف والترتيب في فئات أو مجموعات أو أنواع. ومن هنا سيادة مقولة "النظام" ونشأة العلوم وبداية علوم التصنيف والترتيب المستقلّة بعضها عن بعض. وقامت إبستيمة جديدة في نهاية القرن الثامن عشر هي إبيستيمة التاريخ ومقولته، وبروز المفهوم الحديث للإنسان وصدارته وظهور العلوم الإنسانيّة، (عبد الرزّاق الدّاوي، موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المُعاصر، 1992). هذه الإبستيمة الثالثة هي التي ميَّزت الحداثةَ وصدارةَ إنسانها وذاتيّتَه ومرجعيّتَها.

أمّا نحن، فلا نزال إجمالاً في الإبستيمة الأولى: وحدة الوجود، والمُستبِدّ الواحد الأحد، وذلك لأنّنا لم نُحْدِثْ النقلة الحضاريّة الكبرى، وإنّما دخلنا في حالاتٍ متفاوتة الشدّة من الهجانة ما بين العصبيّات والاستبداد وبعض مظاهر الحداثة. كما أنّنا لم ننخرط كما فعل الغرب، والنمور الجديدة في مشروعٍ إنتاجي وطني كبير (مصطفى حجازي، العصبيّات وآفاتها: هدر الأوطان واستلاب الإنسان، 2019).

محنة الذاتيّة – الآخريّة

إنساننا العربي – المسلم هو رهين ثلاثيّة العصبيّات والفقه السلفي، والاستبداد. فهذه الذاتيّة تمّحي في العصبيّة، كما تمّحي في الفقه السلفي، ويُكَمِّلْ الاستبداد هذا الامّحاء، إذ لا ذات غير ذات المستبدّ الواحد الأحد الذي لا شريك له في السلطة.

وإذا لم يُعْترف بالإنسان بمثابة كيان قائم بذاته، فكيف له أن يعترف بالآخر، وكيف يُمكن أن يكون هناك ذاتيّة؟ تلك هي في تقديرنا محنة الذاتيّة – الآخريّة. فالذاتيّة الفرديّة، على النمط الحداثي الغربي، التي تتساءل وتُشَكِّك وتفكِّر وتختار وتبادر انطلاقاً من مرجعيّتها الذاتيّة – الجوانيّة، هي خروجٌ عن النحن العصبيّة يجب أن يُقمَع ويُحارَب، وهي كفرٌ وضلالٌ يجب أن يُلقى عليه الحُرمُ من قِبَلِ الفقه السلفي، وهي تمرُّدٌ وتطاوُلٌ على الواحد الأحد المستبدّ يجب أن يُطارَد ويُباد، وذلك للقضاء على أيّ بوادر للشرك بأحاديّة السلطة.

ولذلك تلقى النخب الفكريّة التي تحرَّرت من حصار الثلاثيّة وحبسها المثلّث، كلّ ما تلقاه من مطاردة، ونفي خارج الوطن، أو النفي في داخله. وتشتغل هذه الثلاثيّة من خلال آليّة تتمثّل في كلٍّ من التأثيم البطركي الأسري العشائري العصبي، والتحريم الديني، والتجريم السياسي. ويتضافر عملُ أركان هذه الآليّة فتُعزِّز بعضها البعض الآخر، كما تتضافر قوى الثلاثيّة ذاتها، وتكون النتيجة استلاب الإنسان ومُصادرة كيانه وذاتيّته لخدمة أركان الثلاثيّة، محوِّلةً إيّاه إلى مجرّد أداة لخدمة أغراضها؛ فلا تعترف به كإنسان صاحب حقّ وكيان ومرجعيّة ذاتيّة.

تقوم العصبيّة على "النحن" بدل الأنا. ويذوب الأفراد أعضاؤها في هذه "النحن". تلك هي محنة الذاتيّة في العصبيّة. وتكملها محنة الآخريّة؛ إذ إنّ العصبيّة بحاجة الى رصّ صفوفها وتعبئة طاقاتها من خلال الدخول في صراع أو حرب مع عدوّ هو "الهُم"، أي العصبيّات الأخرى التي تتنافس على التسيُّد والمغانم، على غرار تنافُس العصبيّات البدويّة على الكلأ والماء. العصبيّة بحاجة إلى "هُم" عدوّة كي تستقيم أحوالها الداخليّة. وهنا تبدأ لعبة الانشطار المعرفي الانفعالي (clivage): تتمثْلَن النحن العصبيّة من خلال زعيمها والتماهي به، وتدّعي لنفسها كلّ الفضائل والسموّ والطّهر. وفي المقابل، فإنّها تُشيطن "الهُم" وتُأَسْطِرُها وتسلخ عنها إنسانيّتها. وتصبح الحرب على هذه "الهُم" بمثابة واجب مقدَّس لتطهير الأرض من الشرور واستعادة النقاء. لا يعود هناك من آخريّة شريكة في الإنسانيّة في عمليّة الانشطار المعرفي الانفعالي هذه: النحن كليّةُ القيمةِ في مقابل الهُم رمزِ انعدام القيمة. تلك هي محنة الذاتيّة والآخريّة في العصبيّة.

ويصل الأمر حدوده القصوى في العصبيّة السلفيّة، حيث يذوب الأفراد في "النحن"، كما يتماهون في ما بينهم، وينخرطون في التباري بالتشدُّد تجاه هذا الخارج الآخر الذي يتمّ تكفيره وتحليل دمه. فالآخرون "الهُم" يتحوّلون إلى أسطورة الكفر والضلال، ويصبح العنف تجاه الآخر فرضاً دينيّاً يتوجّب القضاء عليه يسبق فروض الإسلام الأخرى (سعود المولى، السلفيّة والسلفيّون الجدد: من أفغانستان إلى لبنان، 2016). وهنا تصبح عقيدة الجماعة السلفيّة مقدَّسة وتشكِّل هويّة مغلقة على ثوابتها ومحرّماتها. كما تتمثّل في تفاسير الفقهاء التي تحلّ محلّ النصوص المقدَّسة، ما يفصل فصلاً قاطعاً بين الإيمان والكفر، والطهر والرجس، ما يُطلق العنان لغريزة الموت من دون قيود، تصبّ على الآخرين الكفرة الضالّين، الذين تُسلخ عنهم إنسانيّتهم حيث تصبح الغيريّة هي الشرك والشرّ المطلق الذي لا مجال لحوارٍ أو لقاء معه.

على أنّ الذوبان في الجماعة الأصوليّة وأميرها يمدّ الأفراد بنوعٍ من الزهو الذاتي، ويوفِّر قيمة بديلة عن الخواء الكياني الجوّاني. إنّه امتلاء للذات من الخارج بدل أن تُصْنَعْ ذاتيّاً. ويزداد هذا الزهو حدّةً بمقدار الذوبان في النحن حاملة الإيمان الحقّ والرسالة الحقّ، وبحيث لا يترك من مجال للقاء أو شراكة مع الآخر.

بَيَّن أدونيس كيف أنّ الشرع وأحكامه، كما ينتقيها الفقهاء ويفسّرونها، تستلب الإنسانَ المسلم وذاتيّته وتجعل منه إنساناً ذا مرجعيّة برانيّة، أو ما يُسمّى في علم النفس: الإنسان الموجَّه "بمركز الضبط الخارجي"، وذلك على عكس الذاتيّة الفرديّة الموجَّهة "بمركز الضبط الداخلي". فقرار إنسان الشرع ليس ذاتيّاً، بل هو يملي عليه من الخارج بمثابة تعريف كيانه ذاته.

وإذ قرأ الفقهاء النصوص وفسّروها بما يخدم مصالح السلطات النّافذة سياسيّاً، بحيث أصبح عملهم مشروطاً بالمصالح ووقائعها (مصالح السلطان على اختلاف ألوانه) أكثر ممّا هو مشروط بالبحث عن الحقيقة، تمّ إدخال الناس في طاعة السلطات المطلقة، ومنْع جميع مظاهر التمرّد عليه. فيُمنع الإنسان من التفكير والتساؤل، ويُحجر على عقله ويُختم على نفسه باسم الدّين، ويبقى كائناً برّانيّاً مسيَّراً لا إرادة له ولا خيار، وبالتالي لا تفرُّد ولا مرجعيّة ذاتيّة.

قد تكون اتّضحت بعض الشيء ثلاثيّة العصبيّات، الفقه السلفي، والاستبداد، واستلابه للإنسان وذاتيّته، ومعها استلاب الآخر والشراكة والنديّة معه.

فهذه الثلاثيّة متضافرة الفعل، تعزِّز بعضها البعض الآخر، من خلال آليّة اشتغالها. وعلى سبيل التدليل على ما نذهب إليه، فإنّ المُستبِدّ لا بدّ أن يرتكز بدئيّاً على عصبيّة ينتمي إليها، سواء أكان فاتحاً يرتكز على عصبيّة غازية، أم كان مستبدّاً مُعاصِراً يرتكز على عصبيّته الطائفيّة أو المذهبيّة، أو المناطقيّة. وهو بدوره يُعزِّز من مكانة هذه العصبيّة من خلال تحكُّمه بالسلطة فيختار الحلقة المقرَّبة من أعوانه من أركان هذه العصبيّة. وبالتالي حيث لا يكون هناك ذاتيّة، لا مجال لقيام آخريّة، في غياب المواطنة ومرجعيّتها في تفويض السلطات. تلك هي محنة الذاتيّة والآخريّة مع ترسُّخ هيمنة هذه الثلاثيّة.

مجتمعاتنا لا تزال محكومة منذ تسعة قرون، وبشكلٍ فوقي، من سلسلة من الحكّام الفاتحين المفروضين من الخارج وعصبيّاتهم وفقهائهم. ولقد ترسَّخ هذا الأمر في اللّاوعي الثقافي الجمعي على مدى هذه القرون التسعة، على شكل قطيعة وغربة ما بين السلطات الحاكمة والقواعد الشعبيّة التي تُسْتَتْبع وتُملى عليها الأحكام بشكلٍ فوقي برّاني.

لعلّ ما تقدَّم يُبرِّر ضرورة إقامة علوم نفس واجتماع تحيط بخصائص مجتمعاتنا وناسها؛ ما يندرج من ضمن ما يُعرف بعلم النَّفس البلدي Indigenous Psychology. وهو ذلك الفرع من علم النفس الذي يدرس خصائص مجتمعات العالَم الثالث الثقافيّة ومرجعياتها القيميّة ومعاييرها، ونظرتها إلى الذات والكون. ذلك أنّه ثبت أنّ العلوم الإنسانيّة التي وُضعَت للإنسان الغربي الصناعي ولخدمة أغراضه، وحُسن استغلال طاقاته، ليست علوماً كونيّة، كما يدّعي الغرب. وبالتالي فلا يجوز تطبيقها بحالتها المستورَدة على مجتمعاتنا وإنساننا. ذلك ما حاولناه في جلّ أبحاثنا النفسيّة، وآخرها العمل بعنوان: "العصبيّات وآفّاتها: هدر الأوطان واستلاب الإنسان" (2019).

لا بدّ، قبل الاختتام، من الإشارة إلى أنّ محنة الذاتيّة – الآخريّة ليست حصراً على مجتمع العصبيّات والفقه السلفي والاستبداد. ففي العالَم الصناعي المتقدّم، تتجلّى هذه المحنة في انتشار "العنصريّة" وخطابها متزايد الانتشار، والذي يتّخذ على وسائط التواصل الاجتماعي تسمية "خطاب الكراهيّة". ومنها الإسلاموفوبيا وشيوعها في المجتمعات الغربيّة، حيث تلصق بالإسلام تهمة الإرهاب.

والعنصريّة، كما تدلّ عليها التسمية، تحيل إلى التصنيف ما بين الفئة الأرقى والأنقى، والفئة التي تلصق بها مختلف أوصاف الانحطاط والسوء. وذلك من قبيل عنصريّة العرق الأبيض، والعرق الآري، وشعب الله المختار. تتحكّم بالعنصريّة نزعة التعالي والتفوُّق المميِّزة "للنحن" في مقابل التخلُّف والانحطاط والإرهاب التي تُلصق "بالهُم".

*أكاديمي وباحث من لبنان - مؤسسة الفكر العربي