رحيل باني هَيْكل الاستعراب العادِل
محمود برّي*
عن تسعة وثمانين عاماً، رحلَ الشهر الفائت شيخ المستعربين الإسبان البروفسور "بيدرو مارتينيث مونتابيث" (1933 – 2023) بعدما بنى للاستعراب الإسبانيّ خصوصاً، والغربيّ عموماً، صرحاً علمو/ ثقافيّاً نموذجيّاً تقوم أركانه على الحقيقة والعدالة، الأمر الذي جعل لفيفاً من المُستعرِبين الجدد ورجال الفكر المعنيّين بالشأنيْن الفكريّ والحضاريّ العربيّ العامّ يقتدون به، وبرؤيته الاستعرابيّة التي اتّسمت بالموضوعيّة وتصحيح صورة العرب في التاريخ والحاضر على السواء.
يُعتبر د. مونتابيث الذي وَصَفَ نفسه بـ "المناضل من أجل العدالة" أحد أبرز دارسي التراث العربي والأندلسي وكلاسيكيّات الأدب العالمي المخطوطة بلغة الضادّ التي أَتْقَنها وتبحَّر فيها، الأمر الذي جَعَلَ منه جسراً موثوقاً ويقينيّاً للتواصل بين حضارة العرب والعالَم.
شَغَلَ الرجلُ كرسي تاريخ الإسلام في "جامعة إشبيلية"، ومدير قسم اللّغة العربيّة وعلوم الإسلام، ومعهد الدراسات الشرقيّة والأفريقيّة في جامعة مدريد المستقلّة التي كان أوّل رئيس مُنتخَب لها بين عامَي 1978 و1982، عقب أفول دكتاتوريّة الجنرال فرانكو.
كان المُدافِع الجريء عن الحقوق العربيّة منذ ستّينيّات القرن الماضي، وصاحب التجربة الطويلة مع اللّغة والإبداع العربيَّين، قدَّم خلالها إلى لغة سرفانتس نتاجات نُخبة من ألمع الشعراء العرب المُعاصرين، أمثال محمّد مهدي الجواهري، وبدر شاكر السيّاب، وعبد الوهّاب البيّاتي، ونزار قبّاني، وبلند الحيدري، ومحمود درويش.. "فعُرفوا جيّداً في العالَم النّاطق بالإسبانيّة، خصوصاً في دول كالأرجنتين وكولومبيا وفنزويلّا وتشيلي والبيرو، فضلاً عن مركزيّة إسبانيا"، على حدّ تعبير الكاتبة والباحثة الأرجنتينيّة ليونور أنخيلو غونزاليس.
كان الراحل الكبير يَعتبر أنّ جبهة "اللّغة والثقافة العربيّتَيْن بكلّ ما تحمله من غنىً وألمعيّة، تُمثّل الحصن الوحيد المتبقّي للعرب، وعليهم أن يُحافظوا بجديّة ووعي على هذا الحصن، وأن يحموه من الذوبان والانهيار، إذ بانهياره يتحقّق انهيارهم كأمّة وحضارة إنسانيّة رائدة".
سجَّل "مونتابيث" خطوةً واسعة نحو المستقبل، حين اعتبرَ أنّ "التراث العربي والإسلامي، هو أحد أبرز المكوّنات الرئيسة للثقافة الإسبانيّة ولشخصيّة المواطن الإسباني حتّى اليوم...". وهذا ما لم يسبقه إليه أحد في إسبانيا والعالَم الغربي. اعتبر أنّ إسبانيا ما كان لها أن تدخل التاريخ الحضاري لولا القرون الثمانية التي عاشتها في ظلّ الإسلام، وكانت باعثة النور والثقافة إلى الأقطار الأوروبيّة المُجاورة. وهذا ما وافقه عليه مستعربٌ إسبانيٌّ آخر كبير هو "أغناطيوس فيراندو فروتوس"، الأكاديمي في جامعة قادش بقوله "إنّ أوروبا منغلقة ومتخلّفة نوعاً ما، لا تقبل ما يأتي من الخارج إلّا بصعوبة كبيرة (...)". وأضاف أنّه "بفضل وصول الإسلام إلى القارّة، وعلى أثر ذلك، انتشرت فكرة التسامُح والتعايُش بين الأديان والثقافات".
حصل ذلك، في حين أنّ مؤرِّخين غربيّين كُثُراً، وعدداً غير قليل من المُستعرِبين أنفسهم، لم يقرّوا بهذا الفضل، وذلك لأسبابٍ إيديولوجيّة معروفة (...)، فقال عنهم إنّ "هؤلاء كانوا يشتغلون في مجال الاستعراب لأغراضٍ مضادّة، فوقيّة وعنصريّة (...) كذلك كانت الدولة في الغرب، ومعها الكنيسة في الغالب، تعملان على طمْسِ كلّ ما له علاقة بالتراث الإسلامي".
ثورة في المفاهيم
شكَّل المُستعرِب/ المفكّر "مونتابيث" بأبحاثه وإضاءاته، ثورةً ثقافيّةً كبيرة وفاعلة في المفاهيم، نجحت إلى حدٍّ بعيد في تقديم تاريخ الأندلس كحقيقةٍ نادرة في تاريخ العيش الحضاري الإنساني المُشترَك لم يَعرف لها العالَم الغربي مثيلاً؛ إذ لم يدوِّن التاريخ زمناً يزيد على الأربعمائة عام كان يعيش فيه المسلمون والمسيحيّون واليهود بهذا التوافُق والانسجام والاستقرار المُنتِج والعميق.
وعلى امتداد أكثر من نصفِ قرن، خاضَ "مونتابيث" رحلته الفكريّة الخصبة والصاخبة، تَرْجَمَ خلالها عطاءات أهمّ الشعراء العرب المُعاصرين، ووضعَ قراءاته المُجلّية في الأدب العربي الحديث، كما سبق وذكرنا.
وكذلك وضعَ العديد من المؤلّفات مثل: "استكشافات في الأدب العربي الجديد" (1977)، و"الأدب العربي اليوم" (1978)، و"العرب والبحر الأبيض المتوسّط" (1999)، و"لماذا العراق؟" (2003)، و"مأساة العرب الكبرى" (2003)، و"العالَم العربي وتغيّرات القرن" (2004)، و"تطلّعات الغرب والحرمان العربي" (2008)... فكان يرسم لمفهوم الاستعراب خطوطاً جديدة واضحة، مُعتبراً إيّاه "نتيجة مُثمِرة للتعايُش بين العرب والأُمم الأخرى على مَدار التاريخ، في ظلّ الحُكم العربي الإسلامي الذي مثَّل حاضنةً لمختلف المكوّنات الاجتماعيّة والتيّارات الفكريّة خلال حقب تاريخيّة ماضية، حيث أصبح اصطلاحاً، ومدرسةً، وعَلماً في تقصّي علوم اللّغة العربيّة ودراستها.
فلسطين والقضايا العربيّة
لطالما كان د. بيدرو مارتينث مونتابيث مناصراً قويّاً للقضيّة الفلسطينيّة ومأساة الفلسطينيّين؛ "فالفلسطينيّون أصحاب حقّ واضح وضوح الشمس، كما قال، وهُم مظلومون جدّاً، وبقاؤهم تحت الاحتلال الصهيوني الهمجي إلى حدِّ الآن، هو وصمة عار على جبين البشريّة. لقد استغلَّ المشروعُ الصهيوني الدّينَ لأبعادٍ سياسيّة، وكان استغلالاً منحطّاً".
هذا الموقف النبيل والجريء كان مُدعاةَ غضبٍ وحملاتِ تشهيرٍ متواصلة ضدّه في الإعلام الغربي من قِبَلِ مُناصري إسرائيل في إسبانيا وعموم أوروبا، لكنّه لم يفتّ من عضد مُستعربنا الكبير، الذي زاد من التوكيد عليه في العديد من مؤلّفاته ومقالاته وتصريحاته للإعلام المكتوب والمُتلفَز.
ولأجل ذلك شَغَلَ المفكّر في ما بعد، منصب رئيس "جمعيّة أصدقاء الشعب الفلسطيني" في إسبانيا، كما ألَّف العديدَ من الكتب المتّصلة بفلسطين من بينها: "شعراء المقاومة الفلسطينيّة" (1974)، و"القصيدة هي فلسطين".. و"فلسطين في الشعر العربي الرّاهن" (1980). كما ترأَّس جمعيّة الصداقة الإسبانيّة – العربيّة، والجمعيّة الإسبانيّة للدراسات العربيّة.
على مستوىً آخر، أَعلن جهاراً موقفه المناوئ للغزو الأميركي للعراق، والذي رآه خطوةً عمليّة لسياسة "الفوضى البنّاءة" في العالَم العربي، وتقسيم دوله إلى كياناتٍ طائفيّة ومذهبيّة وقبليّة وعشائريّة متقاتلة ومتناحرة باستمرار، ما يُسهّل السيطرة عليها ويَمنع بالتالي قيامَ أيّ وحدة مستقبليّة بين العرب، الأمر الذي تستفيد منه إسرائيل، وتسيطر بدورها استراتيجيّاً على المنطقة العربيّة وتتحكّم بأمنها واقتصادها وثرواتها إلى ما لانهاية.
ودعا مونتابيث إلى مُواجَهة مثل هذه السياسة المدمّرة للدول العربيّة بكياناتها الحاليّة.. "كيانات سايكس بيكو"، قبل فوات الأوان.
كما دعا إلى مُواجَهة الحملات الإعلاميّة الغربيّة الظالمة للعرب والإنسان العربي، الذي يختزلونه بالإرهاب والتوحُّش والتخلُّف وتبديد الثروات بلا طائل.
وفي غمرة معركته المتواصلة ضدّ الإعلام الغربي، طَرَحَ مُستعربنا الكبير تساؤلَه النّافذ والذكي قائلاً: "كيف يُكافِح العرب هذا النفوذ الإعلامي المنحرف والمشوّه...؟".. هنا رأى أنّه "لا يوجد حلّ ناجع سوى ترجمة الأدب العربي إلى اللّغات الأجنبيّة؛ ذلك أنّ معظم الصور العالقة في الذهن الغربيّ شكليّة، ولا تمثّل حقيقة الحياة اليوميّة للعرب، ولا الروح النّابضة في أعماق الشعوب العربيّة". وأردف: "لهذا قلتُ في نفسي إنّه من واجبي أن أقوم بتعريف العالَم العربي للقرّاء الغربيّين، فتركتُ الدراسات التاريخيّة والعصور الوسطى، ودخلتُ الحاضر.. أي ترجمة الأدب العربي المعاصر".
مع مؤسّسة الفكر العربيّ
كان من الطبيعي لهذه القامة الفكريّة الرائدة أن تُلقي مرساتها في إحدى لحظات الذروة، في ميناء "مؤسّسة الفكر العربي"، الحاملة منذ بدايات نشأتها همّ الفكر والثقافة والتنوير، عربيّاً وحتّى عالَميّاً، وخصوصاً أنّ النّتاج الفكريّ للعلّامة "مونتابيث" كان على الدوام مَوضعَ رصدٍ ومُتابَعة من جانب المَعنيّين في المؤسّسة، الأمر الذي أدّى إلى بناء علاقة تعارف وثيقة معه، أثمرت عن اتّفاقاتٍ ثقافيّة قدَّم خلالها للمؤسّسة ثلاثة أعمال مهمّة له باللّغة العربيّة.
- الثمرة الأولى كانت كتاباً مُشترَكاً له مع زميلته البروفسورة "كارمن رويث برافو" في العام 2015 تحت عنوان "أوروبا الإسلاميّة.. سحر حضارة ألفيّة". جاء الكتاب مُعرَّباً على يد د. ناديا ظافر شعبان بـ 254 صفحة من القطع الوسط، ورَسَمَ لوحةً بانوراميّة للتراث الإسلامي الثري الذي ما زال ماثلاً في بلدان أوروبا التي كانت تُعرف بالأندلس، متضمّناً الفنون، من رسمٍ وعمارةٍ ونحتٍ وموسيقىً وغناء. كذلك أتى على الأبرز ممّا جادت به المؤلَّفات العربيّة في مختلف العلوم التي كانت تُدرَّس بالعربيّة في الجامعات الإسلاميّة الأندلسيّة، عندما كانت تلك الجامعات قبلة المتنوّرين والباحثين عن العِلم والمعرفة في أوروبا. كذلك أظهر بالأمثلة الحيّة والتحليل العلمي كيفيّة تزاوُج الفنون العربيّة الإسلاميّة بالفنون الأوروبيّة المسيحيّة، ما أدّى إلى ظهورِ وشيجةٍ إبداعيّة مُشتركة بين الثقافتَيْن، حرص الكاتبان على بلْورتها وإخراجها إلى الضوء من جديد.
- الكتاب الثاني حمل عنوان "الأندلس.. الدلالة والرمزيّة"، جاء بـ 382 صفحة، مُعرَّباً بجهد رانيا هاشم سعد؛ وصدر بمناسبة المئويّة الثالثة عشرة لدخول الإسلام شبه الجزيرة الإيبيريّة ونشْره اللّغة والثقافة العربيّتَيْن فيها، وتزامُناً مع ذكرى طرد الموريسكيّين من الأندلس، وما استتبعه ذلك من انتكاسة وانحطاط للكيان الأندلسي.
تضمَّن الكتاب ما استجمعه المُستعرب الإسباني "مونتابيث" من أفكارٍ وتأمّلاتٍ ذاتيّة على امتداد عقود من البحث والجهد والمتابعة، مع اقتراحات عمليّة توصي بضرورة إجراء مُراجَعة واعية لهذه الحقبة من التاريخ، ودراستها دراسةً وافية وعميقة.
واشتمل الكتاب كذلك على مُقابَلة مع المؤلِّف عبَّر خلالها عن نظرته إلى تلك الحقبة التاريخيّة التي لاحظ أنّ بصماتها لا تزال راسخة بوضوح إلى اليوم في إسبانيا المعاصرة.
- أمّا الكتاب الثالث والذي أصدرته المؤسّسة العام الماضي لشيخ المُستعربين الإسبان، فجاء تحت عنوان "على حدود المقدِّمات.. رؤية ما هو عربيّ بعيونٍ أخرى"، ونقله إلى العربيّة سعيد العلمي.
لم يلتزم صاحب الكتاب الواقع في 317 صفحة بالأنماط المعتادة في تأليف الكُتب، فجاءت مادّته من حِصادٍ شخصيّ للمؤلِّف، إضافة إلى مُقدّمات سبق له أن كَتبها لكُتبٍ من إنتاج آخرين عاكسةً أفكاراً وآراءً وأحكاماً ومُقترحاتٍ ظهرت تِباعاً على امتداد فترة غير قصيرة، امتدَّت ما بين العامَيْن 1972 و2015.
*كاتب وإعلامي من لبنان - مؤسسة الفكر العربي