تدمير عاصمة العرب الثقافيّة والصحيّة والتجاريّة

"كان يوماً طبيعيّاً (قالت المُمرّضة باميلا) وقد شارفتُ على انتهاء دوامي في المستشفى (مستشفى القدّيس جاورجيوس - المعروف بــ مستشفى الروم)، أقف جانباً أُهاتف والدتي.. فجأةً شعرتُ بأنّ الأرض تميد تحت قدمَيْ، وأنّ قوّة عتيّة وخفيّة ترمي بي جانباً كالريشة في مهبّ الإعصار... ثمّ ضجَّ دويٌّ مُرعب من فوق وراح المكان كلّه يتحطّم ويتساقط على رؤوسنا".
"باميلا" سجلّت في ذاكرتها لحظات لن تنساها، كما لن ينساها أيُّ مُواطِنٍ ومُقيمٍ في المدينة التي ارتجفت بعنف، وما برحت ترتجف كلّما عادت بها الذكرى إلى تلك اللّحظة القياميّة، من محيط المرفأ وانتشاراً إلى الكرنتينا والأشرفيّة وإلى مَركز المدينة صعوداً نحو زقاق البلاط والبسطة وبرج أبو حيدر وصولاً إلى السوديكو والناصرة ورأس النبع...
كانت نهايةً "أبوكاليبسيّة" لنهارٍ بيروتيّ "عادي". تزعزَعت المدينة من مُختلف أركانها، لكنّها لم تسقط. فلديها تجارب تاريخيّة مع الحروب والكوارث، ودائماً كانت تخرج من زلازلها أقوى، كأنّما هي عصيّة على الموت. هي التي عاشت بعد زلزال العام 551 قبل الميلاد الذي دمّرها عن بكرة أبيها مع مدرسة الحقوق الرومانيّة الأشهر في التاريخ، وستعيش بعد هذا التفجير الأشدّ هَولاً وفظاعة، وتَخلد رفيقةً للزمن، وشاهدةً عليه، كما كانت دائماً في الماضي، وكما هي في الحاضر، وكما ستكون في الآتي من الأزمنة.
لا. ليس هذا، لا شِعراً ولا مديحاً، بل هو نَوع من "عرضحال" ترفعه "ستّ الدنيا" العصِيّة على الزوال. أوّل ما خَسِرَتْهُ كان زجاجها... وعلى كلّ حال، فبيروت لم تكُن يوماً مسرورة بالوجه الزجاجي الذي فصّلوه لها، مُفضِّلةً عليه وجهها الحقيقي الذي دأب على حياكته وتزيينه باعةُ السُّوس والجلّاب وعربات فستق العبيد الجوّالة، والنبض الذي لا يكنّ ولا ينام في مدينة تصل ليلها بالنهار. لكنّ البلّور إغواء، وقدره أن يتحطّم طالما سنحت له الفرصة. أمّا الانفجار الذي يشبه نظيره النووي، فلم يكُن أكثر من ذريعة لإيقاظ العاصمة من قيلولة الكوابيس كما قال العرّافون.
مدحلة ساحقة
لم تكن جلجلة باميلا يتيمة، فثمّة مثلها الكثير، وما هو أشد قساوة وكارثيّة. ليس في المستشفيات فقط والقطاعات الطبيّة والدوائيّة وحدها، بل في كلّ القطاعات الأخرى ومُختلف زوايا المدينة. نصف مستشفيات بيروت (مستشفى العرب) رماها التفجير خارج الخدمة، وغَرَس في لحمها الحيّ حكايا معجونة بالرعب والمآسي ونثرات الزجاج والحصى. كذلك أكثر من نصف المؤسّسات التجاريّة والسياحيّة والأماكن المدينيّة من ثقافيّة وتربويّة وخدماتيّة وسكنيّة... ألقى بها الانفجار الكارثي في الهباء، كأنّه مدحلة ساحقة.
بعد التهويم فوق الدمار العظيم، كان لا بدّ من العودة إلى الواقع المجرّد حيث تتراكض الأرقام وتتزاحم الحِسابات. مجموعة البنك الدولي حدَّدت خسائر انفجار المرفأ بما يقارب 4.6 مليار دولار، في حين جرى تقدير خسائر الدمار المادّي المتوحّش خارج حَرَم المرفأ بنحو 15 مليار دولار وفقاً لبيانات رسميّة غير نهائيّة... وهذا يزيد من أوجاع بلد يعيش أزمة اقتصاديّة قاسية، واستقطاباً سياسيّاً حادّاً، في مَشهد تتداخل الأمور والأحداث فيه بشكلٍ هستيري. إلّا أنّ الخسارة الأساس والأعمق والأشدّ إيلاماً تمثّلت بالأكثر من 190 قتيلاً، علاوة على المفقودين الذين لم يُعثر على آثارهم بعد، فضلاً عمّا يزيد على الستّة آلاف وخمسمائة جريح، والثلاثماية ألف مواطن الذين تناثروا مع دمار الأحياء يهيمون في الشوارع بلا مأوى، وذلك بعد تضرُّر نحو 50 ألف وحدة سكنيّة.
الثقافة والتراث
تفجير مرفأ المدينة لم يفترس البشر في مدينة الشمس فقط، ولا اكتفى بالحَجَر والإنشاءات على اختلافها، بل هو لاحقَ حتّى تراث المدينة الذي جعل منها دّرّة الشرق، وفتكَ بالكثير من كنوز هذا التراث وجواهره. فبيروت تمتلك في رصيدها تاريخاً عريقاً تعاقبت في ترسيمه حضارات كثيرة وعصور شتّى، أسَّست لوجود مئات المنشآت والمباني التاريخيّة، من حصون وأسوار ومَعابد، إلى الحمّامات والمَدارِج والمَلاعِب والمَساكِن، فضلاً عن عشرات المَتاحف والمَعارض والقصور وقاعات الفنون. وجميع هذا الإرث تعرَّض لأضرارٍ مُتفاوِتة الشدّة، ولاسيّما في السقوف والجدران والنوافذ والزخرفات، مع تهشُّم في المعروضات وفي الواجهات، وتكسُّر في زجاجها البلّوري الملوَّن العتيق الذي يُزيِّن سقوفها والشبابيك والجدران.
منظّمة الأُمم المتّحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) تحدّثت عن التدمير الذي نزل بالمدينة بألَمٍ أنّت به كلمات بَيانها. المديريّة العامّة للآثار في وزارة الثقافة اللّبنانيّة أكّدت تضرُّر ما لا يقلّ عن 8 آلاف مَبنى، معظمها في أحياء الجمّيزة ومار مخايل القديمة، وبعضها مُصنَّف على قائمة التراث العالَمي، إلى مَتاحف عديدة كالمتحف الوطني ومتحف سرسق ومتحف الجامعة الأميركيّة، فضلاً عن العديد من المَواقع الثقافيّة والدينيّة من كنائس ومَساجد ومَدافن، ناهيك بالمَكتبة الشرقيّة التّابعة لجامعة القدّيس يوسف، هذا إضافة إلى البنايات الحديثة الفخمة. والحقيقة أنّ المدينة تعرّضت لعمليّة اغتيال لطابعها العمراني الخاصّ والمميَّز. فهي اشتهرت على الدوام باحتضانها مزيجاً باهراً من الطُرز المِعماريّة، من العثمانيّة إلى العربيّة وصولاً إلى العمارة الأوروبيّة الحديثة. وعَرف تاريخها العريق تراكماً عمرانيّاً قديماً من المباني الرومانيّة والبيزنطيّة التي تحتضن في ترابها آثار الأقدام والأيدي الفينيقيّة والمصنوعات. وكلّ ذلك تعرّض للسحْق والتبعثُر في فلوات المَشهد الهيروشيمي الفظيع.
أبرز الضحايا التراثيّة على هذا المستوى كان "قصر سرسق"...هذا المتحف التاريخي الفريد. فبعدما قضى 160 عاماً صامداً في وجه الحربَين العالَميّتَين، ثمّ الحرب الأهليّة التي نهشت المدينة، تعرَّض القصر - المتحف لتدميرٍ كبير جرّاء انفجار المرفأ، مع إصابة صاحبته "الليدي إيفون سرسق" بجراحٍ ثخينة زاد من روعها ما شهدته من دمار لمُقتنياتها الأثريّة الفريدة، فرحلت مع بعض فرائد قصرها التراثيّة الملوّنة، وكانت من أهمّ المَعالم التاريخيّة والثقافيّة في المدينة وأجملها، وقد تألَّق بها القصر على مدى ثلاثة أجيال، وجرى إدراجه كمَوقع للتراث الثقافي العالَمي.
نكبة المَدارس والقطاع الصحّي
ثمّة 90 ألف طالب تعطَّلت دراستهم بفعل الانفجار، وعشرات المَدارس لحقتها أضرار جسيمة. أمّا على المستويات الصحيّة والاستشفائيّة، فشكَّل انفجار المرفأ ضربة قاضية في عمق المَرافق والمؤسّسات الصحيّة.
كان القطاع الصحّي منذ مطلع العام يراوح على حافّة الانهيار بفعل جائحة كورونا التي استهلكت معظم إمكانات المؤسّسات الصحيّة وجهودها، والأزمات الاقتصاديّة الضاغطة، في ظلّ شحّ الأدوية والمُستحضرات والأدوات والإمدادات والمَوارد اللّازمة كموادّ التخدير وما إليها، هذا من دون تجاهُل الانقطاع شبه المُتواصل للتيّار الكهربائي مع النقص الحادّ في وقود المولّدات.
وبفعل الانفجار صار أكثر من نصف مستشفيات بيروت خارج الخدمة. وكشف مدير الطوارئ للمكتب الإقليمي لمنظّمة الصحّة العالميّة في الشرق الأوسط، ريتشارد برينان، أنّه "بعد تقييم 55 عيادة ومركزاً صحيّاً في بيروت، تبيّن أنّ هناك أكثر من 50% بقليل أصبحت خارج الخدمة". وقال إنّ ثلاثة من المستشفيات الكبرى على الأقلّ في بيروت تعطّلت، وثلاثة مُستشفيات أخرى باتت تعمل بطاقة أقلّ من المعتاد. هذا يعني أنّنا فقدنا حوالى 500 سرير.
وكان للمستشفيات الميدانيّة التي جرى إنشاؤها على عجل بمُبادرات من دول وجمعيّات ومؤسّسات خارجيّة صديقة، الدَّور المطلوب والضروري لتلبية الكثير من الحالات الصحيّة، مع الإشارة إلى أنّها جميعها ليست مؤهَّلة لاستقبال مرضى الكورونا، الداء الذي توسَّع بيكار انتشاره بسبب الفوضى العامّة التي أحدثها التفجير.
والحقيقة أنّ أعظم الخسائر هو ما تعرّض له مستشفى القدّيس جاورجيوس للروم الأرثوذكس، أقدم مستشفى في بيروت. وقد قدَّم نحو 17 ضحيّة قرابين بين مُمرّضين ومرضى جرّاء الانفجار (أربع مُمرّضات من طاقم المستشفى و11 مريضاً وزائرين اثنَين)، في حين أنّ بعض أعضاء الفريق الطبّي والتمريضي للمستشفى كانوا يعملون على إنقاذ ما أمكن في ضوء هواتف الجيب.
أيّ اقتصاد؟
يعتقد كثيرون أنّ الأزمة الحقيقيّة جرّاء تفجير المرفأ ألمّت باقتصاد البلد، حيث "تكسّرت النصالُ على النصالِ". فعلى امتداد أشهر طويلة سبقت الدويّ المُرعب الذي التهم المدينة، كان البلد يتخبّط في أسوأ أزمة اقتصاديّة وماليّة منذ قيام الدولة الحاليّة، انعكست مشكلات جمّة في قطاعه المصرفي الذي كان من الأنشط والأجزل عطاءً على مستوى المنطقة، سبقه شَلَلُ المَرافق والأنشطة السياحيّة التي خرجت أو كادت من الميدان. ثمّ كانت ثالثة الأثافي: تدمير المرفأ ما دفع بالأزمة إلى حدودها القصوى، بخاصّة أنّ هذه المُنشأة تمثّل بالنسبة إلى الاقتصاد اللّبناني حَجَر الزاوية والشريان الحيوي الذي لا غنى عنه، حيث إنّ 70 في المائة من تجارة لبنان تمرّ عبره. وهو مرفأ عالَمي ناشط يتّصل بـ 300 مرفأ حول العالَم، ما يجعله أحد أهمّ نقاط مرور البضائع وإعادة توجيهها في شرق حوض البحر المتوسّط، ويدرّ سنويّاً على الخزينة اللّبنانيّة العملة "الصعبة" التي يحتاجها لبنان اليوم أكثر من أيّ وقت مضى.
صحيح أنّ المدينة الجريحة لم يقتلها الانفجار، إلّا أنّه غرس آهً عميقةً في وجدانها وشخصيّتها ودَورها. فالمرفأ وجهها الشاخص تاريخياً نحو الغرب، وفي هذا شيء أساس من مزاج لبنان (مطلّ المشرق على الغرب)، وهو أهمّ مرافئ المنطقة ومركز التقاء القارّات الثلاث أوروبا وآسيا وأفريقيا، والمَنفذ البحري الرئيس لعدد من الدول العربيّة، ومَعبر الترانزيت البحري منذ أقدم العصور. وبهذا يكاد المرفأ يكون المحور الأهمّ للمدينة وللبلد كلّه. من هنا خطورة استهدافه، ومن هنا أيضاً هَبّة اللّبنانيّين من مُختلف المَشارب والمَضارب يتحدّون الموت والركام لإزالة آثار الدمار والانطلاق ببلدهم من جديد.
ليس مُفاجئاً القول إنّ تفجير المرفأ أعاد لبيروت أهلها وأعاد لأهلها بيروتهم... بعد طول غُربة. واستجلاء هذه الغرابة وفهْمها يتطلّب أساساً فهْم طبائع الشعوب الساميّة والسلوكيّات الاجتماعيّة التي تحكم مُجتمعاتها. فمن عادات هذه الجماعات العريقة أن تلُمَّ شملَها المَصائبُ وتُوحِّدَها الكوارثُ والأزماتُ الكبرى، حتّى ليأتلف متخاصموها تحت أقواس الحزن والحِداد. هكذا كانوا عبر التاريخ، وهذا بالضبط ما يحدث اليوم. فالميناء الذي وَرد اسمه في نصوص عتيقة مُتبادَلة بين الفراعنة والفينيقيّين تعود إلى القرن الـ 15 قبل الميلاد، كان هو الخصوبة التي أنبتت المدينة في الأساس، في تعاكُس واضح لحركة المُجتمع البشري التقليديّة، حيث المُدن هي التي تُقيم موانئها، وليس العكس. ومن هنا هذه العلاقة "الرَحَميّة" بين المرفأ وبيروت... المدينة التي، وعلى الرّغم من كلّ شيء، تنتصب من جديد، لتُثبت، كما دائماً، أنّها أكبر من كلّ الجراح والأحزان.
محمود برّي / كاتب من لبنان - مؤسسة الفكر العربي