العدالة الرقميّة الرشيدة هي الهدف المنشود
د. نديم منصوري*
شهدَ العالَمُ ثورةً تكنولوجيّة أثَّرت في مجمل القطاعات الحياتيّة للمُواطنين، وأدّى الاستخدامُ المتزايد للتكنولوجيا الرقميّة إلى تفاوتٍ كبير في النّفاذ إلى خدمة الإنترنت، والوصول إلى المعلومات، والأمان الرقميّ، والمُشاركة الرقميّة المُتوازنة، والمشاركة السياسيّة الفعّالة، وفي تحقيق فُرصٍ مُتكافئة للتعليم تؤدّي إلى الابتكار بصورةٍ مُتساوية بين الجميع.
إنّ مجمل هذه التفاوتات أو الفجوات أدَّت حكماً إلى تعثُّر "الحقوق الرقميّة عبر الإنترنت" التي باتت حقّاً أساسيّاً من حقوق الإنسان وفق مقرّرات مجلس حقوق الإنسان التّابع للأُمم المتّحدة.
كما تؤدّي هذه التفاوتات إلى تعثُّر بناء مُجتمع المعرفة الذي كُرِّست مبادؤه في القمّة العالَميّة لمُجتمع المعلومات (جنيف 2003، تونس 2005). وتحدِّد هذه المبادئ الأهدافَ العالميّة التي يعمل جميع أصحاب المصلحة في العالَم على تحقيقها. وقد وَضعتِ القمّةُ خطّةَ عملٍ تُترجم رؤيتها ضمن خطواتٍ إجرائيّة تعمل على تنفيذها للوصول إلى الغاية العليا، وهي بلوغ المُجتمع الرقمي العادل والمُشترَك للجميع.
كما أدَّت هذه التفاوتات إلى عرْقلة تنفيذ خطّة التنمية المُستدامة لعام 2030 التي وافقت عليها حكومات العالَم في أيلول/ سبتمبر 2015، التي تدعو إلى العمل على الاستفادة من انتشار تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات والترابُط العالَمي لسدّ الفجوة الرقميّة واستحداث مُجتمعات المعرفة.
وفي النَّظر إلى واقع العديد من الدول العربيّة، نجده واقِعاً متعثّراً على مستوى تحقيق معظم الأهداف العالَميّة، الأمر الذي يطرح عرقلة تحقيق "العدالة الرقميّة الرشيدة."
في مفهوم العدالة الرقميّة الرشيدة Good Digital Justice
يُقصد بالعدالة الرقميّة الرشيدة تلك العدالة التي تصون الحقوق الرقميّة للمواطنين المؤدّية إلى بناء مُجتمع المعرفة؛ إذ إنّ عالَميّة الإنترنت تفترض أن يتمتّع أيُّ مواطن رقمي/ عالَمي بحقِّ الإنترنت من خلال أحقّيّة النّفاذ إليه بشكلٍ عادل ومفتوح، والانتفاع بالمعلومات والمعارف والوصول إليها، والشعور بالأمان الرقمي بشكلٍ لا يُعرّضه إلى خرْقِ خصوصيّته أو إلى الاعتداء على بياناته الشخصيّة. كما يتضمَّن مفهومُ العدالة الرقميّة تحقيقَ الديمقراطيّة الرقميّة التي تصون حقّ التعبير عبر الإنترنت والتفكير الأخلاقي وحريّة الصحافة وحقّ التصويت الرقمي خلال المشاركة السياسيّة، إضافة إلى الارتقاء بالتعليم ليكون المحرِّك الأساسي لإنتاج المعرفة والحثّ على الإبداع والابتكار. وبالتالي لا تتحقّق العدالة الرقميّة إلّا بتلبية متطلّباتها، وهي شرط أساسي لأنّها تؤمِّن للمواطنين حقوقهم التي تصونهم والتي تجعل من المُجتمع الرقمي مُجتمعاً متكافئاً، شفّافاً، آمناً، مُتفاعلاً، مُشاركاً، مُبدعاً.
الفَرق ما بين "العدالة الرقميّة" و"العدليّة الرقميّة"
ثمّة مَن يعّرِف العدالة الرقميّة بأنّها توظيف استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات لتسهيل التواصُل بين مُختلف العاملين فى مجالات القانون والقضاء مثل القضاة، المُحامين، موظّفي المحاكم والنيابات، الإداريّين وكلّ العاملين في الحقل القانوني فنيّاً وإجرائيّاً وقضائيّاً. إلّا أنّ هذا التعريف ينطوي على التباسٍ كبير، فهو لا يُشير إطلاقاً إلى المتطلّبات الأساسيّة (نعرضها تباعاً) التي تُفسّر معنى العدالة الرقميّة بعُمق. وعليه، لا بدّ من التمييز ما بين مفهومَيْ "العدالة الرقميّة" وبين ما نسمّيه بـ "العدليّة الرقميّة". فالأوّل يسعى إلى تحصيل حقّ الإنسان عبر الإنترنت وجميع الحقوق ذات الصلة، فيما يعمل الثاني على أتْمَتَة العمل القانوني، لكون العمل اليدوي لم يعُد كافياً لمُعالَجة الكمّ الهائل من المعلومات والأحكام. وبالتالي فإنّ الفرقَ واضح ما بين المفهومَيْن، ولكلٍّ منهما متطلّباته الأساسيّة.
لا بدّ من الإشارة إلى أهميّة مفهوم "العدليّة الرقميّة" الذي يشكِّل جزءاً لا يتجزّأ من "العدالة الرقميّة الرشيدة"؛ حيث إنّ تعزيز الكفاءة في النظام القضائي، والحدّ من المصاريف، وتبسيط الإجراءات القانونيّة والأعمال الإداريّة، والزيادة في إنتاجيّة المحاكم وجودة العمل، والحدّ من الفساد والرشوة مقابل تعزيز الشفافيّة... هي كلّها تفاصيل جوهريّة يحتاجها المواطن وتشكِّل حقّاً من حقوقه.
وكي تتمكّن قصور العدل من تشييد "العدليّة الرقميّة"، لا بدّ من توفُّر:
البنية التحتيّة من أجهزة كمبيوتر وشبكة إنترنت وخوادم عملاقة ومؤمّنة لتخزين المعلومات والمُعطيات القضائيّة وحفْظها، إضافة إلى ضرورة توفُّر برامج معلوماتيّة متطوّرة لها القدرة على مُعالَجة البيانات ونقْلها وتبادلها بشكلٍ تفاعليّ بين مُختلف الفاعلين.
إطارٌ تشريعيّ يعطي الحقّ للمحاكم الرقميّة أن تعمل من بُعد واعتبار أحكامها مُبرمة. إضافة إلى التشريعات التي تُواجه الأفعال الجرميّة مثل: عرْقلة سَير نظام المعالجة الآليّة للمُعطيات القانونيّة أو الإخلال بها أو حذْفها أو تزويرها أو إتلافها، ومُختلف أنواع الجرائم الرقميّة، بهدف حماية المُتعاملين ضمن العدليّة الرقميّة.
بناء قدرات الجهاز الإداري والقضائي وجميع العاملين في العدليّة، ليكون مواكباً لمتطلّبات التحوّل الرقمي، وحائزاً على كفاءةٍ عالية في استخدام التكنولوجيا الرقميّة.
ضمان السريّة والخصوصيّة من خلال توفير وسائل تقنيّة للتشفير التي تعمل على حماية سريّة المعلومات والمعطيات، إضافة إلى أنظمة تأمين المعلومات بغية حماية بيانات المُتقاضين وحقوقهم وأسرارهم، وحرصاً على منع أيِّ اختراقٍ للملفّات القضائيّة والسجلّات والأحكام، وعدم اختراق جلسات المُحاكَمة وتأمين أفضل ظروف الأمن السيبراني.
تأمين التوقيع الإلكتروني المشفَّر في المعاملات تسهيلاً للعمل الإداري، وكيفيّة المصادقة الرقميّة بين جميع الأطراف.
إقرار الهويّة الرقميّة الموحّدة لجميع المواطنين والمُقيمين، التي تسمح بوصول المُستخدِمين إلى خدمات العدليّة الرقميّة وغيرها من الخدمات.
متطلّبات العدالة الرقميّة الرشيدة
تتحدَّد متطلّبات العدالة الرقميّة الرشيدة من خلال اكتساب المواطن حقوقه الأساسيّة التي نحدِّدها كما يلي: حقّ النّفاذ إلى الإنترنت، حقّ الوصول الى المعلومات، حقّ الخصوصيّة والأمن السيبراني، حقّ التعبير عبر الإنترنت، حقّ التصويت الرقمي، حقّ التعلُّم والتربية على الابتكار.
أ- حقّ النّفاذ إلى الإنترنت Right to access the Internet
يُعَدّ النّفاذ إلى الإنترنت عاملاً أساسيّاً في استمرار التنمية المُستدامّة. وعلى الرّغم من ازدياد أرقام المُستخدِمين في العالَم العربي، لا يزال النّفاذ إلى الإنترنت يُعاني من حالاتِ تعثُّرٍ وضعف، بخاصّة في ما بين المناطق الحضريّة والمناطق الريفيّة من جهة، وعلى مستوى التكلفة الباهظة نسبياً ونوعيّة الخدمة من جهة أخرى.
وبالتالي يُصبح صَون هذا الحقّ أمراً استراتيجيّاً لكونه يُسهِم في زيادة النّاتج الإجمالي المحلي، ويرفع معدّلات العمالة، ويزيد من فُرص التعلُّم واكتساب المهارات، فضلاً عن أنّه يُخفِّض التكلفة الصحيّة ويُسهم في سرعة الإغاثة في أوقات الكورارث. كما يعمل على تحسين الكفاءة الاقتصاديّة، ويُساعد في الوصول إلى المعلومات، ويسهِّل زيادة التعاوُن بين الحكومات ورجال الأعمال والمُواطنين، ويُتيح خلْقَ منصّاتٍ مُبتكرة للاختراعات في الاقتصاد الرقمي الناشئ، وتفعيل المُشاركة السياسيّة وحقّ التعبير عن الرأي. لكنْ ما هي الشروط التي تضمن النّفاذ العادل إلى الإنترنت؟ نذكر أبرزها:
القدرة على تحمُّل التكاليف: ينبغي خفْض سلّة أسعار تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات بحسب مستوى التنمية كنسبة مئويّة من الدخل القومي الإجمالي للفرد شهريّاً.
جودة الخدمات: أي شمولها أراضي الوطن كافّة بشكلٍ عادل، وتقديم نوعيّة وجودة متساوية للجميع.
البيئة القانونيّة والتنظيميّة للإنترنت: وضْع الأُطر القانونيّة والتنظيميّة للإنترنت التي تُسهم في تفعيل التجارة الرقميّة مثلاً، وتشجيع الشركات والأفراد على استخدام الإنترنت بشكلٍ كامل إذا ما توافرَ عامل الثقة، الأمر الذي يُساعد في بلوغ التحوُّل الرقمي بشكلٍ فعّال.
المحتوى الرقمي والتطبيقات: من الضروري توفُّر محتوىً رقميّ وتطبيقاتٍ تؤمِّن تدفُّقاً حرّاً وموثوقاً للمعلومات، بلغةٍ سليمة وآمنة خالية من التضليل لجميع المُستخدِمين، ولاسيّما الفئات المهمَّشة والفقراء، بحيث يراعي المحتوى احتياجاتهم، ويكون مُتاحاً من خلال أجهزةٍ وتطبيقاتٍ بأسعار مناسبة وسهلة في عمليّة الاستخدام.
التمكين عبر المهارات الرقميّة: لتوفير العدالة ما بين المُستخدِمين، لا بدّ من توفير فُرصٍ متكافئة في اكتساب المهارات اللّازمة للاستفادة من خدمات الإنترنت كاملة، كما يجب محو الأميّة الأساسيّة لتقنيّات المعلومات والاتّصالات، وتوفير مهارات استخدام الأجهزة والتطبيقات.
ب- حقّ الوصول إلى المعلومات Right to access information
يُعتبر قانون حقّ الوصول إلى المعلومات خطوةً إيجابيّة في عمليّة مُكافحة الفساد وتعزيز الشفافيّة في الإدارات العامّة، وفي إتاحة الفُرصة للمواطنين لمُراقبة أداء القطاع العامّ والاطّلاع على نفقاته، ما قد يحدّ من عمليّات الهدر العامّ، إضافة إلى تعزيز المُشاركة وتبادُل المعلومات للباحثين والطلّاب، وتعزيز الثقة مع المواطنين والقطاعات الاقتصاديّة الداخليّة والخارجيّة.
ولكنّ العبرة لا تكمن في إقرار القوانين على أهميّته، بل في سُبل تطبيقها وتنفيذها بشكلٍ عَملي ومَرِن وشفّاف. وبالتالي لا بدّ من مُراقبة مرتبة الدول العربيّة في مؤشِّر مدركات الفساد على سبيل المثال لا الحصر، للتأكُّد من مدى فعاليّة هذه القوانين.
ج- حقّ الخصوصيّة والأمن السيبرانيّ Right to Privacy and Cyber Security
يشكِّل المؤشِّر العالمي للأمن السيبراني Global Cybersecurity Index مرجعاً موثوقاً لقياس الأمان الرقمي في دول العالَم. يتمّ تقييم الدول على أساس 82 سؤالاً، ضمن 20 مؤشِّراً، وخمسة محاور أساسيّة هي: المحور القانوني، المحور التقني، المحور التنظيمي، محور بناء القدرات، محور التعاون. يتمّ رصْد 182 دولة حول العالَم، بهدف رفْع مستوى الأمن السيبراني وتعزيز تبادُل الخبرات ومُشاركة التجارب بين دول العالَم.
وبالتالي لا تتحقَّق العدالة الرقميّة في ظلّ غياب السياسات وآليّات الحَوكمة والأُطر والمعايير والضوابط والإرشادات المُرتبطة بالأمن السيبراني، إضافة إلى استمرار ضعف الجهود في بناء القدرات والكفاءات لدى القطاع العامّ وتطوير مؤشّرات قياس الأداء ذات الصلة، والمُراقبة المستمرّة لوضعيّة الأمن السيبراني في البلد.
د- حقّ التعبير عبر الإنترنت Right to free expression on the Net
يشكِّل حقّ التعبير عبر الإنترنت وحفْظ الحقوق الرقميّة للمواطنين، الجانبَ الأساسي لتحقيق الديمقراطيّة الرقميّة. ولتحقيق ذلك، لا بدّ من رفْع الوعي بأهميّة مُمارسة حقّ الإنترنت كحقٍّ أساسي من حقوق الإنسان، وإلى تقييم السياسات العامّة المرتبطة بهذه الحقوق والعمل على إيجاد الحلول لها. ولتصويب الجهود في هذا المضمار، لا بدّ من التركيز على أربع قضايا أساسيّة هي: حقّ النفاذ إلى إنترنت حرّ، حريّة التعبير والمحتوى الرقمي، الخصوصيّة، الحَوكمة الرقميّة.
ه- حقّ التصويت الرقميّ Digital Voting Right
تُعتبر الانتخابات النزيهة القاعدة الأساسيّة للمُمارسة الديمقراطيّة. فالانتخابات هي التي تُتيح للمواطنين مُمارسة حقّهم في اختيار أعضاء المؤسّسات التمثيليّة الذين يمثّلونهم. وبالتالي فهي مؤشِّر أساسي لقياس درجة الديمقراطيّة ولقياس مستوى الإصلاح السياسي في أيّ بلد. ماذا نحتاج للوصول إلى التصويت الرقمي؟ يُمكن إيجاز ذلك بما يلي:
المُواطنة الرقميّة: هي مجموع القواعد والضوابط والمعايير والأعراف والأفكار والمبادئ المتّبعة في الاستخدام الذكي للتكنولوجيا. يجب تفعيل هذا المفهوم في المؤسّسات التربويّة، لأنّه يُسهم في توجيه جميع المُستخدِمين وحمايتهم، وتشجيع السلوكات المرغوبة ومُحاربة السلوكات المنبوذة في التعاملات الرقميّة.
البطاقة الموحّدة الرقميّة: إطلاق البطاقة الموحّدة هو السبيل الأساسي في تسهيل العمليّة الانتخابيّة، وتسهيل جميع الخدمات الأخرى للمواطنين.
نظام انتخابي عصري: لا يُعقَل أن يبقى النظام السياسي متحجّراً من دون أن يرتقي إلى نظامٍ انتخابيٍّ عصري. يجب تطوير الآليّات الانتخابيّة التي تُتيح العدالة في التمثيل للجميع.
و- حقّ التعلُّم (التربية على الابتكار للجميع) Right to Education
وُضِعت جميع بلدان العالَم أمام تحدّياتٍ كبيرة يرتبط مآلها بمدى التحكُّم بالتكنولوجيا الرقميّة وضبط محتوياتها، والقدرة على الاستفادة منها ضمن أُطر الابتكار والتنمية المُستدامة والانتقال من مفهوم التنمية القائم على الموارد الماديّة والطبيعيّة إلى تنمية ذكيّة قائمة على المَوارد المعرفيّة.
إلّا أنّ بناء الموارد المعرفيّة يحتاج إلى بيئاتٍ تنظيميّة وإبداعيّة، وبنية معلوماتيّة وشبكيّة، ومهارات وقدرات من قِبَلِ المُستخدِمين، ورؤية حكوميّة رشيدة تَضع هذه الموارد في صلب اهتماماتها؛ الأمر الذي يتطلَّب جهوداً مُشترَكة ما بين السلطات الحكوميّة والمُجتمع المدني والخبراء والأفراد، لأنّ عمليّة التحوُّل الرقمي في التعليم هي عمليّة استراتيجيّة ومشترَكة ومُتكاملة.
ختاماً، إنّ تحقيق العدالة الرقميّة الرشيدة هو هدف استراتيجي لأيّ دولة، ومن دونه لا تتمكَّن من بلوغ مجتمع المعرفة أو التحوُّل الرقمي الفعّال أو تحقيق الحَوكمة الرقميّة.
وبالتالي لا بدّ من الضغط على الحكومات العربيّة المُتقاعِسة عن بلوغ هذه الحقوق، والتعاون مع سائر أصحاب المصلحة في ذلك، وصولاً إلى تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي المنشود.
*كاتب وأكاديمي من لبنان - مؤسسة الفكر العربي