دَور تجارة النفط في هَيْمَنة الدولار الأميركيّ
حافظ إدوخراز*
على خلاف العوامل الاقتصاديّة التي عكفت الأدبيّات الأكاديميّة الشائعة في مجال الاقتصاد الدوليّ على إبراز دَورها كعاملٍ يُفسِّر استمرار هَيْمَنة الدولار على منظومة النقد الدوليّ، فإنّ التجارةَ العالَميّة للنفط، وما تكتسيه هذه التجارة من أهميّة استراتيجيّة بالغة بالنسبة إلى دعْم موقع العملة الأميركيّة، حظيَت بدراسةٍ متواضعة من قِبَلِ جمهور الاقتصاديّين. وفي هذا الخصوص، ترى الدكتورة بسمة المومني، أستاذة العلوم السياسيّة والعلاقات الدوليّة في جامعة واترلو الكنديّة، أنّ هناك عاملاً غالباً ما يتمّ التقليل من أهميّته، وهو أنّ النفط يُباع ويُتداوَل بالدولار الأميركيّ في الأسواق الدوليّة، وأنّ الثقة المستمرّة للعالَم في الديون الحكوميّة الأميركيّة تستند إلى استخدام الدولار في تجارة النفط وإعادة تدوير عائداته في الأسواق الماليّة الأميركيّة.
لا يزال الجزءُ الأكبر من الصفقات الدوليّة المتعلّقة بالنفط يُسوّى بالدولار الأميركي. يُشَبِّه الاقتصادي الأميركي المعروف رونالد ماكينون تجارة النفط العالَميّة بحصن نوكس الجديد لزمن ما بعد بريتون وودز، والذي يقوم بضمان قيمة الدولار الأميركي. وللإشارة فحِصنُ نوكس (Fort Knox) هو القاعدة العسكريّة الواقعة في ولاية كنتاكي الأميركيّة، والتي تحوي داخل أسوارها المحصَّنة الخزينةَ الرئيسة للاحتياطي الأميركي من الذهب (US Gold Depositary). لقد حَلَّ إذن الذهبُ الأسود مَحلّ الذهب الأصفر كأهمّ أصلٍ يوفِّر غطاءً ومُقابلاً عينيّاً للدولارات المُتداوَلة التي يُصدرها الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، منذ دفْنِ النّظام النقدي النّاتج عن اتّفاقيّة بريتون وودز، وذلك عقب قرار الإدارة الأميركيّة في عهد الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون بوضْع حدٍّ لقابليّة تحويل الدولار إلى الذهب في الخامس عشر من شهر آب/ أغسطس 1971. وبعبارة أخرى، يقول د. روبرت لوني، أستاذ الاقتصاد الدولي في المدرسة البحريّة في مونتيري، في مقال عائد إلى العام 2004، نشرته مجلّة "سياسة الشرق الأوسط" (Petroeuros: A Threat to U.S. Interests in the Gulf)، إنّ النقود الأميركيّة مدعومة في الواقع باحتياطيّات النفط لجميع الدول التي تبيع نفطها مقابل الدولار الأميركي.
واستخدامُ الدولار كعملة شبه حصريّة في السوق العالَميّة للنفط يَمنح امتيازاً عظيماً للولايات المتّحدة، يتمثّل في الحقّ في إصدار عملتها الوطنيّة للدفع مقابل أيّ شيء تريده، ولفائدة أيّ شخص، وفي كلّ مكان من العالَم؛ بحيث تتعزَّز المنافع المتحصّلة من وراء هذا الامتياز، بالنَّظر إلى أنّ معظم الدول تبقى بحاجة إلى النفط لمواصَلة نموّها الاقتصادي وتأمين حاجيّاتها من الطّاقة. وينطبق هذا أكثر على الدول الصناعيّة المصدِّرة والمدمنة على هذا المَورد. وتحتاج كلُّ الدول الراغبة في شراء النفط من الأسواق العالَميّة إلى تأمين الدولارات الكافية لهذا الغرض، ما يُحتِّم عليها أن تبيع سلعها للولايات المتّحدة أو لبلدانٍ تملك احتياطيّات كافية من الدولار الأميركي. يَدفع هذا الوضعُ إلى زيادةِ الطلب العالَمي على العملة الأميركيّة، ويَسمح للإدارة الأميركيّة (من خلال الاحتياطي الفيدرالي الذي يقوم بشراء السندات الحكوميّة الجديدة) بطبْع المزيد من الدولارات التي توزَّع على دولِ العالَم المتعطِّشة لهذه العملة النقديّة الضروريّة لتأمين حاجيّاتها من النفط وباقي السلع الأساسيّة.
يُشاطر كلٌّ من ديفيد فيلدز وماتياس فيرننغو هذا الرأي بشأن الدَّور الذي تلعبه تسوية المُعاملات المُرتبطة بالنفط، وباقي السلع الأساسيّة بشكلٍ عامّ، بالدولار الأميركي، في ديمومة الامتياز الذي تتمتّع به الولايات المتّحدة. ويعلِّق هذان الاقتصاديّان في ورقةٍ بحثيّة منشورة على موقع معهد ليفي للعلوم الاقتصاديّة (Hegemonic Currencies During the Crisis: The Dollar versus the Euro in a Cartalist Perspective) بالقول إنّ جانباً مهمّاً من هذا الامتياز يرتبط بكون السلع الأساسيّة كالنفط يتمّ تداولها بالدولار في الأسواق العالَميّة، ثمّ يُضيفان أنّ الدولار هو العملة المفتاح، لأنّ الولايات المتّحدة تستطيع أن تفرض تداوُل السلع الأساسيّة بعملتها الخاصّة.
البلدان التي تفتقر إلى الموادّ الأوليّة الأساسيّة مثل النفط، تضطرّ إلى استيراد حاجيّاتها من هذه الموارد الطبيعيّة، وكذلك هو الشأن بالنسبة إلى الدول التي تفوق حاجيّاتها حجْمَ إنتاجها المحلّي (الصين على سبيل المثال). فهي بالتالي تَجِدُ نفسَها مرغمةً على مُراكَمة الدولارات، لأنّها لا تستطيع تسديد ثمنَ وارداتها إلّا بالعملة الأميركيّة ولا تقبل معظمُ الأسواق عملاتِها الوطنيّة. يدخل العالَمُ جرّاء هذا في سباقٍ نحو التصدير إلى الأسواق التي يُمكن أن تدفع بالدولار مقابل السلع المصدَّرة، ولا مُنافِس للولايات المتّحدة بهذا الصدد؛ فالدولار هو عملتها الوطنيّة ويكفي أن يطبع الاحتياطي الفيدرالي الأميركي المزيد منه. تترتّب عن هذا الوضع زيادةٌ مستمرّة في حجْم السيولة المُتداوَلة دوليّاً بالدولار، ما يقدِّم تفسيراً لبقاء العملة الأميركيّة كأهمّ عملة نقديّة مُتداوَلة في أسواق الصرف وكأهمّ عملة في احتياطيّات المصارف المركزيّة عبر العالَم.
على صعيدٍ آخر، فإنّ التجارة الدوليّة للنفط بالدولار الأميركي تلعب دَوراً محوريّاً في سيولة أسواق المال الأميركيّة، وبالتالي في جاذبيّتها وقدرتها على استقطاب رؤوس الأموال الدوليّة. يُشير الاقتصادي إيثان كابستين في كِتابه الصادر عن مطابع جامعة هارفارد (Governing the Global Economy. International Finance and the State) بهذا الصدد إلى أنّ أزمتَي النفط التي شهدهما العالَم في سبعينيّات القرن الماضي (ارتفع سعر برميل النفط من 1.80 دولار في العام 1970 إلى نحو 39 دولاراً في بداية الثمانينيّات) أدّتا إلى أكبر تحويل للدخل على مرّ التاريخ، وذلك بالنَّظر إلى أنّ المُستهلِكين في البلدان المستورِدة للنفط اضطرّوا إلى إنفاق ملياراتٍ إضافيّة من الدولارات من أجل الحصول على حاجيّاتهم من المُنتجات النفطيّة. وترتّب عن ذلك بروز ديناميّة جديدة تمثّلت في إعادة تدوير "البترودولارات" في أسواق المال الأميركيّة بإيعازٍ من حكومة الولايات المتّحدة وبترتيبٍ منها، وذلك من أجل امتصاص الفوائض الضخمة التي حقَّقتها البلدان المصدِّرة للنفط نتيجة ارتفاع أسعار الذهب الأسود في الأسواق الدوليّة. ولقد سبق لأستاذ الاقتصاد السياسي ديفيد سبيرو أن أشارَ إلى ذلك في كِتابه الصادر عن مطابع جامعة كورنيل في العام 1999 (The Hidden Hand of American Hegemony. Petrodollar Recycling and International Markets). وليس غريباً ولا مُفاجئاً بعد هذا إذن، أن نرى الدولار يمثِّل حصّةَ الأسد في احتياطيّات المصارف المركزيّة من النقد الأجنبي، وأن يحتلّ الصدارة على مستوى أكثر العملات تداولاً في العالَم.
ولأنّ المسؤولين الأميركيّين واعون تماماً بكلّ الرّهانات التي سبقت الإشارة إليها، فإنّ إعادة إنتاج هذا النظام القائم على "البترودولارات"، والإبقاء على الوضع القائم في مجال العلاقات النقديّة الدوليّة يكتسي طابعاً استراتيجيّاً بالنسبة إلى الولايات المتّحدة، وذلك من أجل الاستمرار في جني ثمار وضْع الهَيْمَنة النقديّة الذي يتمتّع به الدولار ضماناً لقوّة الولايات المتّحدة وسيطرتها على العالَم. ولذلك فهُم لا يتردّدون في استعمال كلّ مَوارد قوّتهم النّاعمة والصلبة على حدّ سواء (بما في ذلك القوّة العسكريّة إذا لزم الأمر) في سبيل تأمين الشروط والظروف المعزِّزة لهَيْمَنة العملة الوطنيّة الأميركيّة ودعْمِ مَوقعها في سوق النفط الدوليّة بشكلٍ خاصّ وأسواق السلع الأساسيّة (الموادّ الأوليّة) بشكلٍ عامّ.
الغزو الأميركيّ للعراق
في هذا السياق لا بدّ من الإشارة إلى إحدى الفرضيّات التي تمّ تقديمها كتفسيرٍ للغزو الأميركي للعراق في العام 2003، وإن كانت هذه الفرضيّة لا تحظى بالكثير من الدَّعم من طَرَفِ الباحثين في مجالَيْ العلاقات الدوليّة والاقتصاد السياسي الدولي. غير أنّ هذه الفرضيّة، إنْ قُرئت في ضوء ما قدّمناه سابقاً، تحوز بعضاً من الصدقيّة، ولعلّ الباحثين قد يعودون إليها إذا تكرَّر مُستقبلاً لجوء الإدارة الأميركيّة إلى القوّة العسكريّة من أجل دعْمِ موقع الدولار في منظومة النقد الدولي، وخصوصاً في ظلّ الوضع العالَمي الجديد الذي يشهد تحدّياً واضحاً للأحاديّة القطبيّة والهيْمَنة الأميركيّة.
يقول الكاتب وليام كلارك في كتابه الصادر في العام 2005 (Oil, Iraq and the Future of the Dollar Petrodollar Warfare) إنّ الرئيس العراقي الأسبق صدّام حسين أَعلن في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2000، عقب اجتماعٍ حكوميّ، أنّ العراق قد قرَّر أن يطلب من الأُمم المتّحدة تسديدَ مقابل صادراته النفطيّة بالعملة الأوروبيّة الموحّدة بدلاً من الدولار الأميركي. وقد عمدتِ الحكومةُ العراقيّة بعد وقتٍ وجيز من هذا الإعلان إلى فتْحِ حسابٍ مصرفيّ باليورو لدى إحدى كبريات البنوك في فرنسا (BNP Paribas). ما من بلدٍ عضو في منظّمة الأوبيك تجرَّأ قبل هذا التاريخ على انتهاك الاتّفاق المُضمَر الذي أبرمته الولايات المتّحدة مع البلدان الأعضاء في المنظّمة في سبعينيّات القرن الماضي. أصرَّت الإدارةُ الأميركيّة على غزو العراق في العام 2003 بحججٍ واهية (حيازة أسلحة التدمير الشامل وعلاقة النّظام العراقي بتنظيم القاعدة) لم تَفلح في إقناع حتّى بعضٍ من حلفائها التاريخيّين، ولقيَ مشروع القرار مُعارَضةً قويّة داخل مجلس الأمن، لكنّ ذلك لم يمنع الولايات المتّحدة من غزو العراق حتّى من دون غطاء الشرعيّة الدوليّة.
يوضِح كلارك في كِتابه أنّ هذا الغزو لم يكُن من أجل السيطرة المباشرة على حقول النفط، إذ لو ظلَّ النفط العراقي يُباع بالدولار الأميركي، لَما كان هناك من حاجة إلى ذلك، لكنّ قرار الرئيس العراقي الأسبق كان يشكِّل سابقةً تهدِّد موقع الدولار كعملة تتربّع على عرش منظومة النقد الدولي، وتُعزِّز فُرص العملة الأوروبيّة الوليدة في اكتساب حلفاءٍ جُدد ومُنافَسة العملة الأميركيّة المُهيْمِنة. يَذكر كلارك أنّ القوّات الأميركيّة قامت بُعيد الغزو مباشرةً بإعادة الأمور إلى سابق عهدها. ويُعلِّق الأكاديمي وأستاذ الاقتصاد السياسي بنجامين كوهين في مقال له منشور في العام 2009 تحت عنوان: ?Dollar Dominance, Euro Aspirations: Recipe For Discord قائلاً: "على الرّغم من أنّنا لا نتوفّر على أدلّة قويّة تدعم هذه الفكرة، فإنّ الواحد لا ينبغي أن يغضّ الطَّرف عن بعض الحقيقة التي تحتوي عليها". النظام العالمي يعرف حركةً تكتونيّة (نسبةً إلى الحركات الباطنيّة التي تحدث في باطن الأرض) شديدة، ولربّما نشهد من جديد حروباً مُماثِلة من أجل الدولار.
*كاتب ومُترجم من المغرب - مؤسسة الفكر العربي