كأس العالَم 2022.. حرب من دون إطلاق نار

news image

وفاء البوعيسي*

في هذه الأيّام يتحلّق مليارات من البشر حول التلفزيون، وعيونهم مصوَّبة نحو فِرقهم الوطنيّة في مونديال قطر 2022، وقد سافرت ملايين أخرى لمتابعة مجريات اللّعب من عَين المكان، وبالنسبة إلى تلك المليارات يُعدّ المونديال التعبيرَ الثقافيَّ المُطلق والوحيد الذي تتحدّثه جميع الأُمم بلغاتٍ مُختلفة، وهو أكبر عمل دوليّ ينخرط فيه حتّى أولئك الذين لا يهتمّون بكرة القدم عادةً. ويعود ذلك لكونها الرياضة الأكثر شعبيّة في العالَم، بالنّظر إلى سهولة قواعدها، فهي تُمارَس في كلّ بلد ومن كلّ الفئات العمريّة، وفي أيّ مكان كالشواطئ والأزقّة والشوارع ومُدن الصفيح، حتّى حازت على ميزة التمثيل الوطنيّ بين الأُمم.

وكأس العالَم بالذّات نجحت في خلْقِ الإثارة والعاطفة لجذْبِ المُتابعين في أوساط المتديّنين وذوي الاحتياجات الخاصّة والنساء والناشئين. ومن هنا بالذّات يتلقّى المتابعون والجمهور والساسة كأسَ العالم على نحوٍ عميق وحميمي، لكون بلدهم وشعبهم وثقافتهم مُمثَّلين في أعين بقيّة العالَم (John Molinaro, Why does the World Cup matter so much? June 11,2014)، وأكثر من ذلك، إنّهم يتمثّلون هويّتهم الوطنيّة واعتزازهم بأنفسهم عبر التماهي مع فريقهم الرياضي ونجومهم من الهدّافين، في حالةٍ واضحة من الطوطميّة، حيث يُصبح الفرد هو أمّته (By ISI Archive, Nationalism and the world cup, June 25, 2014). وهنا يمكن تسجيل تصريحاتٍ لمسؤولين شديدي التعصُّب لقوميّتهم، جاء الأوّل من شخصيّةٍ فرنسيّة بعد فوز بلدها بكأس العالَم - 2018 للمرّة الثانية بعد عشرين عاماً إذ قال: ها قد عادت الكأس أخيراً للوطن (Juliette Desplat, World Cup fever at its worst: the 1969 Football War, 20 July 2018)، وفي إنكلترا بمناسبة توسُّل لاعبين بريطانيّين إعفاءهم من اللّعب دوليّاً، لأنّه يُسبِّب لهم الإزعاج، أدانهم مُهاجِم المُنتخب بمقالةٍ قائلاً: "أيّ لاعب يتهرَّب من "الواجب" يجب أن يُطلب منه الاتّصال بوالدَيْ جندي بريطاني قُتل في أفغانستان لشرح قراره" (Josh Turner, The World Cup, nationalism, and authentocracy an extract from Games Without Frontiers, June 24, 2018).

كرة القدم بوصفها استعارةً للحرب

قيل في الرياضة "إنّها لا تخلق الظروف للحرب، لكنّها تُحافظ على إمكانيّة تلك الظروف" (Nathanial Snow, Violence and Aggression in Sports: An In-Depth Look, March 24, 2010)، وقال عنها جورج أوريل: "هي حرب من دون إطلاق نار" (George Orwell, The Sporting Spirit,1945).

تتّجه البحوث الرياضيّة لإجراء مُقارنة بين كرة القدم والحرب، ويحدث ذلك لأنّ الإنسانيّة على ما يبدو مُدمنة على التوتُّر والعنف، بسبب التعقيدات الحياتيّة التي تُعايشها باستمرار. وما يُعزِّز فكرة ربْط الرياضة بالحرب هو تشاركهما في الهياكل ذاتها ومنها: الجنرالات ممثَّلون في المُدرّبين، والجنود مُمثَّلون في اللّاعبين، ومُعسكرات التدريب والتعبئة ممثَّلة في النوادي، والاستراتيجيّات ممثَّلة في خطّة اللّعب، وساحة المعركة ممثَّلة في الملعب، وحتّى في الموت، وأخيراً تشتركان في الدوافع والأهداف والاستيلاء (Ben Purtell, Football and War). فالمُدرِّب بحسب Ben Purtell يتدخّل بالتوجيهات ووضْع خطط الدفاع والهجوم وتشكيلة الفريق، ويُمكنه استدعاء لاعب من الاحتياط أو سحْب لاعب أساسي حين يلاحظ انخفاض أداء أحدهم.

أمّا اللّاعبون، فهُم الجنود المتحمّسون لجلْبِ النصر لأمّتهم، يرتدون زيّاً موحَّد اللّون والتصميم يحمل رقم كلّ لاعب، كلّ فريق يحمل عَلَم بلده ويؤدّي نشيده الوطني باعتزازٍ مُعلناً ولاءَه له (Report, Descriptive Essay on How a Football Game is a Metaphor of War). وقد سبق للّاعبين تلقّي تدريباتٍ صارمة في الميدان، عدا عن تعبئتهم معنويّاً للمواجهات الحاسمة. دافعهم ليس الترفيه ولا التمرين لكسْبِ اللّياقة، بل إحراز الفَوز وهزيمة الآخرين وإلّا لحقَ بهم العار (George Orwell).

أمّا خطّة اللّعب، فكلّ لاعبٍ فيها هو ترس في آلة اللّعبة العنيفة، يطيع تعليمات مدرّبه بحذافيرها، وهو مع أقرانه يلجؤون إلى استراتيجيّة الهجوم على أرض العدوّ وجعْله في مَوضع الدّفاع والصدّ طوال الوقت، واستنزاف قوّته بإطالة الوقت، واستخدام المكر والخدعة بمُراوغة الكرة، واستهداف لاعب الوسط بقطع الطريق عليه حتّى لا ينجح في تمرير الكرة إلى فريقه من الدّفاع (T. Drake, Football is our Favorite Metaphor for War, Feb 4, 2020).

والملعب يمثّل الحدود التي تدور فيها رحى اللّعبة ضمن مناطق بعيدة عن الشوارع، وحيث يجب الاحتفاظ بالكرة من أجل التقدُّم في اللّعب، وإلّا عوقِب اللّاعب على خروجها، وكلّ تحرُّك يخضع لمُراقبة الحكم الذي قد يعاقب اللّاعب المخطئ حدّ طرده من الميدان وإعادته لبلده ليُواجِه سخطَ شعبه ومدرّبه (Report, Descriptive Essay on How a Football Game is a Metaphor of War.).

أمّا الاستيلاء فيتمثّل في جني اللّاعبين ثمار الانتصار، سواء في الميدان بهتافات الجمهور ورقْص الفتيات الجميلات وتلويحهنّ بالأعلام، وبكاء الخصوم المهزومين واضْطرارهم للانحناء لهم مُرغَمين، والاستحواذ على الكأس والعودة بها لبلدهم مكلَّلين بالنصر، أم في بلدهم حيث سيحظَون بالثراء الفاحش من بَيع تذاكر المُباريات للجمهور بمئات الآلاف طوال فترة المونديال، ومن أجورهم الفلكيّة عن اللّعب في أنديتهم. أمّا موت اللّاعب، فقد يكون في الميدان بتعرُّضه لإصابةٍ تجبره على الاعتزال، أو بترْك اللّعبة بسبب التقدُّم بالعمر، أو بإعدامه من شعبه انتقاماً لهفوةٍ أَسفرت عن هدفٍ عكسي دخل مرماه، كما حدثَ لأيقونة الرياضة الكولومبيّة أندريس إسكوبار الذي قُتل على يد المُراهنين على فوزه (Ben Purtell).

تفريخ القوميّة

كرة القدم مسؤولة عن تنشيط القوميّة في أوروبا وأميركا الجنوبيّة. يتجلّى ذلك في الشعبيّة المستمرّة لكأس العالَم، بل إنّ القوميّة كلغة سياسيّة عالَميّة هي التي جعلتْ مُنافسات كأس العالَم مُمكنة وجذّابة، فقد استعملها السياسيّون القوميّون لخدمة قضاياهم منذ بدئها.. وهنا أمثلة عدّة:

قُبيل مونديال العام 1930 بـ 35 يوماً كان الملك كارل الثاني قد استولى على السلطة في رومانيا، ووسط الاضطرابات تركَ مسؤوليّاته وتفرَّغ لإقحام فريقه في كأس العالَم. شكّل بنفسه الفريق الذي تكّون من بعض المُحترفين وآخرين كانوا في السجون، ومارسَ ضغطاً على "الفيفا" لقبولهم في المونديال، وتمكَّن من اللّحاق بالكأس بعد ثلاثة أيّام تأخير، وقد أَظهر فريقه حرفيّةً عالية في اللّعب أَحدثت انفجاراً شعبيّاً وشغفاً وطنيّاً في رومانيا، أَسهَم في تهدئة الأوضاع هناك (Report, Romania’s football-crazy king, 14 July 2020).

وفي مونديال 1938 كان هتلر قد غزا النمسا وفكَّك فريقها الرياضي بطرد اليهود وإقحام اللّاعبين الألمان فيه، كما أَجبر أربعة مُحترفين نمساويّين على الانضمام إليه، مُرغِماً إيّاهم على حمْلِ شعار النازيّة وأداء تحيّة العَلم الألماني المُستعمر بالطريقة النازيّة ذاتها. كان هدفه استعراض التفوُّق العسكري والرياضي للشعب الآري، وإيصال رسائل قويّة لأوروبا تمهيداً للحرب العالَميّة الثانية (Eric Niiler, World Cup 1938: When Nazi Germany Forced Austrians to Play For Them And Lost, AUG 31, 2018).

بحلول مونديال العام 1978 كانت الأرجنتين في قبضة الجنرال خورخي فيديلا، علّق خلالها النقابات والكونغرس في بلده، وحوَّله إلى سجونٍ ومعتقلاتِ تعذيبٍ لخصومه، فقاطعته دولٌ ومنظّماتٌ حتّى دخلت بلاده في عزلة، لكنّ مُستشاريه أقنعوه باستضافة كأس العالَم لإظهار الأرجنتين كبلدٍ جديرٍ بالثقة وقادرٍ على تنفيذ مشروعاتٍ ضخمة، ولإسكات مُعارضيه في الداخل والخارج، أَنفق الملايين لشراء ذِمم شخصيّاتٍ دينيّة لتبييض سمعته. كما دَفَعَ لشركة أميركيّة مُختصّة في الدعاية لتكذيب ما يُقال عن حُكمه للبلاد، وبالفعل استطاع الرجل تحويل كأس العالَم لبلده بهدف غسْل يدَيْه من "الحروب القذرة" في الأرجنتين، وبانتهاء المونديال خطب في الوفود شاكراً الذين أنصفوا بلده ومنحوه فرصة إظهار قدرته على الوصول إلى السلام (Ken Bensinger, When Argentina Used World Cup Soccer to Whitewash Its Dirty War, AUG 22, 2018).

ليس الساسة هُم مَن يؤجِّج القوميّة في المونديالات فقط، بل الجماهير في الشوارع وعلى المدرّجات، يترصّدون لاعبي الفريق المُنافِس ويمطرونهم بعباراتٍ عنصريّة أو إيماءاتٍ تنال من انتمائهم، إذ سُجِّل مقطع فيديو في مونديال العام 2018 في روسيا لعددٍ من البريطانيّين وهُم يؤدّون التحيّة النازيّة وينشدون أغنية مُعادية للساميّة تُشير إلى مُعسكر اعتقال أوشفيتز الرهيب في بولندا (Sean Morrison, British police investigate video showing England fans making Nazi salutes, 20 June 2018)؛ وفي تصفيات كأس العالَم تعرَّض اللّاعبون الإنكليز السود لإيماءةٍ عنصريّة من الجمهور المَجَري، تتمثَّل في تقليد قردة الأدغال بصياحها وقفزها، وقد جاءت تلك الإيماءة كردِّ فعلٍ على قيام اللّاعبين السود بالجثوّ على ركبةٍ واحدة قبل بدء المُباراة في إشارةٍ إلى النضال التاريخي للسود في أميركا (Report, England players targeted with racist abuse in Hungary during World Cup qualifying win, September 3, 2021)؛ والواضح هنا أنّ كلّ طرف تستَّر بانتمائه العرقي ضدّ الآخر في محفلٍ يُفترض أنّه كَونيٌّ.

كما لم يعُد خافياً صعود كراهيّة الأجانب في أوروبا، وهو موقف تمسَّك به حزب البديل الألماني ضدّ اللّاعبين من أصولٍ تركيّة بفريقهم الوطني تشكيكاً في ولائهم الكروي (Emerging Markets, Germany's Ozil, Gundogan should be dropped from World Cup squad over Erdogan photo, JUNE 19, 2018)، وحدثَ الشيء ذاته مع لاعبين سود في بلجيكا وإيطاليا وفرنسا غيرها.

بل إنّ الحكّام في إدارة المُباريات الرياضيّة لم يَسلموا من العنصريّة والتمييز على أساس الانتماء ولون البشرة، إذ تعرَّضوا لسلوكيّاتٍ عدائيّة من اللّاعبين والمدرّبين والجمهور، تتراوح بين الإساءة اللّفظيّة والاعتداء الجسدي (Report, Football referees: death threats, physical violence and verbal abuse are all part of the job, May 14, 2019,).

أخيراً

في هذه الأوقات الزّاخرة بالشكوك والخوف من المستقبل وصعود النّزعات القوميّة في العالَم، التي يُغذّيها سياسيّون مثل ترامب وأوربان وبولسونارو ولوبان وأردوغان وكريسترسون، علاوة على الإرهاب العابر للقارّات، وتداعيات تغيُّر المناخ ومَوجة الهجرة المهولة إلى أوروبا، القارّة التي شهدت حروباً عالَميّة وأخرى جانبيّة لم تتوقّف كحرب روسيا وأوكرانيا، أولئك الساسة مع الأزمات الاقتصاديّة والدينيّة والديموغرافيّة في العالَم يفاقمون من القوميّة والتشرذُم، وتأتي كأس العالَم لا لتُعزِّز الكونيّة والتآخي بين الشعوب، بل لتُغذّي فكرة تفوُّق قوميّة على باقي القوميّات أو ثقافة على باقي الثقافات، من دون وجود آليّة واضحة وصارمة لدى "الفيفا" لاحتواء هذا الانزلاق نحو العدوانيّة لأسبابٍ منها:

تجذُّر التدخُّل السياسي في اللّعبة منذ محاولات كارل الثاني وخورخي فيديلا وهتلر وموسوليني.
نشْر الأفكار السياسيّة عبر الإيماءات والألفاظ والإشارات التي بها تعرَّف اللّاعبون والجمهور على أنفسهم من خلال الأجندات الإيديولوجيّة للسياسيّين.
التساهُل مع اللّغة العنيفة والشوفينيّة للمُعلِّقين الرياضيّين والتي ترقى إلى لغة حرب أحياناً.
الأجور الخياليّة للّاعبين الكبار، ما يَجعلهم نجوماً وسط جيلِ الشباب.
لكنْ إذا أَمكن لـ "الفيفا" ولقادة العالَم حلّ كلّ هذه الأزمات أو التخفيف من تداعياتها، فيُمكن أن تكون كأسُ العالَم كأسَ سلامٍ كَونيّ لا كأسَ نزعاتٍ قوميّة.

*كاتبة وروائيّة من ليبيا - مؤسسة الفكر العربي