النسيان بوصفه ضرورة أنطولوجيّة للعربيّ

news image

*عثمان لكعشمي


حان وقت استبدال سؤال إيمانويل كانت: "كيف يُمكن للأحكام المسبّقة أنْ تكون مُمكنة؟ "بسؤال فردريك نيتشه: "لماذا يكون الإيمان بهذا الصنف من الأحكام ضروريّاً؟"

إنّ هشاشة صورة العربيّ عن نفسه هي، بشكلٍ أو بآخر، بمثابة هشاشة للفكر العربيّ. ذلك الفكر الذي يُعاني اليوم من العُقم. فمنذ عقود، لم يعُد الفكر العربيّ أكثر من كلامِ "كُتب عن كتب"، وحديثِ "نصوص عن نصوص". لم يعُد أكثر من ردود أفعال أو هكذا يبدو: أعواد ثقاب، لا تُصدر شرارات إلّا بحكّها. أمّا مفكّرونا، فلم يعودوا في حاجةٍ إلى تفكير، ما هذا العجز؟

نعم، صارت الثقافةُ العربيّة ثقافةَ ذاكرة أكثر منها ثقافة نسيان. ذلك أنّ الكائن العربي يُفضِّل أنْ يُولي الواقع ظهره لينصرف إلى ماضٍ مهجور، حياة الأسلاف الموتى. غير أنّ الذاكرة ليست ماضياً بالضرورة، وإنّما هي مستقبل الماضي. يقول بول فاليري.

نتساءل مع صاحب "مُجمل تاريخ المغرب" عبد اللّه العروي: ماذا فعلنا بما ورثنا؟ ماذا نفعل به حالاً ومستقبلاً؟ أوَلا ثمّة في إرثِ الأجداد ما يجب أنْ نتخلّص منه؟ من هنا يستمدُّ النسيانُ ضرورته الاستراتيجيّة في تقويض ما يجب التخلُّص منه من إرث الأجداد، ما يُعيق أو يحول دون فعاليّة الكائن العربي في حضارة العصر الحاضر. لذا يجب أنْ نفكّر ونتصرّف كما لو كنّا قد خُلقنا للتوّ، في اللّحظة، في هذه اللّحظة.

ما البديل؟ يكون البديل أوّلاً، وقبل أيّ شيء آخر، بالشعور والوعي بوجود الكائن العربي الحاضر أو الحيّ. ذلك لن يتأتّى إلّا بالاعتراف بواقعنا، بهشاشة الجسم العربي وهشاشة الصورة التي يرسمها عنه الفكر العربي.

كيف يُمكن تعريف هذا الكائن، هل هو عقل عربي سياسي وأخلاقي له بنيته وتكوينه أم هو مُمارَسة اجتماعيّة في العُمق؟ هل هو أدلوجة شيخ وليبرالي وداعية تقنيّة يُراد لها أنْ تكون مُعاصرة أم هو اسم شخصي جريح بالأمثال والوشم والإيروسيّة والخطّ والحكاية الشعبيّة؟ هل هو تراثويّة أم سلفيّة أم عقلانيّة؟إنّه كائنٌ حيّ، وينبغي التعامل معه على هذا الأساس. بما أنّه حيّ، فيجب التعامل معه بمنطق الأحياء وليس بمنطق الموتى. من هنا يستمدّ النسيان مشروعيّته، بوصفه تمريناً أنطولوجيّاً على العيش في اللّحظة الواقعيّة، بما هو ضرورة أنطولوجيّة للحياة.

مُشكلتنا الحقيقيّة هي أنّنا لم نطرح بعد سؤال الضرورة: فما هو الضروري بالنسبة إلى حياتنا نحن العَرب وغير العَرب من مُجتمعات الهامش؟ النسيان ولا شيء غير النسيان: ضرورة النسيان.

الانتصار لفكرة الحياة

سؤال الضرورة هذا ليس جديداً، لكنّنا لم نفكّر فيه بعد؛ لأنّه سؤالٌ للأحياء أكثر منه سؤال للموتى. ينبغي علينا الانتصار لفكرة الحياة وما تقوم عليه من ضرورات، ذلك أنّ شعلة الحياة تنتصر للضروري أكثر من الفائض. غير أنّ ذلك لا يعني بالضرورة إنكاراً لحقّ الموتى في هذه الحياة، وعلى هذه الأرض، بقدر ما يعني استدعاء أو انبعاث ما يخدم هذه الحياة ويُنْعِشُها وليس ما يضرّها أو يُمرِضها، ولو أدّى ذلك بنا إلى العقوق - عقوق الآباء والأسلاف - ، وإنْ كنتُ أرى أنّ العقوق الحقيقي هو أن نتمسّك بما لا ينفعنا اليَوم من إرث الأجداد. فلم يكُن للعرب، من المشارق إلى المغارب، أنْ تقوم لهم قائمة، من دون قطعهم مع إرث الأجداد، بلا جَبّ السابق، بلا نسيان.

إنّ الوفاء الحقيقي لأسلافنا وأمجادهم، هو أنْ نخلق أمجادنا الخاصّة، وبالتالي التمكُّن من خلْقِ أسلافنا من جديد. ذلك ما ندين به لجذورنا التاريخيّة: أنْ ننطلق من الحاضر، ونعمل على ميلادنا الغدوي.

لقد نبَّهنا صاحب الاعتبارات أو المبادئ الأربعة، أي عبد اللّه العروي، وخصوصاً في اعتباره الثاني، إلى خطورة التاريخ أو بالأحرى الدراسات التاريخيّة التي تُبالغ في موضوعيّتها المزعومة، والتي تُعلي من شأن حتميّة التاريخ على حساب الحياة، وما يعود بذلك من ضررٍ على الحياة نفسها. فأن ننتصر للحياة، معناه أن ننتصر للنسيان على الذاكرة: إذا كان بإمكاننا أنْ نحيا من دون تذكُّر على نحوٍ ما، أيْ أنْ نحيا بسعادة مثل الحيوان، فإنّه من الاستحالة بمكان أنْ نحيا بلا نسيان، من دون أن ننسى. فليس ثمّة أيّ سعادة.. ولا تمتُّع باللّحظة الحاضرة من دون ملكة النسيان. ذلك ما لم ندركه بعد، فأين هو الكائن العربي اليَوم من ضرورة النسيان؟

تاريخ الفكر البشري برمّته هو تاريخ مجهودات البشر الدائمة لتطويع الطبيعة وتسخيرها لخدمة مصالحهم. لقد عُرف الإنتاج، باعتباره مفهوماً مركزيّاً في الحضارة الصناعيّة، بكونه تحويلاً واستثماراً لخيرات الطبيعة. فمُجمل مجهودات الإنسان الفكريّة كانت ترمي إلى تعويض ضعفه الطبيعي بتفوّقه على الطبيعة وتميُّزه عنها، لكنّ جسمه لا ينفكّ يذكّره بكونه جزءاً لا يتجزّأ من الطبيعة نفسها، التي يرمي إلى بسط سيطرته عليها.

لطالما عرَّفَ الإنسان نفسه انطلاقاً من تميُّزه عن الحيوان. لكنْ، وعلى الرّغم من تَشَدُّقه الدائم بتَفَرُّده عن الحيوان، سواء بالعقل أم بغيره، فإنّه يحسده ويحقد عليه لأنّه يعيش بغريزته الحيوانيّة من دون أنْ يأبه إلى ماضيه أو مستقبله، يعيش اللّحظة بلحظتها. يحسد الإنسانُ الحيوانَ لأنّ تفوّقه البشري أنساه أهمّ خاصيّة من خاصيّات حيوانيّته: لقد نَسِيَ أنْ يَنْسَى. هذا هو سِرّ سعادة كلّ حيوان.ذلك السرّ الذي اكتشفه الآخر الحداثي عندما طردَ الأرواح الشرّيرة من الجسم الغربي ونَزَعَ السحر - اللّاهوت - عن فعله البشري، لكي يُعانق سحراً آخر هو سحر تاريخانيّته ومركزيّته وتفوّقه على غيره من الكائنات والبشر، كما هو شأن تفوّقه على الذات العربيّة.

التاريخ لا يُعيد إنتاج نفسه

لقد تفوَّق الغربُ على تفوُّق العرب التاريخي، وانتصروا على ذاكرتهم العمياء: إرث الأسلاف الموتى؛ لكنّهم لم يحقِّقوا حداثتهم أو نهضتهم قبل ذلك إلّا بعقلنةٍ كليّة لحياتهم العامّة على الأقلّ، بما في ذلك ذاكرتهم وأفضيتها. لكن ماذا تعني العقْلَنة في هذا المقام؟ أوَلم يكُن تخلُّصهم من الميّت والمتخشّب في إرث أسلافهم يشكِّل جزءاً كبيراً من هذه العَقْلنة؟

على الرّغم من ذلك، يحقّ للمرء أنْ يتساءل من جديد: وهل ينبغي علينا أنْ ننحو نحوهم بالضرورة، أيْ أنْ نمرّ من اللحظات التاريخيّة التي مرّوا خلالها، أنْ نعيش نهضتهم ونتنوَّر بتنويرهم ثمّ نستحدث بحداثتهم فنُعانق ما بعد حداثتهم، كي يتسنّى لنا أنْ نكون عصريّين، أبناء زماننا؟

نبَّهنا ماركس مراراً إلى أنّ التاريخ لا يُعيد إنتاج نفسه إلّا على شكل مهزلة، وهل هناك مهزلة أشدّ من هذه الدعوة؟ دعوة التاريخاني العَربي.

لقد تعلّموا النسيان، كي يصنعوا ذاكرتهم: يتذكّرون بالنسيان. هذا هو المعنى الذي أُعطيه للنسيان. إنّه ليس عدماً أو إلغاءً للتاريخ، وإنّما هو الأخْذ بأولويّة الحاضر على الماضي والعيش في اللّحظة والانطلاق منها بوصفها مَرجعاً في حدّ ذاتها. وإنْ أُريد للعربي العودة خطوات إلى الوراء، فلْتكُن عودةً جينيالوجيّة: أيْ على أنْ يتمكّن من الصعود إلى الأمام بعد رجوعه خطوات إلى الوراء. هذا ما لم نتعلّمه بعد.

ما النسيان؟ إنّه تقويضٌ لأسطورة العَود الأبدي؛ خلخلةٌ للعودة الدوريّة إلى الزّمن الأصلي المحض، بما هو زمن أسطوري، بالمعنى الأنثروبولوجي للعبارة، الكفيل بإعادة النظر في مفهوم التاريخ أو الزمن ليغدو ميلاداً غدويّاً، ارتماء للماضي في المُستقبل.

فلماذا يتعلّق الكائن العربي بالماضي أكثر من الحاضر، في الوقت الذي يُمكنه أنْ يتعلَّم من الحيوان سِرّ سعادته؟ لماذا لم نتعلّم من الحيوان بعد مَلَكَة النسيان والعيش في وتد اللّحظة؟

لعلّ وعَسَى نتمكّن مِن التحرُّر من ثقل الماضي الذي يأبى أنْ يمضي، من خلال التمرُّن على النسيان بما هو علاج لـ "حمّى الماضي" و"تسهيل المُستقبل"؛ أوَليس من شأن النسيان، بما هو ضرورة أنطولوجيّة بالنسبة إلى وضعنا الأنطولوجي الحاضر، أنْ يُحرِّرنا مِن التمجيد الأعمى للماضي، كي لا أقول التراث، أو مِن الارتماء العُصابي في المستقبل؟ ذلك أنّ التراث عندي ليس هو ما ورثناه من أجدادنا فحسب، أيْ ما يمكن تسميته بلعنة الأجداد، وإنّما هو ما سنورّثه لأحفادنا أيضاً، أو لنقُلْ: ما لم نورثه لهم بعد. هذا تعريف آخر للنسيان بوصفه ضرورة أنطولوجيّة للكائن العربي والمعرفة (الصورة) التي ينسجها (يرسمها) عن نفسه.


*كاتب مغربي - مؤسسة الفكر العربي