هل يُفسَّر التاريخُ العربيُّ - الإسلاميُّ بالتاريخ الأوروبيّ؟

news image

د. محمود حدّاد*

لا تزال الصحف والمجلّات الثقافيّة العربيّة تحتفل بين وقتٍ وآخر بالعودة إلى شخصيّات ما اصطلحنا على تسميته بـ "عصر النهضة العربيّة" الذي ساد بين نحو المُنتصف الأخير للقرن التّاسع عشر وحتّى نحو المنتصف الأوّل للقرن العشرين. ونعود بين فترةٍ وأخرى لاستعادة تلك الفترة والحديث عن أبطالها ومفكّريها بشكلٍ مُكرَّر. وليس في هذا أيّ خطأ، إلّا أنّ فيه إشارة إلى ضعف ما هو جديد في إنتاجنا الثقافيّ، كما أنّ فيه، في غمرة الاحتفال المستمرّ بشخصيّات النهضة، إشارةً إلى النكوص عن إعادة تقييمهم وتقييم أفكارهم وفي بعض الأحيان تقييم المُجادلات والنقاشات التي جرت بين بعضهم البعض، حتّى ليُخيَّل لبعضنا أنّهم كانوا أو أصبحوا اليوم على رأيٍ واحد في كثير من الموضوعات.

كمثالٍ على ما أذهب اليه أسوق ملاحظةً عمّا جرى عندما حَصلتِ المُجادلة بين الشيخ الإمام محمّد عبده والأديب المفكّر فرح أنطون حول العلمانيّة في بداية القرن العشرين. كَتَبَ محمّد عبده مقالاتٍ عدّة ردَّ فيها على فرح أنطون المُطالِب بالعلمانيّة في الدولة العثمانيّة. جُمعت هذه المقالات في كتابٍ صدر بعنوان "الإسلام والنصرانيّة مع العِلم والمدنيّة". أمّا اليوم، فإنّ الطبعات الجديدة تُسقط كلمة "النصرانيّة" من عنوان الكتاب وتنشره بعنوانٍ مختلف: "الإسلام مع العِلم والمدنيّة". ومع أنّ في هذا التغيير استجابةً لحساسيّةٍ دينيّة أو سياسيّة لدى بعض المسيحيّين من صفة "النصرانيّة" حيث يُفضِّل هؤلاء استخدام كلمة "الدّين المسيحي" أو "المسيحيّين" – تماماً كما ينفر المُسلمون من استخدام تعبير : "الدّين المحمّدي" ويفضّلون عليه "الدّين الإسلامي" أو "الإسلام"، فإنّ الكِتاب لم يُعَدْ نشره مصحَّحاً مثلاً بعنوان: "الإسلام والمسيحيّة مع العِلم والمدنيّة"، بل كان أن أُسقِطت كلمة "المسيحيّة" كما "النصرانيّة"، أي أُسقطَت أيّة صفة دينيّة أو عقائديّة عن المُقارَنة – على الغلاف – التي أجراها محمّد عبده بين التاريخَيْن الإسلامي في الشرقوالمسيحي في الغرب واقتصر العنوان على "الإسلام مع العِلم والمدنيّة". وفي هذا التعديل خسارة كبيرة للقارىء الجديد وعدم أمانة علميّة بالحفاظ على العنوان والتعبير الذي استُخدم ونُشر قَبل أكثر من قرنٍ من الزَّمن النهضوي، حيث كان المثقّفون والجمهور أكثر انفتاحاً عند مُناقشة المسائل الخلافيّة.

على كلّ حال، جرت العادة أن يتمّ الحديث أو المُعالَجة الفكريّة لما قال به كلٌّ من فرح أنطون ومحمّد عبده كلٌّ على حدة ربّما حتّى لا نضْطرّ للمُفاضَلة بينهما أو بين موقفَيهما. وفي هذا خسارة فكريّة أخرى. إلّا أنّني أستثني هنا كتاب "ابن رشد وفلسفته: مع نصوص المُناظرة بين محمّد عبده وفرح أنطون" الذي ألَّفه فرح أنطون وقدَّمه د. الطيّب تيزيني (دار الفارابي، 1988). أمّا إذا تحوَّلنا إلى متنِ مقالات أنطون وردود عبده، فإنّنا سنقتصر هنا على أنّ أنطون ركَّز، في ما يتعلّق بالعلمانيّة، على نقاط ثلاث:

الأولى، "الرغبة في المساواة التامّة بين أبناء الأمّة بقطْعِ النَّظر عن مذاهبهم ومُعتقدانهم، ليكونوا جميعاً أمّةً واحدةً يشعر بعضُ أعضائها بألمِ بعضهم الآخر شعوراً حقيقيّاً...

الثانية، "لا مشروعيّة تدخُّل السلطة الدينيّة في الأمور الدنيويّة، لأنّ الأديان شُرِّعت لتدبير شؤون الآخرة لا لتدبير الدنيا ...".

النقطة الثالثة، "مضارّ الجمْع بين السلطتَيْن المدنيّة والدينيّة على الأمّة، فالأمّة التي تجمع حكومتها بين تَينك السلطتَيْن تبقى عرضةً للانقسامات الداخليّة وهدفاً للأطماع الخارجيّة".

محمّد عبده بين النظريّة والواقع التاريخيّ

لا غبار على الأهداف الثلاثة التي ذَكرها أنطون والتي تشمل المُساواة ومنْع السلطة الدينيّة من التدخُّل في الشؤون الدنيويّة وفصْل السلطتَيْن المدنيّة والدينيّة التي كان يجب أن تكون مؤيَّدة من كلّ المواطنين العثمانيّين. أمّا إذا كانت هذه الدعوة إلى فصل الدّين عن الدولة التي أَطلقها فرح أنطون في فترة الحُكم العثماني تعني "العلمانيّة"، فإنّ الشيخ محمّد عبده ردَّ عليها بأنّه لا داعٍ لها لأنّها موجودة فعليّاً في الدولة العثمانيّة وفي كلّ الدول "الإسلاميّة" السابقة عليها لأنّ التاريخ الإسلامي يفصل واقعيّاً وعمليّاً [وإن ليس نظريّاً] بين الدّين والدولة. فلا ضرورة للنضال والجهاد لفتْح الأبواب المفتوحة أصلاً. صحيح أنّ هناك منصباً رمزيّاً للخليفة، ولكنّ المسؤول عن الشؤون الدينيّة في إستانبول هو "شيخ الإسلام". وليس صحيحاً على الإطلاق أنّ الشيخ محمّد عبده قال إنّ الإسلام دين ودولة، بل قال إنّ الحاكم لا يستطيع أن يتجرَّد أو ينفصل تماماً عن مُعتقداته الدينيّة. وحتّى لو قالها هو أم غيره فإنّ معناها مرتبطٌ بمحاولة الوصول إلى يوتوبيا المدينة الإسلاميّة الفاضلة. وهناك فَرْقٌ واضح بين النظريّة والواقع على الأرض. ولقد تكرَّر تعبير "الإسلام دين ودولة" أو أنّ "الإسلام لا يفصل بين الدّين والدولة" بينما المسيحية تقول: "إعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله" في أبحاث غير المختصّين والسياسيّين حتّى أصبحت لازِمة مُملّة وإن خاطئة. والواقع أنّ الإسلام يَصِل الدّين بالدنيا بدلاً من ذلك أي أنّ الدّين مُرتبط بالمُجتمع لا بالدولة. أمّا هذه الأخيرة فمرتبطة بالمؤسّستَيْن السياسيّة والعسكريّة. ويتّفق المُستشرقان البريطانيّان هاملتون غيب وهارولد بوون مع محمّد عبده عمليّاً عندما يقولان في كتابهما "المُجتمع الإسلامي والغرب" إنّ الدّين والدولة متّحدان في الإسلام في المضمار النظريّ فقط (أي أنّ الفقهاء يقولون بذلك، بمعنىً ما، ما يجب أن يكون، لا بمعنى ما هو كائن فعلاً). كذلك، فإنّ أستاذ التاريخ الإسلامي البارز في جامعة بيركلي الأميركيّة إيرا لابيدوس نَشَرَ في العام 1975 دراسةً بالإنكليزيّة بعنوان: "الفصل بين الدّين والدولة خلال تطوُّر المُجتمع الإسلامي المبكر The separation of state and religion in the development of early Islamic society"، وهي ستصدر مترجمةً قريباً إلى العربيّة في كتابٍ بالعنوان نفسه. كما أنّه نَشَرَ دراسةً مقارنة بين العالَم الإسلامي والعالَم المسيحي في العام 1996 بعنوان: "الدولة والدّين في المُجتمعات الإسلاميّة State and religion in Islamic societies" تتحدّث عن النماذج المتعدّدة للدولة والمُجتمع ومؤسّساتهما وعلاقاتهما في العالَميْن الإسلامي والغربي.

إنّ الذي يُثير مسألة منْع الدّين من التدخُّل في شؤون الدولة في العالَم الإسلامي في العصر الحديث ويُطالِب بتحقيق ذلك يكون كمَن يقرأ في حقباتٍ معيّنة من كِتاب التاريخ الأوروبي لأنّ التاريخ الأوروبي شهد نماذج عدّة من تدخُّل الدّين بالسياسة، ومن ثمّ تدخُّل السياسة بالدّين، بخاصّة إثر بروز القوميّات التي أَنشأت كنائس قوميّة خاصّة بكلّ أمّة – دولة منها. وعليه، فإنّ طرْحَ مسألة منْع الدّين من التدخُّل بشؤون الدولة بهدف العثور على دواء للمُجتمع الإسلامي مسألة غريبة. فلا المَرض، إن وُجد، هو المَرض، ولا الدواء هو الدواء، ولا الجمهور هو الجمهور. ففي العالَم الإسلامي الوسيط والحديث كانت المشكلة الرئيسة عكسيّة وهي مُحاولة منْع الدولة من التدخُّل في الشؤون الدينيّة لا منْع الدّين من التدخُّل في شؤون الدولة. ويُمكن تقديم مثالَيْن هنا: الأوّل، مثال محاولة الخليفة العبّاسي المأمون في العصر الوسيط فرْض عقيدة المُعتزلة على المُجتمع، والتي نَجَحَ العلماءُ، ولاسيّما علماء الحنابلة، في هزيمتها. أمّا في العصر الحديث، فقد نجحتِ الدولُ العربيّة والإسلاميّة عموماً بالتدخُّل في شؤون الدّين والمُجتمع لحاجتها إلى مَوارد اقتصاديّة إضافيّة لتمويل تحديثِ مؤسّساتها العسكريّة والإداريّة بعد أن وعَتْ تقدُّمَ الغرب الرّاغب في استعمارها. فكان أن قامت الدولةُ بالاستيلاء على جزءٍ كبيرٍ من الاوقاف الخيريّة التي كانت تربط المؤسّسات الدينيّة بالمُجتمع.

والحقيقة أنّ حركات الإسلام السياسي التي شهدنا ونشهد في القرن الماضي وهذا القرن فهي، برأينا على الأقلّ، وفي الأعمّ الغالب، ردّ فعل - متطرِّف أحياناً - على تدخُّل الدولة الحديثة في شؤون الدّين وشؤون المُجتمع الإسلامي.

مُساواة الأكثريّة بالأقليّة

أمّا في ما يتعلّق بالنقطة الأولى التي أثارها فرح أنطون وهي "الرغبة في المساواة التامّة بين أبناء الأمّة بقطع النّظر عن مذاهبهم ومُعتقداتهم..."، فهي رغبة سامية، لكنّ أنطون، على ما يبدو، كان يَستلهِم التجربة الأوروبيّة التي ناضلت لمُساواة الأقليّات بالأغلبيّة ونسيَ أنّه كان يكتب في بداية القرن العشرين حيث كان الهرم السياسي والاجتماعي في الدولة العثمانيّة قد انقلبَ رأساً على عقب وأصبحت الأقليّات غير الإسلاميّة – بسبب نظام المِلل والإرساليّات التعليميّة المسيحيّة واليهوديّة الأوروبيّة والأميركيّة والامتيازات الأجنبيّة وحصانات ما سمّي "البراءات"، أي الانتماء للجنسيّات الأوروبيّة الرمزيّة التي ترابطت سويّة، في وضعٍ تعليمي واقتصادي واجتماعي وحتّى سياسي (بسبب تدخُّل القناصل الأوروبيّين في الأمور الداخليّة للولايات العثمانيّة) – في بعض الأماكن أفضل من وضع الأغلبيّة الإسلاميّة. لذلك، كانت الأغلبيّة المُسلمة هي التي تُطالب بالمُساواة مع الأقليّة غير المسلمة وليس العكس كما حصل في أوروبا إلى حدّ أنّ بعض الإصلاحيّين المُسلمين كانوا يطالبون بإلغاء المادّة 11 من القانون الأساسي العثماني الذي ينصّ على أنّ "دين الدولة العثمانيّة هو الإسلام" لما في ذلك من إلقاء الكثير من المسؤوليّات والتكاليف عليهم دون غيرهم.

على كلّ الأحوال، فإنّ فرح أنطون كرائد ومفكّر علماني، كان عليه وفي الظروف التي كان يعيشها في الدولة العثمانيّة، أن يطالب، لو نظر في التاريخ العثماني، بإلغاء نظام الملل ونظام الامتيازات الأجنبيّة المتضخّم وفصلهما عن بعضهما البعض بعد أن رَفَدَ الواحدُ منهما الآخرَ في ظروف تراجُع الدولة العثمانيّة.

صراعٌ بين النُّخب

والواقع أنّ أكثر ما يفسِّر الافتراق بين الدّين والدولة في العالَم الإسلامي هو وجود نخبتَيْن اثنتَيْن تؤطِّران عمله ونشاطه: النّخبة الأولى هي النّخبة السياسيّة التي تتبع الحاكم أو السلطان أو الخليفة، والنّخبة الثانية وهي نخبة عُلماء الدّين الذين يهتمّون بتفسير القرآن الكريم وتطوير الشريعة بالاجتهاد والاهتمام بشؤون المُجتمع. والنقطة المركزيّة التي لا نريد التشديد عليها أكثر ممّا يجب هي أنّ المؤسّستَيْن مستقلّتان عن بعضهما البعض. قد تتّفقان في ظروفٍ وقد تختلفان في ظروف، إلّا أنّهما تبقيان مستقلّتَين وعلى مسافة واسعة بينهما. أمّا النموذج الإيراني الحالي فهو استثناء لا نعرف إذا كان سيستمرّ أمداً قريباً أو بعيداً.

في النهاية قد يعترض مُعترِض: أَلَم تتدخّل المؤسّسةُ الدينيّة الإسلاميّة في الدولة عندما فَرضت رفضَ كُتب ابن رشد وحرْقها؟ أمّا الجواب غير النهائي فهو أنّ العُلماء فعلوا ما كانوا يفعلون دائماً، أي تدخّلوا في الشأن المُجتمعي العامّ – وليس في سياسات الدولة. وكان المُجتمع يحوي عُلماء الدّين وكذلك قلّة قائلة بالفلسفة التي كان بعضها لا يتّفق مع العقيدة الإسلاميّة فحصلَ الاشتباكُ بين الطرفيْن الناشطَيْن في المُجتمع. وقد تكون الدولة قد فضَّلت مُسايَرة فرقة فكريّة على أخرى، لكنّها لم تكُن تمثِّل أيّاً منهما.

* كاتب وأكاديمي من لبنان - مؤسسة الفكر العربي