النّزاعات المسلّحة وتغيُّر المناخ

news image


د. خالد صلاح حنفي محمود*

يُشكِّل تغيُّر المناخ أحد التحدّيات الحاسمة في عصرنا هذا، والتي تطاول البلدان المتقدّمة والبلدان النامية على حدّ سواء. فقد دَخَلَ العالَم مرحلةً جديدة تحقَّقت فيها تحذيرات العُلماء والباحثين ونشطاء البيئة في ما يخصّ المشكلات البيئيّة ومستجدّاتها، والتي تتمثّل في الارتفاع غير المسبوق لدرجات الحرارة في معظم بقاع العالَم، وموجات الحرّ الحارقة في أميركا الشماليّة وأوروبا، وذوبان الجليد، وحرائق الغابات، والتصحُّر، والتقلُّبات الجويّة العنيفة مثل الأعاصير، والعواصف، والأمطار الغزيرة الخارجة عن المألوف، وارتفاع مستويات سطح البحر، والاحترار المُتسارع المُفاجئ لمُحيطات العالَم، والفناء البيولوجيّ للأنواع، وغيرها.

وتتفاقم مشكلة التغيُّر المناخي ويزيد تأثيرها مع وجود نزاعات مسلّحة، يتأثّر بها ملايين الناس حول العالَم. ولكن ما علاقة التغيُّر المناخي الذي يشهده كوكب الأرض بالنّزاعات المسلّحة؟ وهل من ارتباطٍ بين ارتفاع حرارة الأرض وازدياد حدّة المعارك في بعض مناطق عالَم اليوم؟

لا يتّفق الخبراءُ في الغالب حول العلاقة بين التغيّرات المناخيّة والصراعات المسلّحة، وتتراوح الرؤى المطروحة بين التهويل والتهوين. ففي الوقت الذي اتّجهت فيه دراساتٌ عدّة إلى الربْط المباشر بين التغيّرات المناخيّة والصراعات والحروب، اتّجهت دراساتٌ أخرى إلى نفي وجود علاقة مباشرة، مستندةً في ذلك إلى أنّ الصراعات غالباً ما تكون محصّلةً للعديد من العوامل المُهيِّئة والأكثر أهميّة وحسماً في تعزيز وجودها أحياناً وخلقها في أحيانٍ أخرى، وبالتالي فإنّ العلاقات بين تغيُّر المناخ والصراع والهشاشة ليست علاقات بسيطة وخطيّة، والآثار المتزايدة لتغيُّر المناخ لا تؤدّي تلقائيّاً إلى مزيدٍ من الهشاشة والصراع، بل يمكن القول إنّ تغيُّر المناخ يُضاعف التهديد، أي إنّ التغيّرات المناخيّة عندما تتفاعل وتتلاقى مع المخاطر والضغوط الأخرى الموجودة في سياق معيّن يُمكن أن تزيد من احتمالات الهشاشة أو الصراع العنيف.

وقد برزت فكرة أنّ تغيُّر المناخ يتسبّب في نشوب نزاعات عنيفة بوصفها أحد المخاوف المتعلّقة بالسياسات العامّة وكذلك كموضوع للبحث في أواخر ثمانينيّات القرن العشرين، ولاسيّما بعد نشر اللّجنة العالَميّة المعنيّة بالبيئة والتنمية WCED تقريرها الذي حمل عنوان "مُستقبلنا المُشترَك" في العام 1987.

وعلى الرّغم من أنّ العقود الثلاثة التي مرَّت منذ ذلك الحين، شهدت غزارة في الأبحاث التي تناولت هذا الموضوع، فإنّ توافُق الآراء بخصوص الفكرة ظلَّ بعيد المنال. ووفقاً لدراسة "جون وتربري"، "الاقتصاد السياسي للمناخ في المنطقة العربيّة" في العام 2013، أدَّت موجات الجفاف السابقة على العام 2011 إلى تدمير الأراضي الزراعيّة في شرق سوريا، التي ينتفع منها ما لا يقلّ عن 800 ألف شخص، وتسبَّبت في نفوق ما لا يقلّ عن 85% من الثروة الحيوانيّة الخاصّة، وتسبَّب ذلك في نزوح سكّان المناطق الريفيّة للبحث عن فُرصٍ للعمل في المُدن الكبرى، وقاموا بتأسيس حزام من التجمّعات العشوائيّة الطَّرَفيّة التي تُحيط بالمُدن الكبرى مثل حماة وحمص ودرعا، وهو ما أَسهم في تفجُّر الصراع في سوريا عقب استخدام نظام الأسد القوّة العسكريّة ضدّهم. وتلك النتيجة تدعم فرضيّة وجود رابطٍ بين الجفاف والحرب السوريّة والمَوجة التالية من اللّاجئين.

وينطبق الأمر عَينه على الصراع في دارفور في السودان، حيث أدّى انخفاض معدّل سقوط الأمطار بنسبة 30% وتراجُع الإنتاج الزراعي بنسبة 70% وارتفاع متوسّط درجات الحرارة السنوي بمعدّل 1.5 درجة إلى تفجُّر الصراع بين القبائل الرعويّة والقبائل العاملة في الزراعة نتيجة الصراع على مراعى الماشية. كما أشار الأمين العامّ للأُمم المتّحدة السابق بان كي مون إلى إنّ النّزاع في دارفور خلال الفترة من 2003 إلى 2005، "بدأ كأزمة بيئيّة نشأت، جزئيّاً على الأقلّ، من تغيّر المناخ"، ملقياً اللَّوم على دَور الجفاف في التسبُّب بزيادة التوتّر بين الرعاة العرب والمُزارعين السود.

ثورات الربيع العربيّ والتغيُّر المناخيّ

اتّجهت دراساتٌ متعدّدة للربط بين التغيّرات المناخيّة وتفجُّر الثورات العربيّة، وهو ما تؤكّده دراسة "الربيع العربي والتغيُّر المناخي" الصادرة عن مركز المناخ والأمن في واشنطن في العام 2013، حيث دَفَعَ إخفاق بعض دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تلبية الاحتياجات الأساسيّة للمواطنين والتصدّي لمَوجات الجفاف والتصحُّر ونقْص إمدادات الطّاقة إلى المُشاركة في الاحتجاجات السياسيّة.

وقد شكَّك الكثيرون في نتائج الدراسات، وإمكانيّة الربط المباشر بين التغيُّر المناخي ودَوره في إحداث نزاعات مسلّحة، ويُعزى غياب التوافُق في الآراء - جزئيّاً على الأقلّ - إلى اختلافاتٍ في التعريفات والمقاييس المُستخدمة في تشفير البيانات؛ مثل: ما الذي يُعتبر "نزاعاً"، وأيّ أنواع الهجرة يجري تضمينها، وكيف يُقاس تغيّر المناخ؟ كذلك فإنّ النتائج تعكس تعقيد المسألة؛ فتغيّر المناخ يمكن أن يؤثِّر بصورة مباشرة أو غير مباشرة على نشوب النّزاعات أو الهجرة من خلال آليّات سببيّة لا تُحصى تتضمّن عدداً كبيراً من المتغيّرات.

وعلى الرّغم من تبايُن وجهات النّظر بين الباحثين حول مدى قوّة العلاقة، إلّا أنّ هناك اتّفاقاً عامّاً على وجود علاقة (على أدنى تقدير) غير مباشرة بين التغيُّرات المناخيّة والصراع، وأنّ هذا التأثير يتصاعد ويبدو أكثر وضوحاً في حال توافُر عوامل أخرى مهيِّئة مثل الفقر، وانخفاض معدّلات التنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة، فالعلاقة بين التغيُّرات المناخيّة والصراع هي علاقة ارتباط وليست علاقة سببيّة.

تأثير النّزاعات المسلَّحة على ظاهرة التغيُّر المناخيّ

تتعرَّض البيئة الطبيعيّة في كثير من الأحيان للهجوم أو تلحق بها أضرارٌ مباشرة جرّاء النّزاع المسلَّح والصراع. ويُمكن أن تؤدّي الهجمات إلى تلوُّث المياه والتربة والأراضي، أو إطلاق الملوّثات في الهواء. ويُمكن أن تلوِّث المتفجّرات، النّاتجة عن مخلّفات الحرب، التربة، ومَصادر المياه، وأن تضرّ بالحياة البريّة، ما يحدّ هذا التدهور البيئي من قدرة الناس على الصمود والتكيُّف مع تغيُّر المناخ. ويُمكن أن تؤدّي الآثار غير المباشرة للنزاع إلى مزيدٍ من التدهور البيئي، وتكون السلطات أقلّ قدرة على إدارة البيئة وحمايتها؛ كما يضع النزوح واسع النطاق ضغطاً على المَوارد؛ وقد يُلجأ إلى استغلال الموارد الطبيعيّة للحفاظ على اقتصادات الحرب. ففي مدينة الفاو، جنوب البصرة في العراق، يلقي الناس باللّائمة عن مشكلات المياه والزراعة على قطع أشجار النخيل لأغراضٍ عسكريّة إبّان الحرب العراقيّة - الإيرانيّة. كما يُمكن أن يُسهِم النزاع أيضاً في تغيُّر المناخ؛ فيُمكن أن يكون لتدمير مساحات كبيرة من الغابات، أو الإضرار بالبنية التحتيّة مثل المنشآت النفطيّة أو المنشآت الصناعيّة الكبيرة، عواقب مناخيّة وخيمة، بما في ذلك إطلاق كمّيات كبيرة من الغازات الدفيئة في الهواء.

انعكاسات التغيُّر المناخيّ على النّزاعات المسلّحة

تؤثِّر التغيّرات المناخيّة من دون شكّ على الموارد الأساسيّة لأيّ دولة، ولاسيّما الغذاء والماء، وتُسهم هذه التأثيرات في زيادة هشاشة الدولة ومشكلات الأمن في العديد من المناطق حول العالَم، وقد أجملت الرؤى والتحليلات التي تناولت انعكاسات التغيّرات المناخيّة على الصراع في ثلاثة اتّجاهات رئيسة، تشمل:

1- العنف الداخليّ والصراعات الأهليّة: إنّ تأثير التغيُّر المناخي على المَوارد الطبيعيّة - مقترناً بالضغط الديموغرافي والاقتصادي والسياسي - يُسهم في تقويض قدرة الدول على تلبية احتياجات مواطنيها وتزويدهم بالمَوارد الأساسيّة مثل الغذاء، والمياه، والطّاقة وغيرها، وهشاشة الدول وتصاعد الصراعات الداخليّة التي قد تمتدّ إلى التسبُّب في انهيارها، ومن هنا قد يمثِّل التغيُّر المناخي تحدّياً خطيراً لاستقرار الدول وشرعيّة الحكومات.

وأشارت دراسةٌ أَجرتها مجموعة من الباحثين في العام 2009 حول العلاقة بين الاحترار ومَخاطر الصراعات الأهليّة في إفريقيا، إلى وجود علاقات تاريخيّة قويّة بين تصاعُد الحروب الأهليّة والاحترار في إفريقيا، فالسنوات التي شهدت معدّلاتٍ عالية من الاحترار عانت من زيادات كبيرة في احتمال نشوب الحروب.

2- خلْق بيئات حاضنة للإرهاب: غالباً ما تؤدّي تأثيرات الاحترار العالَمي إلى تغييرات جيوسياسيّة تبدو تأثيراتها بوضوح في حال حدوثها بالمناطق الهشّة مثل القرن الإفريقي؛ فيُمكن للمَخاطر المعقّدة النّاشئة عن تغيُّر المناخ والهشاشة والصراع أن تُسهم في ظهور التنظيمات الإرهابيّة ونموّها، وهو ما تُعزّزه النزاعات المُحيطة بالمَوارد الطبيعيّة وانعدام الأمن في الحصول على سُبل العيش، وتكاثُر التنظيمات الإرهابيّة، ومُمارسة نفوذها في ظلّ البيئات الهشّة والمتأثّرة بالصراع، حيث لا يصبح للدولة نفوذ وتفتقر إلى الشرعيّة، وفي بعض الأحيان تحاول التنظيمات الإرهابيّة سدّ الفجوة التي خلّفتها الدولة من خلال توفير الخدمات الأساسيّة من أجل الحصول على الشرعيّة، وتأمين الثقة والدعم بين السكّان المحليّين. ومع انعدام الأمن الغذائي أو ندرة المياه والأراضي، يصير السكّان أكثر عرضة ليس للتأثيرات المناخيّة السلبيّة فقط، ولكن أيضاً للتجنيد من قِبَل التنظيمات الإرهابيّة التي يُمكن أن توفِّر سُبلَ عَيشٍ بديلة وحوافز اقتصاديّة، وتستجيب للمظالم السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.

على سبيل المثال: فَتَحَ تزايدُ معدّلات ندرة المياه النّاجم عن التغيّرات المناخيّة المجالَ أمام استغلالها كسلاحٍ لدى التنظيمات الإرهابيّة في الصومال، فقد كشفتْ دراسةٌ أجراها "ماركوس كينج" في العام 2017 في جامعة جورج واشنطن، عن وضوح العلاقة بين المناخ والصراع وتسليح المياه، فنتيجة لما تعرَّضت له الصومال من جفافٍ مرتبط بتغيُّر المناخ، قام تنظيم "شباب المُجاهدين" بتغيير تكتيكاته القتاليّة التي كانت تعتمد على حروب العصابات، واتّجه نحو محاولة عزْل المُدن المحرَّرة عن مصادر المياه الخاصّة بها.

3- تزايُد مَخاطر النّزاعات المسلّحة: هناك اتّفاق حول انعكاسات التغيّرات المناخيّة على مستقبل الصراعات في العالَم؛ إلّا أنّ الخلاف هو حول حجْم هذا التأثير. وقد أشارت دراسة منشورة في مجلّة "نايتشر" في العام 2019، إلى أنّه مع ارتفاع درجات الحرارة العالَميّة، من المتوقَّع أن يزداد خطر النّزاع المسلَّح زيادةً كبيرةً، حيث توصَّلت الدراسة إلى أنّ المناخ قد أثّر على ما بين 3%، و20% من النّزاعات المسلّحة خلال القرن الماضي، ومن المرجّح أن يزداد التأثير بشكلٍ كبير في المُستقبل. ولم يصل الباحثون حتّى الآن إلى فهْمٍ شامل لتأثير التغيّرات المناخيّة على الصراع، وظروف هذا التأثير وملابساته، بخاصّة مع وجود احتمالات تغيُّر طبيعة تلك التأثيرات المناخيّة وشدّتها في المُستقبل مُقارنةً بالاضْطرابات المناخيّة التاريخيّة. ومن هنا اضطرار المُجتمعات إلى مُواجهة ظروف غير مسبوقة تتجاوز الخبرة المعروفة وما قد تكون قادرة على التكيُّف معه، وهو ما قد يُعظِّم من مخاطر التأثير في المُستقبل، ويفرض التزاماتٍ على مراكز الفكر ومُتّخذي القرار حيال وضع رؤية مستقبليّة قائمة على خطط وتحرّكات فوريّة للحدّ من التداعيات السلبيّة للتغيّرات المناخيّة وانعكاساتها على الأمن العالَمي.


*أستاذ اصول التربية المُساعد- جامعة الإسكندريّة - مؤسسة الفكر العربي