الحرب الاقتصاديّة وأمن الغذاء العربيّ

news image

 

عدنان كريمة*


مع احتمال أن تمتدّ الحربُ الروسيّة الأوكرانيّة التي مضى عليها نحو تسعة أشهر زمناً طويلاً، ومع احتمال توسُّع نطاقها، وتشديد عقوبات التحالُف الغربيّ الأميركيّ ضدّ روسيا، وخصوصاً بعدما وَصَفَها الرئيس فلاديمير بوتين بأنّها "حرب اقتصاديّة"، تستمرّ الحرب في زعْزَعَة الاقتصاد العالَميّ بأشكالٍ مُختلفة مع ارتفاع حجْم خسائره، نتيجة تكاليفها الكبيرة التي قدَّرها تقريرٌ لمنظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية بنحو 2.8 تريليون دولار بنهاية العام 2023؛ ومع ارتفاع أسعار الغاز في أوروبا أربع مرّات، وزيادة الأسعار عموماً في الأسواق العالَميّة، ولاسيّما أسعار الموادّ الغذائيّة بفعل تهديد سلاسل الإمداد، ما أدّى الى زيادة فاتورة استيراد الغذاء العالَميّة إلى 1.8 تريليون دولار للعام 2022؛ ما اضْطرَّ صندوق النقد الدوليّ إلى التحذير من أنّ 48 دولة مهدَّدة من تداعيات أزمة الغذاء العالَميّة، نصفها معرَّض للخطر، فضلاً عن معاناة 860 مليون شخص من الجوع، وبما يهدِّد الأمن الغذائيّ العالَميّ. ويشمل هذا التهديد "أمن الغذاء العربيّ"، حيث يُهدِّد شبح "الجوع" 141 مليوناً في الدول العربيّة.

"الأسوأ للاقتصاد العالَميّ لم يأتِ بعد". هذا ما أكَّده صندوق النقد الدولي في أحدث تقريرٍ له، موضِحاً: "أنّ العام المُقبل سيكون عامَ الكساد الاقتصادي. فأسعار الغذاء والطّاقة قد تشهد خلال الفترة المُقبلة صدماتٍ إضافيّة، بما يدفع معدّلات التضخُّم إلى تسجيل ارتفاعاتٍ إضافيّة. أمّا الضغوط النقديّة المُتزايدة، فستُطلق العنان لأزمة ديون في الأسواق الناشئة، نتيجة ارتفاع معدّلات الفوائد، ولذلك ستُواجِه الاقتصادات العالَميّة مخاطر التباطؤ أو حتّى الركود بالارتفاع، ما يجعل الاقتصاد العالمي يعيش أسوأ أيّامه منذ العام 2001".

جاء ذلك في وقتٍ تزداد فيه التحذيرات الدوليّة من أخطارِ المرحلة المُقبلة التي قد تمتدّ لسنواتٍ عدّة، نتيجة تداعيات الحرب الروسيّة الأوكرانيّة وخسائرها الكبيرة التي ستَنتج عن المتغيّرات المُرتقَبة، وحالات الإغلاق في الصين، وما تشهده سلاسل الإمدادات من اضْطراباتِ الركود التضخّمي وأضراره واحتمال ارتفاع حدَّتها، وهي ضربات شديدة موجَّهة إلى نموّ الاقتصاد العالَمي. ولذلك يرى رئيس مجموعة البنك الدولي "ديفيد مالباس" أنّه سيصعب على كثير من البلدان تجنُّب مخاطر الركود وتباطؤ النموّ الاقتصادي، ولاسيّما مع انخفاض الإنتاجيّة واستنزاف إمدادات الطاقة العالَميّة وارتفاع أسعار الفائدة. وتوقَّعَ "مالباس" أن تستمرّ تلك الأخطار إلى ما بعد العام 2023، مُرجِّحاً أن تسير الأمور في البلدان الناشئة "من سيّئٍ إلى أسوأ" حتّى لو استقرَّت أوضاع الاقتصادات المتقدّمة.

ووفق توقّعات البنك الدولي، يُرتقَب أن يتراجع نموّ الاقتصاد العالَمي من 5.7 في المئة في العام 2021 إلى 2.9 في المئة في العام 2022، على أن يتباطأ أكثر إلى 2.4 في المئة في العام 2023، قبل أن يتعافى إلى 3 في المئة في العام 2024. وكذلك يُرتقَب أن تزداد حدّة تباطؤ النموّ في الاقتصادات المتقدّمة من 5.1 في المئة في العام 2021 إلى 2.6 قي المئة في العام 2022، كما يُتوقَّع أن يزداد تراجُع النموّ ليصل إلى 2.2 في المئة في العام 2023، وهو ما يعكس إلى حدٍّ كبير مُواصَلة تقليص دعْم سياسة الماليّة العامّة والسياسة النقديّة الذي كان يُقدَّم خلال جائحة كورونا.

أمّا بالنسبة إلى الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، فيُتوقَّع أن ينخفض النموّ من 6.6 في المئة في العام 2021 إلى 3.4 في المئة في العام 2022، أي أقلّ بكثير من المتوسّط السنويّ البالغ 4.8 في المئة الذي ساد خلال الفترة من العام 2011 إلى 2019.

شَبَحُ الجوع

حذَّر برنامج الغذاء العالَمي ومنظّمة "الفاو" من أن تؤدّي الحرب في أوكرانيا إلى تفاقُم الجوع، وتحوُّل سلسلةٍ من أزمات الجوع الرهيبة إلى أزمة غذاء عالَميّة، لا يستطيع العالَم تحمُّلها، وخصوصاً مع ارتفاع أسعار الغذاء العالَميّة التي سجَّلت مستوياتٍ قياسيّة، منذ أن عَصفت هذه الحرب بأسواقِ الحبوب الأساسيّة وزيوت الطعام، وخيَّم شبحُ نقصِ إمدادات القمح على معظم دول العالَم. وجاء تحذير الأُمم المتّحدة من خطر المجاعة بمُوازاة اتّهام واشنطن لموسكو "باستخدام الجوع أداةً للحرب". مع الإشارة إلى أنّ الاضْطرابات التي سبَّبتها الحرب لتدفّقات الحبوب والأسمدة، أدَّت إلى أسوأ أزمة للأمن الغذائي منذ تلك التي أَعقبت الانهيار المالي العالَمي 2007 – 2008. ووفق تقريرٍ بحثيّ لصندوق النقد الدولي، تتعرَّض نحو 48 دولة لنقصٍ غذائي، وهي تواجه زيادة مجمّعة في فواتير وارداتها بقيمة 9 مليارات دولار في عامَي 2022 – 2023، بسبب القفزة المُفاجئة بالأسعار.

تبقى الضغوط التضخّميّة وارتفاع الأسعار في مختلف اقتصادات العالَم، التهديد الأكثر خطورة، بسبب دَورها في تقليص القدرة الشرائيّة للأجور وزيادة معدّلات الفقر، وتهديد الأمن الغذائي في الدول المُنخفضة الدخل؛ لكنّ التحدّي الأساسي يتركّز على كيفيّة حماية الفئات الأكثر هشاشة، وهو ما يلفت إليه التقرير الأُممي، في مقابل التحذير من السياسات التي يُمكن أن تترك عواقب وخيمة عليها، إذ إنّ محاولة ضبْط أسعار مصادر الطّاقة وفرْض سقوفٍ عليها، أو تأمين دعْمٍ لأسعارها بشكلٍ غير موجّه، أو حظر التصدير، كلّها إجراءات ستَفرض أكلافاً باهظة على الميزانيّات العامّة ونقص الإمدادات وسوء التوزيع، من دون أن تُحقِّق الغرض منها. في حين أنّ سياسة الماليّة العامّة يُفترض أن تستهدف حماية الفئات الأكثر هشاشة، من خلال الدَّعم المباشر والموجَّه، وصرف التحويلات إليهم.

الاقتصاد العربيّ

إذا كانت التوقّعات للاقتصادات الكبرى ستَشهد تباطؤاً في مستويات النموّ، فإنّ اقتصادات المنطقة العربيّة تنقسم إلى مسارَيْن: مسار الدول النفطيّة، وبخاصّة دول الخليج التي تأخذ مَنحىً إيجابيّاً، نظراً للإجراءات التي اتّخذتها خلال أزمة جائحة "كورونا" للمحافظة على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. ومع عودة الانتعاش للقطاعات غير النفطيّة في العام 2021، ارتفع معها سعر النفط، وارتفعت القدرة الإنتاجيّة والتصديريّة، ما أَسهَم في تعزيز النموّ. وقد ترافقَ ذلك مع ارتفاع مستويات الاحتياط، وانخفاض نِسب العجز في الموازنة، وتحقيق فوائض لدى بعض الدول، إضافة الى التحسُّن الكبير في حركة رؤوس الأموال.

أمّا المَسار الثاني، فهو يعود إلى الدول المُستورِدة للنفط، وهي تُعاني من ارتفاع الأسعار والدولار ومَخاطر الأزمة الغذائيّة، لارتباطها بالاستيراد من دولتَيْ روسيا وأوكرانيا. وستُحافِظ هذه الدول (في رأي جهاد أزعور مدير دائرة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد) على مستوياتِ نموٍّ معقولة في العام 2022، إلّا أنّ التحدّي الأساسي لها يتمثّل في مُواجَهة التضخُّم، ولاسيّما الدول التي تعاني من نسبة ديون مرتفعة. مع العلم أنّ صندوق النقد قدَّم أعلى نسبة تمويل للعديد من الدول العربيّة منذ عقود، فهو قدَّمَ لدول المنطقة خلال العامَيْن الماضيَيْن دعماً بنحو 50 مليار دولار، على مراحل عدّة لمُواجهة جائحة كورونا.

الأمن الغذائيّ

تُواجِه دولٌ عربيّة عدّة صعوباتٍ في تأمين الأمن الغذائي لشعوبها، وتُحذِّر منظّمة الأغذية والزراعة الدوليّة التّابعة للأُمم المتّحدة "الفاو" من تداعيات الأزمة القائمة بأنّها ستكون طويلة الأمد، داعيةً الى إجراء تغييرات جذريّة في أنظمة الأغذية الزراعيّة في المنطقة العربيّة لتوفير الأمن الغذائي والتغذية للجميع، حيث يستمرّ الجوع في العالَم العربي بالارتفاع، مع زيادةٍ بنسبة 91 في المئة منذ العام 2000..

ومن الطبيعي أن يُربِك ارتفاعُ مؤشِّر أسعار الأغذية في السوق الدوليّة حسابات حكومات الدول لعربيّة، فهي أكبر مُستورِدي الغذاء في العالَم، وتعاني من ارتفاع فاتورة استيراد الأغذية التي تبلغ سنويّاً أكثر من 100 مليار دولار، وتشمل 63 في المئة من احتياجاتها من القمح، و75 في المئة من الذرة، و55 في المئة من الأرزّ، و65 في المئة من السكّر، و55 في المئة من الزيوت النباتيّة، وذلك وفق "تقرير أوضاع الأمن الغذائي العربي" الصادر عن المنظّمة العربيّة للتنمية الزراعيّة. وقد حذَّرت الأُمم المتّحدة من احتمال تدهور انعدام الأمن الغذائي في 20 دولة اعتبرتها "بؤر الجوع الساخنة"، بينها 5 دول عربيّة هي: سوريا، السودان، اليمن، الصومال، لبنان. وفي المقابل تتصدَّر دولُ الخليج: الإمارات وقطر والكويت والسعوديّة والبحرين وعُمان، بياناتِ مؤشِّر الأمن الغذائي العالَمي عربيّاً.

*كاتب ومُحلِّل اقتصادي من لبنان - مؤسسة الفكر العربي