كرامة النبات
وفاء البوعيسي*
تُعدّ النباتات أكثر الكائنات الحيّة وجوداً في الطبيعة، كونها قادرة على العيش في أيّ مكان أو وسط أيّ مناخ؛ فهي، مثلاً، تحيا في السهول والجبال، كما في أشدّ الأماكن الطاردة للحياة، كالصحاري القائظة فوق العادة، وفي القطبَيْن الشماليّ والجنوبيّ، اللّذَيْن يغطّيهما الجليد السميك على مدياتٍ تكاد لا تُحدّ. ومن هنا جاءت وفرتها وتنوّعها وانتشارها الهائل، ما جَعَلَها الغذاءَ الرئيس لمُختلف الكائنات الحيّة: من بَشَرٍ وحيوانٍ وزواحفَ وطيورٍ وأسماكٍ وفطريّات، وحتّى تلك الكائنات التي لا تُرى إلّا بالمجهر كالجراثيم أو البكتيريّات والفيروسات؛ في الوقت الذي تكتفي هي فيه بالتُّربة، تمتصّ منها الماء والعناصر الغذائيّة والمعادن، وتُمارِس في الوقت نفسه التمثيل الضوئي (التمثيل الكلوروفيلي) في هدوء لتوجِد الأساسَ الحيويّ لتغذية الجميع، وتُطلق الأوكسجين في سماء الكوكب. وربّما لهذا السبب فضَّل الإنسان "تاريخيّاً" العيشَ بين النباتات لا بين الحيوانات، وخصوصاً المُفترسة منها.
لكنّ نقص معرفة الإنسان بآليّة عمل النباتات في الطبيعة، وقلّة حركتها وصمتها والتشابه العامّ في سطحها وقوامها، وكونها غير مفترسة (إلّا في ما ندر) ومستقلّة بنفسها، هو ما خَلَقَ ظاهرة عمى النبات بين البشر.
إنّ تهميش النبات وإخراجه من دائرة التفضيل التي اعترف بها البشر للحيوانات، واستتباعاتها القانونيّة باحترام حقّها في الحياة والتطوّر وحمايتها من الانقراض والرفق بها، إنّما تنبع من فكرة مركزيّة الإنسان وعلوّه على الطبيعة، وتحيُّزه الفسيولوجي لنفسه أوّلاً، ثمّ للحيوان، الأمر الذي حال دون منْحِه الاعتبار الأخلاقي، حتّى ظهرت في كلّ مكان أزمةٌ بيئيّة بشريّة المنشأ، تمثّلت في تدمير النُّظم البيئيّة فجلَبت التلوّث للتربة والماء والهواء، والاحتباس الحراري وانقراض فصائل من الحيوانات والنباتات وتراجُع الغابات، عدا عن الجفاف وتقلُّص الموارد الغذائيّة لجميع الكائنات، فظهر الترويج لحلٍّ هو نفسه كارثة مُمثَّلاً في تكنولوجيا تحرير الجينيوم النباتي عبر التدخُّل في تركيبته الداخليّة بتغيير خصائصه أو إضافة خصّيصةٍ جديدة على طبيعته، بما يُحسّن قليلاً من تبعات تلك الأزمة، ما دفع ببعض المُختصّين للاعتراض، وكانت سويسرا الدولة الأولى التي اعترفت للنبات بالكينونة الجديرة بالكرامة، وحرّمت في دستورها التدخُّل في جيناته أو التعديل فيها، ثمّ تبعتها الإكوادور وبوليفيا اللّتان مَنَحَتا الطبيعة والأنهار حقوقاً في دستورها (Buen Vivir: The Rights of Nature in Bolivia and Ecuador).
ذكيّة وعصيّة على الإحاطة
أُسيء فهْمُ صمتِ النباتات لقرونٍ طويلة، حتّى ساد اعتقادٌ بأنّها مجرّد "أشياء" عاطلة، سلبيّة وخاضعة لإكراهات بيئتها، لكنّ الحقيقة أنّها كائناتٌ صاخبة، شرهة للحياة وعنيدة، فقد عرفت التطوّر على مدى ثلاثة مليارات سنة، كافحت خلالها من أجل البقاء والتواصل حتّى صمدت إلى اليوم (Florianne Koechlin and seven other authors, Rheinauer Theses on the Rights of Plants, 2008).
وعلماء النبات اليوم يعتبرون النبات كائناً حيّاً للغاية وذكيّاً للغاية، وذلك لقدرته الملحوظة على مُواجَهة ظروفٍ شديدة التنافُس أو تهديداً قاتلاً فيُضْطرّ للتعديل من سلوكه لتحسين فرصة بقائه على قَيد الحياة. وتُوصَف الخلايا المكوّنة له بأنّها شديدة التعقيد، لأنّها تُظهر أربع خصائص: الارتباط بالتربة، والترابط مع نوعها، والتكيُّف مع الظروف، والتنوُّع. حتّى أنّ كلّ نبتة تتذكّر الاختلافات في الزمان والمكان في بيئتها في ما يخصّ الضوء والجاذبيّة حدّ أنّها قادرةٌ تماماً على إنتاج صورة لتوزيع الضوء في المكان وتوزيع المعادن في التربة وبنية التربة نفسها والمناطق الانتقائيّة للأضرار العشبيّة المتطفّلة. كما أنّها قادرة على تذكُّر كلّ تلك الصور تحسّباً لاستجابةٍ لاحقة في المستقبل، وهذا يعني أنّ سلوك النبات، إنّما هو هادفٌ وموجَّه تماماً نحو غايته (Paco Calvo and four other authors, Plants are intelligent, here’s how).
أمّا متطلّبات الظروف التي تُعبِّر عن ذكاء النباتات، فيتحقّق في بيئتها الطبيعيّة لا بالمُختبرات. فالأولى توفِّر فرصةَ تفاعُلِ العديد من العوامل التي يتمّ اختبارها معاً وتؤدّي إلى تطوّر النبتة، ومنها الماء والضوء والرياح وتعقيدات المحيط ومعظمها ليست ثابتة، على عكس بيئة المُختبر التي تخضع لظروفٍ ثابتة في الحرارة والضوء والأصوات والتغذية.
وفي البيئة الطبيعيّة يُمكن للمُنافَسة الشرسة على الموارد والضوء أن تُهدّد بقاء النبات ما يتطلّب تقييماً داخليّاً للموقف باستمرار، وهنا بالذات تُدرِك النبتةُ الهويّةَ المُحتمَلة للجيران المُنافسين، وبالتالي اختيار الاستجابة الأكثر ملاءمةً في كلّ مرّة بالاعتماد على عوامل: الحدّة المتغيّرة للضوء، واتّجاهه، وتركيز الموادّ الكيميائيّة التي تُفرزها الجذور في التربة، والمعلومات التي تأتي من شبكة الفطريّات المُحيطة، أمّا الاستجابة فتتراوح بين المُواجَهة والتسامُح (المرجع السابق).
ولأنّ النباتات لا تملك امتياز الفرار لدى تعرّضها للخطر، فهي تعرف جيّداً كيف تضع بعض الاستراتيجيّات في تعاملها مع آخرين تحت الأرض وفوقها، كنباتاتٍ أخرى صديقة أو عدوّة، وبكتيريا أو حيوانات، وذلك عبر نَسْجِ شبكةٍ ديناميكيّة من التفاعُلات بحركاتٍ محسوبة ذهاباً وإيّاباً بين الانفتاح على البيئة أو الانسحاب مرّة أخرى إلى نفسها، كما أنّها قد تلجأ لخيارِ تجنُّب المُواجَهة (Florianne Koechlin, Rheinauer Theses on the Rights of Plants).
أمّا كيف يستقبل النبات الإشارات من البيئة، ويفهمها، ويُعيد صياغة المعلومات وصولاً إلى حلّ، وثمّ تنفيذه، فهو أمرٌ محيّرٌ للغاية حاول عِلم "البيولوجيا العصبيّة النباتيّة" تقديم تصوُّرٍ له. ويَعتقد المختصّون أنّه وإن لم يكُن للنبات دماغ، إلّا أنّ لديه مئات الآلاف من الكيانات الدقيقة التي تُشبه الدماغ، وتُشارِك في إنتاج الذكاء الذي تتحلّى به النبتة، وتسمّى Meristem، وهي توجد عند أطراف الجذور والبراعم المُرتبطة بالخيوط الوعائيّة القادرة على تسجيل الإرشادات الجزيئيّة والكهربائيّة المعقّدة، ويُماثِل هذا المكافئ النباتي الجهاز العصبي الموجود في الدماغ؛ كما تحتوي كلّ قمّة جذر على وحداتٍ عصبيّة، وكلّ تلك الوحدات مترابطة عبر خيوطٍ هي الخلايا النباتيّة. ويُعتقد أيضاً أنّ حركة الـ Meristems الدائبة، إنّما هي للسماح بنقْلِ المعلومات إلى مختلف أنحاء النبتة، بما يمنحها كامل القدرة على البقاء (Matthew Hall).
وفقاً لهذه النتائج التي كَشَفَ عنها عِلم بيولوجيا النبات، فقد بات واضحاً أنّ النباتات تتفاعل مع ظروف بيئتها على نحوٍ مناسبٍ للغاية، وهي قادرةٌ على الاختيار بين احتمالاتٍ عدّة، وهي تختار ما في مصلحتها دائماً، ما يدفع إلى السؤال الذي بات ضروريّاً اليوم وهو: ألَم يَئن الأوان بعد للاعتراف بحقوق النبات وقيمته بمنأىً عن المصالح البشريّة المتعلّقة به، وأنّ هذه القيمة تفرض احترامه لمصلحته هو، لا لكونه مفيداً للإنسان كطعامٍ أو متعة بصريّة؟
صار للنبات صوتٌ مسموع في سويسرا، إذ فَرَضَ له الدستور حقوقاً قانونيّة على العلماء والشركات والمُزارِعين، تمنع التدخُّل في جيناته وتُحرِّم اعتباره موضوعاً لبراءات الاختراع، فالنبات ليس اختراعاً طارئاً من قِبَلِ إنسان، بل هو مكوّنٌ قديم من مكوّنات الطبيعة الحيّة. لكنّ هذا الموقف التقدّمي لم يمرّ بسهولة، فقد استغرق الأمر دَورةً برلمانيةً كاملة، عَرفت الكثير من الاستهجان والسخرية والانقسام بين الكتل المحافظة من اللّاهوتيّين والنيوليبراليّين، في مُقابل اللّيبراليّين والمُدافعين عن البيئة حتّى جرى أخيراً إقراره ضمن المادّة 120 في الدستور الصادر سنة 1992.
لا يَعرف كثيرون أنّ إقرارَ المادّة المذكورة، سببها أزمة سادت في عقد الثمانينيّات من القرن الماضي، دارت فيها مناقشات مطوّلة حول مخاطر الهندسة الوراثيّة، مع ذيوع التخصيب في المُختبرات وظهور تجارب الاستنساخ على حيوانات، فقدّمت مجلّة Consumer Magazine مُقترحاً للبرلمان تلتمس فيه وضْعَ قيودٍ صارمة وملموسة للحدّ من استعمال الهندسة الوراثيّة في عموم الكائنات الحيّة، وقد قُدِّر لهذا المُقترح أن يقود للاعتراف بالكرامة للنبات وعدم التدخّل في جيناته (James Toomey, Constitutionalizing Nature's Law: Dignity and the Regulation of Biotechnology in Switzerland).
لكن قبل ذلك عندما انعقدت الهيئة التشريعيّة وعَرضت المُقترح على البرلمان متضمّناً عبارة "كرامة الكائنات الحيّة"، مصحوبةً بحُكمٍ يُحدّ من التقنيّات الوراثيّة في الكائنات الأخرى على أساسٍ موازٍ لكرامة الإنسان، اندلعَ ما يُعدّ أطول وأشرس حوار إشكالي عرفه برلمان أوروبي، وقد شمل الجدل اقتراح الهيئة التشريعيّة ومشروع لجنة الأخلاق الفيدراليّة المكلَّفة بوضْعِ قانونٍ يضمن احترام النبات، وهذا الجدل لا يزال مستمرّاً حتّى اليوم، محليّاً وعالميّاً.
من ناحية اعتُبر القانون غير معقول، ومن الصعوبة الامتثال له في زمن العلوم والاكتشافات التي تستوجب إجراء التجارب العلميّة بهدف تحسين جودة الحياة، فضلاً عن عدم اليقين المحيط بمتطلّباته (?Shawn H.E. Harmon, Of plants and people. Why do we care about dignity). كما أنّ مفهوم الكرامة، إنّما يشير إلى الاستقلاليّة الفرديّة للإنسان أكثر من كونه يتعلّق بالمُجتمع والبيئة، وإلصاق لفظ الكرامة بالنبات ما هو إلّا شطحٌ بلاغيٌّ فارغ لإيديولوجيا ليبراليّة ذهبت أبعد من اللّازم في كراهيّتها للشيوعيّة وكان بالوسع اللّجوء للمؤسّسات المعنيَّة بالنبات لحمايتها من أيّ ضرر (المرجع السابق).
ومن ناحية أخرى استنكرت المجاميع المُحافِظة من اللّاهوتيّين، وبعض عُلماء النبات، فكرة مساواة النبات مع البشر في الكرامة، فالكرامة صفة حصريّة بالإنسان والبشر، بزعم أنّهم أقرب إلى الملائكة من الحيوانات، ناهيك بالنبات، ولو كان الأمر عكس ذلك، لكان على النباتات الجيّدة أن تذهب إلى الجنّة (Jack Handey, The Dignity of Plants)، وتمسّكت المجاميع تلك بأنّ النباتات ليست جزءاً من المُجتمع الأخلاقي، لأنّها لا تفي بشروط الانتماء إليه، ومنها ضرورة تمتّعها بالوعي والإحساس والجهاز العصبي، الأمر الذي لم تستطع الأبحاث العلميّة إثباته أو نفيه (المرجع السابق).
كما اصطدمت المجاميع اللّاهوتيّة بلجنة الأخلاق الفيدراليّة السويسريّة، حين قدّمت الأخيرة رؤيتها العلميّة عن ذكاء النبات وقدرته على التكيُّف والعيش، وأنّه جزءٌ لا يتجزّأ من نظامٍ بيئي حيّ شديد التفاعُل ومُترابِط بعضه ببعض، فالإنسان يُشارك جميع الكائنات الأخرى عدداً من الجينات وظروف التطوّر التي عرفها كوكب الأرض، ما يعني أنّ جميع أشكال الحياة لها القيمة نفسها بشكلٍ متساو،ٍ والبشر ليسوا مركز الكون بعد الآن (Wesley J, Smith ,The Dignity Of Living Beings With Regard To Plants). لكن كان هذا أكثر ممّا يُمكن احتماله من قِبل اللّاهوتيّين، أن يُنحّى الإنسان هكذا أمامهم عن عرشه في الكون من قِبل داروينيّين ماديّين، بزعم أنّه لا يوجد أيّ تمييز بين الكائنات، لأنّها جميعاً تشترك في عددٍ من الجينات، أو حتّى على المستوى الجزيئي والخلوي، ما يعطيهم الحقّ في مساواة النباتات بالبشر (المرجع السابق). فأن يُبطِل المرء شخصيّته بوصفه جذر الكرامة ومحورها الوحيد تقديماً للطبيعة، لهو عَرَضٌ من أعراض مرض كره الإنسان الذي لوحظ مؤخّراً، والميل إلى رفع الحيوانات والنباتات إلى مرتبة البشر، فضلاً عن إضفاء الطابع الرومانسي الساذج وغير المنطقي على الطبيعة، ولا يعني هذا كلّه إلّا قصد التقليل من إدراك الإنسان لنفسه لتبرز أخيراً المُفارَقة المريرة: عِوض المجادلة بوجوب التدخُّل في النبات لمساعدة البشر، نُجبِر العِلم على تفادي ذلك مساعدةً للنبات (Wesley J, Smith, The Harm Caused By Declaring Plant Dignity).
كما سخر من المبدأ مهتمّون بحقوق الإنسان، موجّهين نظر الجميع إلى تلكّؤ المجتمع الدولي في الاعتراف بالمسؤوليّة الجماعيّة عن التقصير في حماية كرامة الإنسان، ناهيك بمؤسّسات أخرى مثل الأُمم المتّحدة والحكومات المحليّة والأجنبيّة والمجاميع المسلّحة، إذ يعدّونها جميعاً المسؤول الأكبر عن هَدْرِ كرامة ملايين البشر بالإهانة والأفعال الوحشيّة (Shawn H.E. Harmon).
والحقيقة أنّ منشأ الجدل كلّه كان أنّ الهيئة التشريعيّة ولجنة الأخلاق لاحقاً لم يقدِّما من منظورٍ أخلاقي تجسيداً واضحاً للمصطلح الصادم وغير المسبوق "كرامة الكائنات الحيّة"، فظهرت الأسئلة حول المطلوب فعله بالضبط لتفادي جَرْح كرامة النبات: هل يجب على البشر التوقُّف عن أكْلِ النباتات تحرُّجاً من أكلِ كرامتها أيضاً؟ هل تَحزن النباتات عند تشذيب أغصانها؟ وهل تشعر الشجرة بالإذلال حين تُجسَّد على شكل إنسان؟ هل تحقد علينا البطاطا عند نزْعِ جلدها وسلْقها في الماء؟ وما مصير النباتيّين أصحاب القلوب المُرهفة، ألا يجدر بهم التوقّف عن تناوُل النباتات احتراماً لكرامتها؟ ما مستقبل الصناعات الغذائيّة؟ وتحت أيّ ظرف من الظروف يجب أن تنمو الطماطم؟
لقد توسّعت الأسئلة الوجوديّة والعلميّة الصعبة في البرلمان وخارجه، وأغرقت النُكات الشارع السويسري والعالَم كلّه، وبحلول عيد الميلاد، ومع اقتلاع الأشجار وتزيينها، وصلتْ رسالة من أميركا تقول: "هذا "إذلال" للأشجار بمعناه المجازي" (Jack Handey).
لكن كان على الحوار أن يهدأ وأن يُركِّز المتحاورون على مسألتَيْن: كيف نستهلك النباتات مع الوضع الوجودي والمعنوي الجديد لها؟والأخرى إعادة التفكير في علاقة إنسان اليوم بالنبات، وهل يجوز أخلاقيّاً أن يُخضعه للاستغلال الكامل بزعم عدم امتلاكه وعياً أو جهازاً عصبيّاً؟
المعضلة الأولى
لا ينبغي أن تؤخذ الاستنتاجات الجديدة عن حجْمِ معرفة النبات وإسهامه في استمرار جميع الكائنات بالحياة على أنّها محفّزاتٌ لليأس والشعور بالإثم لأكله. إنّ أكْل الآخرين من أجل العيش، هو الواقع الثابت للوجود الحيواني والبشري والبكتيري، والنبات هو المقصود دائماً بهذه المُمارسة الشنيعة التي لا يوقفها شيء عند الإنسان، إلّا التعاليم الدينيّة عبر الصيام تماهياً مع الملائكة، لكنّها تظلّ مُحاكاةً استثنائيّة ليعود بعدها قانون الضرورة، إنّه الافتراس. فهل يُسيء الافتراس البشريّ للنباتات ويجرح كرامتها؟
خطأ كبير اعتبار السؤال عدميّاً، وخطأ أكبر اعتباره دعوة لفقدان الشهيّة الجماعي، وذلك لإشكاليّة العنف المتأصّل في مجرّد الوجود نفسه. فالإنسان كغيره من الكائنات، لا يفتأ يحرق الأوكسجين، ويقتل الحشرات في سَيره على الأرض، ويُقاوم البكتيريا الضعيفة، لكنّ المتعة الحقيقيّة في فعل الأكل عبر القرارات الواعية المُحيطة بما نأكله، تعني ببساطة أنّ تلكم الأفعال بعيدةٌ عن محض التزوُّد بالوقود شبه الميكانيكي للكائن الحيّ، إنّها معرفة قدرتنا على استخلاص العناصر الغذائيّة التي تُبقينا على قَيد الحياة من الطعام، وهي بالذات ما يتشاركه البشر مع الحيوانات والنباتات وحتّى البكتيريا، إنّها القدرة التغذويّة بأثر النبات فينا عبر روحه الخُضَرية (?Michael Marder, Is It Ethical to Eat Plants)، ولعلّ أعظم ما في تناول النبات من فائدة، أنّه هو نفسه ممرٌّ للآخرين من باقي الكائنات التي تتغذّى عليه، وأنّ الأخرين ممرٌّ له هو نفسه في دائرةٍ متّسعة من العناصر المُغذّية تبدأ بالنبات وتنتهي به.
المعضلة الثانية
''الكائن الحيّ غير البشري" يتمتّع بقيمةٍ متأصّلة فيه، وهي قيمةٌ ذاتيّة تخصّه، بغضّ النّظر عن فائدته لأيّ شخص أو لأيّ شي. وبهذا يستحقّ أيّ كائن حيّ مكانةً أخلاقيّة وحصانة من التدخُّل في تكوينه لفائدة غيره (James Toomey). لكن عندما أُجريت مُقارَنة بين كرامة الإنسان وكرامة الكائن الحيّ وأخلاقيّة كلّ منهما في الدستور، وفي لجنة الأخلاق، اعتُبرت كرامة الإنسان مصونة وكرامة الكائن الحيّ تخضع للتوازن مع المصالح الإنسانيّة، بمعنى آخر عند موازنة المصالح مقابل الكرامة، يجب تقديم مصالح الإنسان (المرجع السابق).
أمّا فكرة الاختيار بين احترام النبات والقضاء على الجوع العالَمي عبر التدخُّل في جينومه، فهي فكرةٌ خطرة، فذلك تُحدّده اعتباراتٌ إيديولوجيّة من قِبل الرأسماليّة الزراعيّة التي أضرّت بأشكال الحياة غير البشريّة؛ ومن هنا فلا يُمكننا تصوُّر استمرار النضال من أجل التحرّر البشري من وحشيّة الحاجات الماديّة مع تجاهُل محنة الكائنات غير البشريّة التي لا قيمة لها في منطق رأس المال وخارج أسعار السلع التي يحوّلونها إليها كلّ يوم.
وعطفاً على القيمة المتأصّلة في النبات، فعلم الوجود النباتي يُخبرنا أنّ النباتات لا توجد من أجل الاستمتاع والاستهلاك البشري ولا من أجل أيّ شيء آخر هي فقط وُجِدت لنفسها، لكن بما أنّ النبات كان كريماً معنا لعصور فيجب علينا أن نَضع حدوداً على زراعته بعدم تحرير جينومه بهدف تغيير خصائصه الطبيعيّة لمصلحة البشر (Michael Marder)، كالحدّ من تناسله المُستمرّ أو تغيير لونه أو مذاقه أو التدخّل في عمره طولاً وقصراً أو دمْجه بنباتٍ آخر أو تشكيله على نحوٍ يُخالف شكله الطبيعي...إلخ. والحلّ ليس في تحرير الجينيوم النباتي لستْرِ أخطاء العابثين بالبيئة ومَنْحهم المزيد من الأموال؛ لأنّ العبث لن يتوقّف، بل تحرير النبات من جَشَعِهم عبر مُقاطَعة سلعهم المحوَّرة التي لم تعُد تنتمي إلى البيئة الطبيعيّة، بل إلى المُختبرات الصناعيّة وفرْض غرامات وعقوبات جنائيّة أخرى على مَن يفعل ذلك.
أمّا خلاصة ما انتهى إليه "قانون الهندسة الوراثيّة GTA" بعد 11 عاماً على صدور الدستور:
1- يُعدّ التعديل الجينيّ عموماً انتهاكاً للكرامة، والتعديلات الوراثيّة على الحيوان والنبات التي لها تأثيرات نمطيّة تُعدّ كذلك انتهاكاً لكرامة الكائنات الحيّة غير البشريّة.
2- وجود خطٍّ فاصل بين الحيوان والنبات من منظور الكرامة، مع وجوب مُراعاة الفوارق بينهما، جنباً إلى جنب مع حقيقة وجود قانون لرعاية الحيوان، بينما لا يوجد قانون لرعاية النبات.
3- يدعم GTA وجود تسلسل هرمي للكرامة في سويسرا، إذ تتمتّع الحيوانات بكرامة أكبر من النباتات؛ في حين تُقدّم كرامة الإنسان على الجميع.
4- في مُوازنة المصالح البشريّة، مقابل كرامة الكائن الحيّ، يقع التقييم وفقَاً لكلّ حالةٍ على حدة، مع تقييم الضَّرر الذي يتعرّض له الحيوان أو النبات، وفي تقييم المصالح، يؤخَذ في الاعتبار: مصلحة الإنسان والحيوان، ضمان الغذاء الغذائي، الحدّ من الضرر اللّاحق بالبيئة، تأمين فوائد اقتصاديّة أو اجتماعيّة أو بيئيّة كبيرة للمُجتمع.
5- حظْر زراعة المحاصيل المعدَّلة وراثيّاً والمُعدَّة للاستهلاك البشري في قطع الأراضي الصغيرة المميّزة للرعي السويسري، باعتباره انتهاكاً لمبادئ GTA
(James Toome).
تمتنع الحكومات السويسريّة كليّاً عن استيراد المحاصيل المعدَّلة وراثيّاً في أيّ مرحلة من مراحل الإنتاج، احتراماً للنظام القانوني الذي رسَّخ مبدأ كرامة النبات، ودافَع عنها لسنوات؛ والشعب السويسري يُدرك اليوم مسؤوليّته الأخلاقيّة تجاه الكائنات الحيّة غير البشريّة؛ كما جاء في ديباجة دستور العام 1999 المعدَّل؛ وفي هذا إشارةٌ بالغة النبُل لتواضُع الشعب السويسري أمام الكائنات الأقلّ منه ذكاءً أو وعياً، مُنطلقه في ذلك نظرته إلى العالَم، حيث النظام الطبيعي فيه ذو قيمةٍ أخلاقيّة في ذاته؛ وما مفهوم كرامة الإنسان وكرامة الكائنات الحيّة غير البشرية إلّا جزءٌ من ذلك النظام (المرجع السابق).
*كاتبة وروائيّة من ليبيا - مؤسسة الفكر العربي