العودةُ إلى التعاون مع روسيا أو الانهيار الاقتصادي.. الأزمة الاقتصادية الأوروبية تَضَعُ القّارّة أمام خياراتٍ صَعبة
تقرير - مروة شاهين - بث:
حذّر الخبراء الاقتصاديون و المؤسسات المالية و الاقتصادية حول العالم من تداعيات مدمرة للحرب الروسية الأوكرانية و أزمة الطاقة العالمية على اقتصادات أوروبا، إذ تعتبر القارة الأوروبية من أكبر المتضررين من تداعيات الحرب في الأوكرانية.
و تُشير التوقعات الاقتصادية للربع الرابع من العام ٢٠٢٢ و العام ٢٠٢٣ إلى حدوث ركود حادٍ و انخفاض كبير في معدلات النمو الاقتصادي في الاقتصاد الأوروبي، عدا عن التوقعات الخطيرة بالارتفاع غير المسبوق في معدلات التضخم الاقتصادي و ارتفاع أسعار الطاقة و الغذاء بشكل جنونيّ مما يشير إلى أن تشهد أوروبا أكبر أزمة اقتصادية منذ الحرب العالمية الثانية.
بريطانيا تعاني من نزيفٍ اقتصادي و تواجه مخاطر تضخّمٍ غير مسبوق:
إذ حذّر بنك إنكلترا من أنّ بريطانيا تتجه إلى ركود طويل سيبدأ من الربع الرابع في العام الجاري، ويستمر طوال العام المقبل، وهو ما يعتبر أطول ركود تخوضه الدولة منذ الأزمة العالمية.
وعلى الرغم من مخاوف الركود، فإن بنك إنكلترا رفع معدل الفائدة بنصف نقطة مئوية، يوم الخميس الماضي، بأعلى زيادة منذ العام 1995، من أجل كبح التضخم المتفاقم.
ولفتت المعلومات المتداولة في وسائل الإعلام البريطانية إلى أنّ نتيجة أزمة الطاقة الناتجة من ارتفاع الأسعار ونقص الإمدادات، وسط العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، فإنه من المتوقع ارتفاع سقف فواتير الكهرباء بالنسبة إلى المستهلكين 75%، في تشرين الأول/أكتوبر، وهو ما قد يدفع ملايين الأسر إلى حافة الفقر.
وهذا ما ذكره أيضاً تحليل لوكالة بلومبيرغ الاقتصادية الأميركية جاء فيه أنّ الاقتصاد البريطاني لا يزال يتجه نحو الركود، وفقاً لتوقعات بنك إنكلترا.
وأوضح التقرير أنّ التخفيضات الضريبية المقترحة، التي تقدر بنحو 39 مليار جنيه استرليني، قد تقلل من حدة الركود الاقتصادي المحتمل، ولكن الاقتصاد البريطاني سيظل أقل مما هو عليه الآن، وذلك على الرغم من تصريحات المرشحة لرئاسة وزراء بريطانيا بأنّ الركود الاقتصادي ليس حتمياً.
بالتزامن، أدلى أندرو بايلي، محافظ بنك إنكلترا، بتصريحات تضمنت التأكيد على أنّ بنك إنكلترا لديه تفويض واضح للغاية بشأن استقرار الأسعار، وبأن تداعيات الإجراءات الروسية في أوكرانيا لها تأثير اقتصادي خطر، وأن الضغوط التضخمية على المدى القريب تزايدات بشكل ملحوظ، وأنّ حالة عدم اليقين التي تحيط بالتوقعات عالية بشكل استثنائي وأنّ الاقتصاد البريطاني قد يعاني من ركود قريباً.
توقعاتٌ قاتِمة لصندوق النقد الدولي عن الاقتصاد البريطاني:
وكان صندوق النقد الدولي حذر، الشهر الماضي، من أنّ المملكة المتحدة تستعد لأبطأ نمو لأغنى اقتصادات مجموعة السبع، في العام 2023.
ويتوقع أن يرتفع التضخم، الذي يرصد تغير تكاليف الحياة مع الوقت، ليبلغ 11.3 في المئة قبل نهاية السنة في المملكة المتحدة، وفقا لأحدث تقرير للصندوق حول توقعات مسار الاقتصاد العالمي.
ويتوقع أيضا أن يتجمد النمو الاقتصادي في المملكة المتحدة تقريبا عند نسبة 0.3 في المئة.
هذا يعني انخفاضا بقيمة 0.2 عن تنبؤ صندوق النقد في شهر يوليو/تموز، وهبوطا حادا من نسبة 3.6 في المئة المتوقعة للنمو في المملكة المتحدة عام 2022.
وكان البيان صريحا بشكل غير معتاد من صندوق النقد الدولي الذي يسعى لاستقرار الاقتصاد العالمي، وإحدى أهم مهامه أن يتخذ خطوات بناء على نظام إنذار مبكر.
وجاء في البيان أن الصندوق واع لرغبة الحكومة بتحفيز الاقتصاد، لكن التخفيضات الضريبية قد تؤدي إلى رفع الأسعار التي يحاول البنك المركزي تخفيضها.
وجاء في تقرير لمؤسسة بيير أوليفييه كورنتشاس للاستشارات الاقتصادية أنه "بينما تتجمع الغيوم على صانعي السياسة أن يتحلوا بالثبات"، و أورد التقرير أن أكبر حزمة تخفيضات ضريبية على مدى 50 عاما التي عرضها وزير الخزانة سوف تتسبب بنمو مؤقت للاقتصاد، بالرغم من الارتباك الذي سببته في الأسواق المالية، وأضاف أنها ستجعل الكفاح ضد التضخم صعبا.
وحذر صندوق النقد الدولي من أن على الحكومات أن تحمي الفئات ذات الأوضاع الاقتصادية الهشة من تأثير ارتفاع الأسعار.
وتنفق العائلات الفقيرة أكثر على الغذاء والتدفئة والوقود، كما جاء في تقرير البنك، وهي المجالات التي شهدت ارتفاعا حادا في التكاليف، حيث فرضت قيود على استيراد الطاقة والحبوب بتأثير الأزمة في أوكرانيا.
وسيكون تأثير الأزمة على البلدان التي تعتمد على الغاز الروسي أشد ، حيث يتوقع أن ينكمش الاقتصاد الألماني العام القادم.
انهياراتٌ مُتتالية للجنيه الإسترليني و الحكومة البريطانية تُكافح للحفاظ على استقرار أسعار الصرف:
وفي السياق، انخفض الجنيه الإسترليني إلى أدنى مستوى له عند 1.1565 دولار هذا الصباح، حيث تلحق أزمة الطاقة الضرر بالشركات والمستهلكين، مما يؤثر سلباً على التوقعات الاقتصادية لبريطانيا. وسجل الجنيه الإسترليني أسوأ شهر له مقابل الدولار، منذ أكتوبر/تشرين الأول 2016.
وأدت المخاوف من أن تتجه بريطانيا إلى الركود إلى انخفاض الجنيه الإسترليني بنسبة 4.5% مقابل الدولار خلال شهر أغسطس/آب. ويواصل الدولار قوته، حيث تعهد البنك المركزي الأميركي بمواصلة رفع أسعار الفائدة.
وشهدت مصانع بريطانيا انعكاساً حاداً في الطلبات الجديدة، مع تقلّص لافت في الطلب من العملاء المحليين والأجانب.
وأدى ذلك إلى أكبر انخفاض في الإنتاج الصناعي منذ مايو/أيار 2020، مع توقف خلق فرص العمل تقريباً وتراجع التفاؤل التجاري، وفقاً لمؤشر مديري المشتريات التصنيعي في بريطانيا، من S&P Global وCIPS، والذي انخفض إلى 47.3% في أغسطس/آب، من 52.1% في يوليو/ تموز.
وهذه هي القراءة الأولى دون 50.0% لمؤشر مديري المشتريات، والتي تظهر انخفاضاً في النشاط، منذ مايو/أيار 2020.
أزمة الطاقة هي أساس باقي الأزمات:
ودعا ثالث أكبر مورد للطاقة في بريطانيا؛ "أوفو أينيرجي"، الحكومة إلى تقديم مخطط "تقدمي" لفواتير الطاقة التي من شأنها أن تقدم دعماً أكبر للأسر الفقيرة ولكنها تتناقص للمستخدمين الأكثر ثراءً، على غرار نظام الضرائب.
وارتفعت الأسعار بنسبة 0.8% في أغسطس، أكثر بكثير مما كان متوقعاً، حيث استمر السوق في تحدي المشاكل الاقتصادية التي تضرب بريطانيا.
ارتفاع تكلفة المعيشة في بريطانيا يُنذِر بتهديد الأمن و الاستقرار الاجتماعي:
اذ قالت صحيفة صنداى تايمز البريطانية إن الشرطة البريطانية تستعد لزيادة معدل الجريمة وانهيار النظام العام، وحتى الفساد فى صفوفها خلال الشتاء المقبل، مع وضع مقترحات طوارئ للتعامل مع أزمة تكلفة المعيشة.
ويجرى التخطيط للطوارئ بين قادة الشرطة للتعامل مع التداعيات التي يمكن أن تنجم عن مواجهة ملايين من الأسر صعوبات مالية.
وكشفت وثيقة استراتيجية وطنية مسربة، والتي تم وضعها خلال هذا لصيف، أن الشرطة تشعر بقلق متزايد بشأن الاضطراب الاقتصادى وعدم الاستقرارى المالى، والذى يمكن أن يؤدى إلى زيادات فى أنواع محددة من الجريم سرقة المحلات والبلطجة وسرقة السيارات إلى جانب الاحتيال والابتزاز الإلكترونى وأيضا الجرائم التي تعتمد على الضعف المالى.
وتأتى مخاوف الشرطة بعدما رفعت السلطات سقف أسعار فواتير الطاقة للمنازل بنسبة 80% لتصل على 3549 استرلينى بدءا من الشهر الماضى، مما ترك نحو 88% من البالغين فى بريطانيا قلقين بشأن تكاليف الكهرباء والطاقة.
وتشير الوثيقة إلى أن هناك مخاطر أكثر تعقيدا ولا يمكن التنبؤ بها وفرصة أكبر للاضطراب المدنى، حيث يواجه سكان بريطانيا تكاليف المعيشة المرتفعة.
فرنسا تُواجه أزمة إضراباتٍ عُمّالية قد تُؤدي إلى شلل الاقتصاد الفرنسي:
إذ بدأت الإضرابات العمالية في قطاع تكرير البترول الفرنسي بمحطات شركة "توتال إنيرجي"، لتتسع رقعتها إلى شركة إكسون موبايل، وتتسبب في أزمة وقود غير مسبوقة بالبلاد نهاية الأسبوع المنصرم. ويطالب العمال المضربون المنضوون تحت نقابة "الاتحاد العام للشغل الفرنسي"، بزيادة أجورهم وتحسين ظروف العمل.
وحسب وسائل إعلام فرنسية، فإن 30% من محطات الوقود الفرنسية شهدت منذ بداية الأسبوع المنصرم اضطراباً في التزود، و1300 منها تعرف نفاذ نوع واحد منه على الأقل. وزاد حدة هذا العجز في كميات الوقود المعروضة، الإقبال الكبير على التزود به، مع انتشار أخبار انقطاع قد يحصل فيها جراء الإضرابات.
ودعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عموم الشعب إلى الهدوء والتحلي بروح المسؤولية إزاء الوضع الحاصل. وقال في ندوة له يوم الجمعة: "أتفهم القلق الذي ينتاب عديداً من مواطنينا بخصوص نقص الوقود. أريد من هنا أن أبعث رسالة أدعو فيها إلى الحفاظ على الهدوء والتحلي بالمسؤولية. كل المطالب المتعلقة بالأجور مشروعة لكن لا ينبغي أن تمنع الآخرين العيش أو التنقل".
وفي نهاية سبتمبر/أيلول الماضي، شهدت البلاد مظاهرات عمالية واسعة، طالبت فيها برفع الأجور والتنازل عن مشروع إصلاح نظام التقاعد، متوعدة بشتاء احتجاجي ساخن في فرنسا، ما لم تستجب الحكومة لهذه المطالب، التي تزيد إلحاحاً في وقت يرزح فيه نطاق واسع من الطبقات الشعبية تحت ثقل ارتفاع مستويات التضخم.
وحسب "المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية" الفرنسي، فإن البلاد عرفت شهر سبتمبر نسبة 5.6% من التضخم. والتي تنعكس اطّراداً على فواتير الغذاء بارتفاع قدره 9.9% خلال شهر واحد، وبالنسبة للمواد الغذائية بـ11%. ويشتكي عدد من الفرنسيين من أن فواتير الكهرباء تضاعفت خلال السنة الجارية بـ700% عن نظيراتها خلال السنوات الماضية.
تداعيات الحرب في أوكرانيا و أزمة الطاقة تُلقي بظلالها على أكبر اقتصاد في أوروبا:
إذ توقع صندوق النقد أن الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا سيرتفع اثنين بالمئة في 2022 وما يزيد قليلا على اثنين بالمئة في 2023 في أعقاب نمو بلغ 2.9 بالمئة في 2019 .
وأحدث أرقام من صندوق النقد، التي تستند إلى مشاورات سنوية مع ألمانيا اختتمت مؤخرا، أكثر قتامة من توقعات البنك المركزي الألماني (البوندسبنك) الذي توقع في يونيو نموا عند 1.9 بالمئة و2.4 بالمئة في 2022 و2023 على الترتيب.
وأشار صندوق النقد إلى تضخم مرتفع ناتج عن زيادات حادة في تكاليف الطاقة كعامل سلبي يضغط على النمو مع توقع نمو الأسعار 7.7 بالمئة في 2022 و4.8 بالمئة في 2023.
وكانت دراسة أجرتها مؤسسات اقتصادية أوروبية، قد توقعت أن يؤدي الوقف الكامل لصادرات الغاز الطبيعي الروسي قد يسبب خسائر فادحة للاقتصاد الألماني في النصف الثاني من العام الجاري تصل إلى 193 مليار يورو، بالإضافة لإضرار للعديد من القطاعات الاقتصادية، وخسارة 5.6 مليون وظيفة.
من ناحية أخرى، أشار صندوق النقد الدولي إلى أن الآثار في الاقتصادات الأوروبية الرئيسة "كانت أكثر سلبية ممّا كان متوقَّعاً".
وفي المقابل، يتوقع صندوق النقد أن تكون آثار هذه العقوبات أكثر من المتوقَّع عام 2023، وهو العام الذي يتوقع فيه صندوق النقد الدولي ركوداً في الاقتصاد الروسي بنسبة 3.5%، أي أقل بـ1.2 نقطة من توقعاته السابقة.
خَياراتٌ محدودة أمام الأوروبيين.. و عودة التعاون الاقتصادي مع روسيا قد يَكونُ أفضل الأسوء:
إذ فرضت الدول الغربية، بالتزامن مع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، في 24 شباط/فبراير، حملة عقوبات مشدَّدة ضدّ روسيا، من أجل التضييق على موسكو، مالياً واقتصادياً.
و أدت هذه الحملة الموسعة من العقوبات على روسيا إلى نتائج عكسية على الدول التي فرضت هذه العقوبات، إذ تعاني القارة الأوروبية من أزمة حادة على مستوى نقص إمدادات الطاقة بعد تخفيض روسيا امداداتها لأوروبا من الغاز الطبيعي عبر خط نورد ستريم١، بعد أن كانت روسيا أكبر مورد للغاز إلى اوروبا بما يقرب من ٤٠ بالمئة من حاجة أوروبا من الغاز الطبيعي.
و أدت أزمة الطاقة في أوروبا و التي كانت نتيجة حتمية العقوبات الأوروبية المفروضة على موسكو إلى تداعيات خطيرة على الاقتصادات الأوربية التي اكتسحها التضخم المفرط و الركود الاقتصادي الناتج عن ارتفاع كلفة التصنيع و المعيشة و غلاء الأسعار، مما أدى إلى ظهور بعض الاتجاهات المعارضة لاستمرار سياسة الضغط الاقتصادى على موسكو، على اعتبار أن القارة الأوروبية باتت هي التي تدفع ثمن الحرب الروسية الأميركية-(بالوكالة) -، لا سيما أن الجانب الأمريكي بات يبيع الغاز لأوروبا بأسعار أعلى من سعر السوق ما زاد من حدة الأزمة التي كان يتوقع الاوروبيون أن يشارك الأميركيون في حلها بدلاً من تعقيدها على شركائهم الأوروبيين.
و يرى أصحاب الاتجاه المعارض لاستمرار فرض العقوبات على روسيا ضرورة العودة إلى التفاهم مع الجانب الروسي بعيداً عن السلوك العدواني الذي اتخذته القارة الأوروبية منذ بداية الحرب، إذ يعتبر أصحاب هذا الاتجاه أن السياسات الأوروبية تجاه روسيا تساهم في تقوية مشاعر العداء الروسي نحو القارة الأوروبية و تسهم في إضعاف أوروبا عبر إضعاف اقتصاداتها، و أن العودة إلى التعاون الاقتصادي مع روسيا أمرٌ لا مفرّ منه لمنع الاقتصاد الأوروبي من الانهيار.