ما قبل الانفجار وما بعده: الغَرَضُ المفقود

news image

يستدعي هذا العنوان إحساساً بالخفّة، كأن نظنّ أنّنا، وبفعل انفجار 4 آب (أغسطس) قد خسرنا غَرَضاً ما، زجاج نافذة أو سقوط حائط مثلاً. في الانفجار خسرَ الناس الكثير من المُمتلكات، والمُلْكُ ليس تفصيلاً. ولكنْ، هل تقع المسألة هنا؟!

الغرض المفقود "objet a" هو عمقٌ بنيويّ، استحدثه المُحلِّل النفسي جاك لاكان، مُطلِقاً عليه تسمية الحرف a. هذا الحرف الصغير هو ترميزٌ يقوم على مسألة أنّ ابن البشر ساعة انفصاله عن أمّه يدخل في الفَقْد. فَقْد الجنّة التي كان يرتع بها. يقضي العُمر في البحث والتعمير والبناء كي يملأ هذا الفَقْد، كي يَكتمل. هذا المَسار هو الباعث على السعي والجهد، توقاً إلى الرغبة التي يتشوَّق لإشباعها.

أمام أيّ فَقْد، مهما كان بسيطاً، قد يدخل الإنسان في اضطّرابٍ وقلقٍ وحيرة. لا يعود ذلك إلى قيمة ما فَقَدَ، بل إلى عُمقٍ موغلٍ في ذاته، يعصى على التعيين والتسمية والالتقاط. لأنّ هذا الغرض هو من نسيج التكوُّن وتمّ فَقْدُه مع الولادة. واستعمال مُفردة "غَرَض" هنا، للدلالة على أنّنا نستطيع أن نستبدله بأيّ شيء آخر مُمكن.

أحدهم فَقَدَ هرّاً كان ينتظره عند عَودته من العمل، وإذا به يقع في كآبة عبَّر عنها قائلاً: هذا الفقْد استدعى كلّ ما أنا فاقد له في حياتي وما كابدتُه في عمري كلّه.

عبّرت سيّدة، بعد الانفجار، أنّها تعيش اليوم كلّ ما فقدته طوال عمرها: الاعتراف بها وبقدراتها ومَوقعها واسم عائلتها ومِلْكها وأنوثتها. انفجرَ كلّ شيء وها هي تقبع مريضة في السرير.

أمّا فقْد صورة بيروت، فنراه يصير موسيقى وغناء ونداءات وتواريخ وأمجاد… إلخ.

بيروت، المدينة الرائعة، ذلك الرّحم الذي وُلدت منه عيوننا الكثيرة التي جعلنا نرى في كلّ الاتّجاهات، بيروت كانت تتكسَّر أمامنا. هي مرآتنا. ننظر ونرى الكسور في وجوهِنا وأجسادنا وأحلامنا. نبكيها ونبكي أنفسَنا.

أين يقع ناسُ بيروت وناس الوطن من الفَقْد؟

الحاجة والطلب

على إحدى الشاشات اللّبنانيّة، تحدَّث مُهندس شاركَ في مسْح الأضرار، بعد أسبوعَين على الانفجار قائلاً: "دخلنا بيوتاً يلزمها فقط خمسة آلاف دولار للترميم. ودخلنا بيوتاً يلزمها خمسون ألف دولار، وكانت الإجابة واحدة: لا نريد شيئاً… نحن نتحمّل نفقات ترميم بيوتنا، "وَجَعُنا أنّ ما من أحد سأل عنّا". أضاف المهندس: "الضرر النفسيّ يتجاوز كلّ الأضرار".

هنا نحن أمام أوّل إشارة لطلبٍ مُلفت عند الناس: يريدون الإحساس أنّهم ليسوا متروكين وعُراة وتائهين في بلوى الصحاري الحارقة. وفي بلوى تشظّي أرواحهم.

في مُتابَعةٍ لتعبيرات الناس على الفايسبوك، من بينهم كُتّاب ومثقّفين وفنّانين، أخذتُ أُسجِّل مُفرداتٍ تتواتر وتتلاحَق وتَرتسم صُوراً لحالهم: انفجار، دمار، مَوت، قتل، حِداد، رثاء، النَّفَق المُظلم….. بيروت، إلخ.

وفي المَواقف: حِقدٌ وكره وعنف واتّهام وووو.

أي أنّنا أمام شَكلَين من التعبير:
- الغَير، أي أبناء الطوائف الأخرى.

  1. تعبير عن حالة وجوديّة بكلّ ما تحمل من أسى. وصولاً للتعبير عن عزلةٍ ووحدة تكاد تكون توحُّداً.
  2. تعبير عن مَواقف اتّهاميّة تطال:

- الآخر الكبير، أي السلطة بكلّ وجوهها ورجالاتها.

وكانت هذه السلطة، في ما قبل، قد تعرّت فَساداً وإهمالاً وجشعاً، وصارت غياباً وعجزاً، في ما بعد.

"ما حدا سأل عنّا"

ما هي قصّة هذا السؤال؟ كيف نجيب عنه؟ ما هي مَفاعيله؟

يتمحور هذا السؤال حول طَلَبٍ مُحدَّد: الاهتمام والرعاية والاعتراف. هذا الأمر يختلف بشكلٍ كلّي عن الحاجة، حتّى ولو كان ينبني عليها. هنا علينا التمييز بين الحاجة والطلب.

الحاجة: هي من الأولويّات الضروريّة للبقاء على الحياة. مثل الأكل.

الطلب: هو ما بعد ذلك.

يخرج الوليد من البطن. ينفصل عن المشيمة التي كانت توصله بجنّة الرَّحم. يعيش أوّل فقْد وانفصال.

يصرخ. تضعه الأمّ على صدرها، يأنس إلى ثديٍ بديلٍ عن الجنّة التي كان يسبح فيها، يلتصق بجسدٍ كان جزءاً منه. يأخذ القليل من الحليب. ينام. حاجته للغذاء تأنس عند الثدي الدافئ. تتسجّل هذه المُعادَلة عنده. هو لا يعرف شيئاً، يتعلّم منها ما عليه طَلَبه. هو يبكي أحياناً، تهرع إلى الثدي. يُتابع البكاء. قد لا تنتبه أنّه ليس بحاجة للثدي، بل لعَينِها ونَظرتِها وحمايتِها. أي طَلَب الحُضن والرعاية والأمان.

هنا يتمايز الطلب عن الحاجة. كلّ طلب هو طلب حُبّ وطلب اعتراف.

تجهيل الفاعل

إلى مَن يتوجَّه المُواطن بطلبِه؟

يعرف الطفل أنّه جزء من أمّه. هي تُعلّمه الحكي والكلمات. تقول له: هذا أبوك، فلان الفلاني. أي أنّ الأبّ يتمّ التعرُّف إليه قبل أيّ شيء عبر الكلام. يضطّلع الأبّ بكلّ ما هو خارج البيولوجيا. هو ترميز خارج اللّحم والبَدَن. وجوده المُعترَف به من قِبَلِ الأمّ وتدخّله في تعيين الحياة في الخارج، يشكِّل نِظاماً مُتكاملاً من التقاط المعنى على مستوى المسموح والممنوع، الأنظمة والقوانين، الحقوق والواجبات. حتّى عندما تقوم الأمّ بهذا الدَّور يعرف الطفل أنّ هناك ما يتجاوزها هي. أي يجب أن يتمّ كبْت العلاقة مع الأمّ وتمريرها للأب كي يخرج الأولاد من تحت تنّورتها. تتكفَّل الساحة العامّة بالباقي.

إذاً، الأبّ هو النّاظم للعلاقة مع الخارج.

يستمدّ الأبّ قوّته وقيمته وهَيبته من ذلك الخارج: المدينة والسياسة والاجتماع والعمل والعلاقات. أي المساحة العامّة.

في بلادنا يُمسك الساسةُ بالمساحة العامّة، حتّى أدقّ التفاصيل. هؤلاء الساسة هُم الآباء، مجازاً، طالما نحن في بنية طوائفيّة قوامها الهَرميّة والتراتبيّة. أيّ كلام هنا عن المواطنيّة والديمقراطيّة يقع في باب المُناداة بهما وتمنّيهما، أي في باب الخطاب الاعتراضي. البنية أعمق بكثير ممّا نظنّ. عندما تنفجر البنية فهي تنفجر بحسب مكوّناتها: الطوائف. يتموضع الرجال/ الآباء في حالة من التبعيّة والصمت داخل بنية موغلة في التاريخ وفي التأسيس.

ما قبل الانفجار، وما بعده، وَصَلَ الساسة /بديل الآباء/ إلى حالة من العري المُخزي، بسبب فسادهم وتخلّيهم عن رعاية المُواطنين/ الأبناء، من دون التخلّي عن تملّكهم لهم. تمثَّل ذلك العجز في الصمت المُطبق وفي استحالة الجواب على طَلَبِ الناس وصراخهم. مَن الفاعل؟ ولماذا؟ وماذا بعد؟ وإلى أين؟

لا صوت لمَن تُنادي. صارَ القلقُ عائماً لا يُستطاع تحديد أُفقه ولا التماس عُمقِه.

الشكّ والريبة /البارانويا/ هي نتائج طبيعيّة لحالة التَعمية من جهة، والتجييش الضُدّي والاتّهامي من جهة أخرى.

انفجر المكبوت الذي كان مُستتراً تحت رافعة الحياة المُجتمعيّة.

- انفجرَ العنف /الباعث على الموت/، سواء إزاء الذّات كما يحصل في الخَوَرِ والكآبة وجلْد الذّات والذنب والمَهانة، وبَرزت مستويات كانت الحياة العامّة تُداريها وتسترها. كأن يُعبِّر شابّان ناجحان عن فقر مُدقع عاشاه في طفولتهما. بكيا مثل الأطفال. كان الأبّ فقيراً ولا يُحتَسبُ بين من لهم قيمة. لأنّ الفقر مَهانة وعجز ونقْص وقلّة. كأن يُصبح الرجل قليلاً في عَين نفسه.

- كأن ينتبه الجميع أنّهم كانوا غارقين في غواية الاستهلاك والمَظاهر، في غيبوبة عن الذّات ورغباتها وأشواقها.

أمام التهديد بالموت والجوع والمَهانة والنسيان، كان الانفجار الذاتيّ أكبر من أيّ تصوُّر.

الوحد والغربة والهجرة، أسماء لبؤسٍ وجوديّ، من الصعب رصْد مآلاته اليوم.

- انفجر العنف إزاء الغَير، بكلماتٍ وشتائم وأزمةٍ سياسيّة خانقة قد تودي بالبلاد إلى ما لا يُمكن ضبْطه! تتحصَّن الطوائف وتُشمِّر عن سواعدها. يبتعد الناس عن بعضهم البعض. تغور رؤوسهم في قناديل أهوائهم وتواريخهم وذكرياتهم، وكلّ ما يكابدونه. مُتّهمين الغَير ورافعين السوط.

هذا النوع من الانفجار لا ترصده الكلمات العَلنيّة. في الغرفة السريّة حيث الاستماع لعبة صمّاء ولكنْ لها حرارة في قلوب قائليها.

ماذا نسمّي كلّ ما يحصل؟

تروما

عندما يحصل حادثٌ مُفاجئ، لا تكون الذّات التي وقع عليها الفعل جاهزة للدفاع ولا تمتلك أواليّات التعاطي مع الحدث. بعد صمت الصدمة، تكون الذّات مُجتاحة بفَيضٍ من الإثارات المُنبعِثة من جُوّانيّتها. هذا ما يسمّى plus - de jouir، فائض - المُتعة؛ هذا يوقِظ صُوراً عالقة ومُستَتِرة وطالها النسيان. يجب ألّا نخاف من تعبير فائض - المُتعة، لأنّه يشير إلى الألم والمُتعة معاً. هنا نعرف أنّ تعبيرات التروما المُحايِثة لا يُستطاع فَهمها إلاّ بالاستماع إلى ما انبعث من المكبوت. كلّ تروما تردّ إلى تروما سابقة وأعتق في الزمان والمكان. سوف نقدِّم نموذجاً حيّاً لتروما ما بعد الانفجار:

هُو، خرجَ من العيادة في الرّابع من آب (أغسطس) حوالى الساعة السادسة إلّا ربعاً.

لم أره طيلة شهر كامل. عاد وروى:

- بعد خروجه من العيادة، كان يتمشّى كي يصل إلى بَيته. السادسة و7 دقائق كان على أحد التقاطُعات. لم يفهم سوى أنّه وَجَدَ نفسه ملقىً ومَرميّاً على الأرض بضعة أمتار، ومُغطّى بالدمّ. سمع صرخة وراءه، نظرَ، عاملٌ سوريّ وقع على رأسه لَوح زجاج فجَّ رأسَه وفارقَ الحياة. نظرَ إلى حالِه، مخّ القتيل على ساقه. تتقدَّم سيّدة تقول له: هناك في الأعالي من حَماك. يقف على قدمَيه، يتقدَّم منه طفل يسأله: أين أمّي؟ يصل إلى بيته، يبكي على الباب بكاءً مرّاً. يستحمّ، ليس فيه أيّ جرح. كان دمّ العامل الفقير يغطّيه. يختبئ في سريره يومَين قبل أن يخرج من البيت.

في الجلسة، وعند نهاية السرد أصيب بصداع حادّ وكاد يتلاشى. قليل من الإسعافات الأوليّة: كوب ماء بارد وحبّتَا بانادول. غادرَ قائلاً: أريد أن أنام.

القراءة العامّة هنا تعود لمسألة كلّنا يعرفها. تقوم على فكرة أنّ من يَشهد بقربه وأمام ناظرَيه موتَ أحد، يشعر بإثمٍ مُريع. لماذا مات هو وبقيت أنا؟! وهذا ما نسمعه يتردَّد في المآتم: يا ريت أنا مش إنت.

بعد أسبوع يتذكّر: كنّا صغاراً، ولم أكُن أعرف لماذا عمّتي وأولادها يسكنون معنا.

هي قصّة العمّة الحنونة التي ربَّته. كانت صامتة حول طرْدها من المنزل الزوجي. هي ذات ساقٍ مقطوعة. ماتت العمّة منذ عشر سنوات ولم يبكِها. أضاف: بعد جلستي الأولى لم يُفارقني وَجَعُ ساقي.

من مخّ العامل الفقير، إلى ساق العمّة الصامتة، استوت التروما على طبقات.

هي العمّة التي حَمته في السماء.

الجملة الأخيرة: أين أمّي؟

د. أنيسة الأمين مرعي / مُحلِّلة نفسيّة من لبنان