الرابطة بين القِيَم الثقافيّة والتقدُّم
د. عبد العظيم محمود حنفي*
في مطلع التسعينيّات من القرن العشرين، تجدَّدَ الاهتمامُ على نحوٍ كبير بأخْذ الثقافة كعنصرٍ أساس في تحليل النموّ. ونَعرف أنّه في أربعينيّات القرن العشرين، حظيَت الثقافةُ باهتمامٍ كبيرٍ، باعتبارها عنصراً أساسيّاً في فهْم المُجتمعات، وتحليل الفوارق في ما بينها، وتفسير تطوّرها الاقتصاديّ والسياسيّ. ونذكر من هؤلاء الباحثين كلّاً من مارغريت ميد، وروث بنيديكت، وجافيد ماكليلاند، وإدوارد بانفيلد، وأليكس إنكيليس، وغابرييل الموند، وسيدني فيربا، ولوسيان باي، وسيمور مارتن ليبست.
لكنْ في أعقاب هذا التراث الأدبيّ الغنيّ الذي أَنتجه هؤلاء الباحثون - كما لاحظ صمويل هنتنغتون - تهاوى العمل في حقل الثقافة داخل المُجتمع الأكاديمي وانخفَضَ حجْمُهُ بشكلٍ دراميّ خلال ستّينيّات وسبعينيّات القرن العشرين. ثمّ بدأَ الاهتمامُ بالثقافة يَنتعش مجدّداً خلال الثمانينيّات، باعتبارها أحد المُتغيّرات المُساعدة على التفسير. ولعلّ أهمّ إسهامٍ في عمليّة الإحياء هذه وأبرزه وأكثره إثارةً للجدل كِتاب لورانس هاريزون، الموظَّف السابق في بَرنامج الولايات المُتّحدة للمُساعدة "إيد"، والذي صدرَ عن "مَركز هارفارد للشؤون الدوليّة"، ويحمل عنوان "التخلُّف حالة عقليّة.. حالة أميركا اللّاتينيّة". واستخدَم كِتاب هاريزون دراسات حالة مُتوازية لإثبات أنّ الثقافة في الغالبيّة العظمى من أميركا اللّاتينيّة كانت العقبة الأولى والأساسيّة على طريق التطوُّر. وأَثار تحليل هاريزون عاصفةً من الاحتجاجات من جانب الاقتصاديّين والخُبراء المَعنيّين بشؤون أميركا اللّاتينيّة ومن مُثقّفيها.
لكنْ بدأَ كثيرٌ من هؤلاء خلال السنوات التالية يرَون أنّ الدراسة التي قام بها هاريزون تتضمَّن عَناصِر صائبة وصحيحة. واتَّجه العُلماء الاجتماعيّون أكثر فأكثر إلى العوامل الثقافيّة لتفسير عمليّات التحديث والدمقْرَطة السياسيّة والاستراتيجيّات العسكريّة وسلوك الجماعات الإثنيّة والانحيازات والتطاحُنات. وَبرزتْ مجموعةٌ من المُثقّفين لعبت أدواراً رئيسة في بعث الثقافة. وتميَّز هذا النجاحُ بظهور حركة مُضادّة عمدت إلى ازدراء التأويلات الثقافيّة وإلى نقدٍ مُغالٍ في شكوكه إزاء أعمالٍ صدرت عن كلٍّ من فرنسيس فوكوياما، ولورنس هاريزون، وروبرت كاميلان، وسيمون مارتن ليبست، وروبرت بوتنام، وتوماس سوويل، وصمويل هنتنغتون. وهكذا انضمَّ إلى المَعركة الدائرة في مجال البحث، أولئك البحّاثة الذين يرون أنّ الثقافةَ مؤثِّرٌ كبيرٌ وليس وحيداً في السلوك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وكذلك مَن يدعون إلى تفسيراتٍ كليّة شامِلة من أمثال المُتحمّسين لـ "المصلحة الذاتيّة الماديّة" بين رجال الاقتصاد، أو لـ "الاختيار الرشيد" بين عُلماء السياسة، ولـ "الواقعيّة الجديدة" بين الباحثين في شؤون العلاقات الدوليّة.
ولعلّ أحكَم الكلمات عن مَوقع الثقافة في شؤون البشر، هي كلمات دانييل باتريك موينيهان الذي قال إنّ "الحقيقة المحوريّة هي أنّ الثقافة، وليس السياسة، هي التي تُحدِّد نجاح المُجتمع، وإنّ الحقيقة المحوريّة للّيبراليّة، هي أنّ الثقافةَ يُمكنها أن تُغيِّر ثقافةً ما وتَحميها من نفسِها".
وطَرحت إحدى الدراسات التي قامت بها "أكاديميّة هارفرد للدراسات الدوليّة والإقليميّة" سؤالَيْن: الأوّل إلى أيّ حدٍّ تصوغ العواملُ الثقافيّةُ التطوُّرَ الاقتصادي والسياسي. والثاني كيف يُمكن إزاحة أو تغيير العوائق الثقافيّة التي تُعيقُ التطوّرَ الاقتصادي والسياسي، حتّى يتسنّى تيسير عمليّة التقدُّم؟ وهذه الدراسة تُركِّز على الثقافة كمُتغيّرٍ مُستقلٍّ أو تفسيري، وعلى ما إذا كانت العوامل الثقافيّة تؤثِّر بالفعل في التقدُّم البشري وتُعيقه في أوقاتٍ ما؛ إلّا أنّ العديد من المُثقّفين مَعنيّون أيضاً بالثقافة كمُتغيِّرٍ تابِعٍ، وبوصفها الحقيقة الثانية، مثال ذلك أنّ التجارب الكارثيّة التي عانت منها ألمانيا واليابان في الحرب العالَميّة الثانية أدَّت إلى تحوُّلهما من أكبر دولتَيْن عسكريّتَيْن في العالَم إلى مُجتمعَيْن من أكثر المُجتمعات إيماناً بالسلام.
وتندرجُ في هذا التوجُّه رؤيةُ أحد الباحثين في أنّ الأرجنتين كانت على طريق التقدُّم في سبيل إنجاز إصلاحٍ اقتصادي واستقرار اقتصادي وديمقراطيّة سياسيّة، وذلك خلال مُنتصف تسعينيّات القرن العشرين، وتحقَّق لها هذا الأمر جزئيّاً نتيجة تجاربها الكارثيّة التي عانت منها في ظلّ ديكتاتوريّة عسكريّة وهزيمة عسكريّة نكراء، وتضخُّمٍ ماليّ يفوق الطّاقة. وهكذا فإنّ السؤال الأساسي هو هل بوسْع القيادة السياسيّة درء الكارثة عن طريق تحفيز التغيير الثقافي. وتُقدِّم لنا سنغافورة مثالاً على أنّ القيادة السياسيّة يُمكنها أن تُحقِّق هذا التغيير في ظلّ ظروفٍ مُماثِلة. ويؤكِّد سيمور مارتن ليبست وغابرييل سامان لنز أنّ مستويات الفساد بين البلدان تَنزع إلى الاختلاف عن بعضها تأسيساً على خطوطٍ ثقافيّة؛ إذ يبلغ الفساد أدنى المستويات في المُجتمعات البروتستانتيّة في شمال أوروبا وبريطانيا. وتحتلّ البلدان الكونفوشيّة مَوقعاً وسطاً في الغالب الأعمّ، ولكنّ المُلاحَظ أنّ مُجتمعاً كونفوشيّاً، وهو سنغافورة، يُماثِل الدنمارك والسويد وفنلندا أو نيوزيلاندا كبلدٍ من أقلّ البلدان فساداً في العالَم. وتفسير هذا الشذوذ عن القاعدة يَرجع بوضوح إلى أنّ زعيم سنغافورة الراحل "لي كوان يو" كان عاقِداً العزْم على أن تكون بلاده بمنأىً عن الفساد قدر المستطاع، ونَجَحَ في ذلك. وهنا نَجد أنّ السياسة غيَّرت الثقافة وأَنقذتها من نفسها؛ بحيث تعاوَنت الحكومةُ مع فريقٍ مسؤول عمّا يُعرف بـ "الرؤى السلوكيّة" للمُواطنين، الذي يُطلق على أفراده اسم "وحدة التحفيز"، المَعنيّة بتطبيق "نظريّة التحفيز" على السياسات الحكوميّة، وهي النظريّة التي فازَ عنها "ريتشارد ثالر" بجائزة نوبل. وتقوم هذه النظريّة على فكرة مؤدّاها أنّ الناس يُمكن توجيههم لاتّخاذ قراراتٍ أفضل من خلال سياساتٍ بسيطة وغير ملحوظة، من دون مُصادَرة حريّتهم في الاختيار.
ولَفتت نظريّةُ التحفيز أنظارَ الكثير من واضعي السياسات في العالَم، لكنّ سنغافورة تحديداً كانت تتبنّى استراتيجيّاتٍ مُشابِهة للتأثير على سلوكيّات المُواطنين قَبل انتشار هذه النظريّة بسنوات طويلة، وقد يرجع هذا لأسبابٍ تاريخيّة. فمن المعروف أنّ سنغافورة مَضرب المثل في النّظام والكفاءة، وفوق ذلك، هي المكان الذي يُحظر فيه مضْغ العلكة. وغَدت اليوم، بعد جهودٍ مُضنية، واحدة من المَراكِز الماليّة في العالَم. وتُقدِّم لنا تجربةُ سنغافورة مثالاً على أنّه يُمكن للجهد السياسي والاجتماعي أن يَجعل الثقافات أكثر مواتاةً للتقدُّم.
وسبقَ أن وَضَعَ روبرت كليتجارد من مؤسّسة "راند" دراسةً عن العلاقة بين الثقافة والتطوير الاجتماعي، طارِحاً فيها السؤال التالي: إذا كانت الثقافةُ مُهمّة، وقد دَرَسَ الناسُ الثقافةَ على مدى قرن أو يزيد، فلماذا لا نملك حتّى الآن نظريّاتٍ جيّدة الصياغة والبناء، ولا مَبادئ توجيهيّة عمليّة، ولا روابط مِهنيّة وثيقة بين أولئك الدّارسين للثقافة، وأولئك القائمين على رسْم سياسة التطوير وإدارتها؟ والمطلوب استمرار الجهود القائمة لاستحداث تلك النظريّات، وصَوْغ المَبادئ التوجيهيّة، وترسيخ الروابط بين الباحثين والمُمارِسين، الأمر الذي من شأنه أن يُرسِّخ دعائم الظروف الثقافيّة التي تُعزِّز التقدُّم البشري.
وتوصَّلت الدراسات إلى أنّ هناك نَزعةَ شكٍّ إزاء وجود رابطة بين القيَم الثقافيّة والتقدُّم في مجالَيْن هُما الاقتصاد والأنثروبولوجيا، حيث يرى كثيرٌ من الاقتصاديّين أنّه من البديهيّات أن تُفضي السياسة الاقتصاديّة المُلائِمة، إذا ما جرى تنفيذها بكفاءة وفعاليّة، إلى نتائج واحدة أو مُتماثِلة من دون اعتبارٍ للثقافة. وتتمثَّل المُشكلة هنا في حالة البلدان مُتعدِّدة الثقافات، حيث نَجد بعضَ الجماعات العرقيّة أفضل أداءً من غيرها، على الرّغم من عمل الجميع التزاماً بالمؤشّرات الاقتصاديّة ذاتها. وخير مِثالٍ على ذلك الأقليّاتُ الصينيّة في تايلاند وماليزيا وإندونيسيا والفليبّين والولايات المُتّحدة؛ وكذلك الأقلّيات اليابانيّة في البرازيل والولايات المُتّحدة الأميركيّة، وأيضاً الباسك في إسبانيا وأميركا اللّاتينيّة.
وكان الاقتصادي الأميركي آلان غرينسبان، رئيس إدارة مجلس الاحتياطي الفيدرالي (السابق)، واحداً من الاقتصاديّين التقليديّين في نَظرتهم إلى هذه المسألة، إلى أن فكَّر مليّاً في تجربة روسيا بعد الاتّحاد السوفييتي؛ إذ انطلقَ من افتراض أنّ البشر رأسماليّون طبيعيّون، ومن أنّ انهيار الشيوعيّة سيُفضي تلقائيّاً إلى تأسيس نظامِ سوقٍ حرّة لمُقاولي المشروعات. ولكنّه خَلص عقب كارثة الاقتصاد الروسي إلى أنّ النِّظام الرأسمالي ليس ذا طبيعةٍ بشريّة على الإطلاق، بل ثقافة. وتُمثِّل كلمات غرينسبان دعْماً قويّاً لتحليل دافيد لاندس ونتائج بحثه في كِتابه "ثروة وفقر الأُمم"، حيث توصَّل إلى خلاصة مفادها أنّه "لو كان تاريخ التنمية الاقتصاديّة قد علَّمنا شيئاً، فقد علَّمنا أنّ الثقافةَ تُحدِث الفَرْقَ كلَّ الفَرْق".
بتعبيرٍ آخر، هناك بلدانٌ تنمو بمعدّلاتٍ أكبر من بلدان أخرى، لأنّ ثقافتها أكثر تشجيعاً على النموّ، وهو ما يعني ضمنيّاً أنّ الثقافةَ هي الخاصيّة الحاسِمة في نجاح النموّ الاقتصادي. ويعرض ماريانو غروندونا تصنيفاً نمطيّاً لثقافاتٍ داعِمة للتطوير، ويُفسِّر كيف أنّ ثقافاتٍ مُمانِعة للتطوير تصوغ سلوك جماعات الصفوة. والمُلاحَظ أنّ المشكلة الرئيسة في نَظَرِ كثيرين من عُلماء الأنثروبولوجيا وغيرهم من عُلماء الاجتماع المُتأثّرين بهم، هي تراث النّزعة النسبيّة الثقافيّة التي ترفض تقييم مُمارَسات وقيَم مُجتمعٍ آخر. بحيث إنّ فكرة التقدُّم هي فكرة مُريبة بالنسبة إليهم، لأنّهم يعتبرون أنّ كلّ ثقافة تُحدِّد أهدافها وأخلاقها، وهو ما يتعذَّر تقييمه في ضوء أهداف ثقافةٍ أخرى وأخلاقها.
*باحث وأكاديمي مصري - مؤسسة الفكر العربي