مسعود سماحة شاعرٌ لبنانيّ في الجيش الأميركيّ
محمود برّي*
كان رجل السيف والقلم... شاعرٌ غنيُّ الخيال، وفارسٌ عاليَ الكتفَين. ضابطٌ كبير في الجيش الأميركيّ وشاعر مفوّه في المُغترب الأميركيّ. إنّه مسعود سماحة. قامة عتيدة من بلدة "دير القمر" اللّبنانيّة، والتي حمل من ترابها عبق الفروسيّة وعذوبة الصور البيانيّة، وتأبّط أحلامه و..."هاجر" إلى حيث يسافر اللّبنانيّون في تلك الآونة من بدايات القرن العشرين، إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة التي برعت في تسويق نفسها على أنّها "بلد الأحلام".
يومها كان المشرق العربي، ولبنان في قلبه، يعاني أسوأ أيّامه تحت نير العثمانيّين المُقبلين على نهاية إمبراطوريّتهم مثل أيّ "رجل مريض" يُعاني سكرات الموت أمام دويّ الحرب. وعلى الرّغم من إعلان التُّرك حيادهم، إلّا أنّهم نالوا نصيبهم من تلك الحرب، وعانت البلدان التي كانوا يتحكّمون بمصائر أهلها، من الويلات والفوضى المُتراكِمة إلى أن أغرقتهم في دوّامتها ونتائجها...وكانت تلك ثالثة الأثافي بالنسبة إلى اللّبنانيّين الذين عانوا أبشع المرارات في تلك المراحل الصعبة المهولة، ما جَعَلَ الهجرة أحد أبرز طموحاتهم، ولاسيّما إلى بلاد "الأنكل سام".
مسعود سماحة كان استشرافيّاً على ما يبدو، فاتَّخذ قراره بالسفر مبكّراً (العام 1900) وقبل أن تُرخي الكوارث بثقلها على الناس في بلدته وفي مختلف أرجاء وطنه.
من دير القمر انتقل إلى مرفأ بيروت الذي كان صلة الوصل المُتاحة بأعالي البحار وما وراءها. ومن على متن السفينة المُغادِرة، رَفَعَ منديله يلوِّح، ليس لمودّعين غير موجودين، بل لبرّ وطنه لبنان الذي عزّت عليه مفارقته، ولتُربة مسقطه في الأعالي بجوار القمر.
غادر مسعود بيروت إلى الإسكندريّة، ومنها أَبحر على متن باخرة عملاقة إلى البلاد الأميركيّة.
كان عليه بدايةً أن يعمل في غربته المستجدّة ليكسب قوته، إذ كان استنفذَ الدريهمات القليلة التي حملها معه من بلاده التي باتت بعيدة خلف مَخاطر البحار. كان أوّل ما اجتذبه هو تلك "الحُمّى" التي كانت ضاربة من حوله تستقطب الشبّان اللّاهثين وراء أحلام الذهب والثراء السريع، فانضمّ إلى صفوف الباحثين عن المعدن الثمين والمُنصرفين إلى التنقيب عنه على ضفاف الأنهر وفي صدور الجداول في الأرياف القصيّة. ومرّت الأسابيع والأشهر على الشاب وهو ينقّب ولا يعثر على ضالّته، متفائلاً بالغد. ولم ينتبه إلّا بعد ثماني سنوات أنّ العمر يتسلّل كالرمل من بين الأصابع، وأنّ الذهب الذي في البال والمخيّلة، لا يخرج إليه من الضفاف التي يعاني في وحولها صُبح مساء. عندها ارتأى تبديل منهاجه في العمل، وقرّ رأيه على أن يعمل كما يعمل كثيرون غيره من لبنانيّين وغير لبنانيّين، في التجارة بالتجوال، فحمل "الكشّة" الشهيرة وراح يطوف بها القرى والبلدات، عارضاً من البضائع البسيطة ما ينبغي أن يجتذب اهتمام السكّان المحليّين ويُلبّي احتياجاتهم؛ ووسط كلّ ذلك كان مسعود سماحة ينظم الشعر ويتلوه على المُحيطين به من معارفه وأصدقائه، من لبنانيّين وعرب وأجانب متضلّعين من لغة الضادّ وأدبها.
في مقبرة غلينوود في واشنطن
لا شكّ أنّ هذه المُعاناة لم تكُن مُجدية كفاية لبناء الثراء الذي هجر بلده يحلم به، ما أقنعه في النهاية بما افترضه صحيحاً وسليماً، وهو ترْك هذه المُراهَنة الخاطئة... والعودة إلى الوطن، فالتنقيب عن الذهب لم يؤدِّ إلى النتيجة المتوخّاة، و"الكشّة" لم تصنع الثروة، والكلمة الطيّبة التي تضجّ في جبينه شِعراً تُلحّ عليه أن يرتاد عوالمها، وهو ما سوف يكون مُتاحاً له في مَوطنه، حيث سيكون بين أهله وأحبّته، فرأى في العودة إلى لبنان خلاصاً ممّا فيه من غُربة ومُعاناة.
في بلدته دير القمر التي عاد يستقرّ فيها، ارتأى الشاعر مسعود سماحة اتّخاذ مجالٍ آخر لكسْب العيش والتنفيس عمّا في الصدر، فاختار ميدان الصحافة، وقد آلمته صحافة تلك الأيّام وما كان يعتورها من تخلٍّ عن رسالة الصحافة السامية، إذ يحكمها التقرُّب من كراسي السلطة وإغداق المدائح على مَن يدفع، وليس على مَن يستحقّ...إلى الكثير من الزلّات والخطايا. فكان أن اتّفق مع أحد وجهاء دير القمر، نعّوم البستاني، وكان من أبرز مثقّفي المنطقة في ذلك الزمن، وأطلقا جريدة "دير القمر" والتي صدر عددها الأوّل في 13 أيّار/ مايو 1912.
غير أنّ تجربته الصحافيّة هذه لم تتكلّل هي الأخرى بالنجاح، وعادت الرتابة بثقلها، فارتأى العودة إلى الديار الأميركيّة مودّعاً لبنان من جديد. فالوضع أصبح أشدّ وطأة تحت مَطارق الجوع والمجاعة الزاحفة، والقانون أصبح شريعة القويّ، ومفاهيم الحريّة باتت خاضعة لسيف المنع والقمع والشدّة.
في هجرته الأميركيّة الثانية في العام 1913 يمّم مسعود سماحة شطر واشنطن العاصمة، فعمل في التجارة من دون أن ينصرف عن القلم والشعر والأدب، وكان حاضراً في العديد من المُنتديات الفكريّة، ونَشَرَ قصائد كثيرة في مطبوعاتٍ كانت تصدر بالعربيّة. في أثناء ذلك قرَّر الانخراط في الجيش الأميركي، فكان له ما أراد. فقد كان قمّةً في الذكاء والمرونة والعقليّة العمليّة المُنفتحة. وسرعان ما تدرّج حتّى وصل إلى رتبة عقيد، وحاز سُمعة جيّدة داخل الجيش، كما في مُجتمع العاصمة. إلى ذلك فإنّ الشاعر الذي فيه لم يغب يوماً ولا كلَّ، حتّى وهو عسكري يأمر جنوده بالانضباط الصارم، ممّا كان يلتزم به ويمارسه على نفسه.
وافت المنيّة الشاعر العقيد في اليوم الأخير من العام 1945 في بلده الجديد، فأُقيمت له جنازة حاشدة، ودُفن في مقبرة غلينوود في واشنطن العاصمة.
مسعود سماحة الشاعر
تميّز شعر "ابن الدير" بالطابع الشائع للشعر العربي، وكان أكثر التصاقاً بالشكل القديم في أدبه وبالقصيدة العموديّة التقليديّة من دون أن يميل، كما مال كُثُرٌ من مُعاصريه، إلى التجديد والابتعاد عن الشكل العمودي الذي أطلّ به شعر العرب منذ بواكيره. لذلك فقد ظلّ بعيداً عن "الرابطة القلميّة" التي أنشأها الشعراء المهجريّون، واشتهر من بين أفرادها جبران ونُعيمة وإيليا أبو ماضي وغيرهم.. وغيرهم؛ وبالتالي فهو لم يحظَ بما حظي به هؤلاء وأمثالهم من شهرة وانتشار. وحده الأديب شكيب ارسلان كان من المُعجبين به والمُشيرين إليه، وإلى شعره. وهذا يعود بالطبع إلى مَيلهما المُشترَك إلى الطابع الشعري القديم والقصيدة التقليديّة، هذا فضلاً عن علاقته الفكريّة والشخصيّة الوطيدة بالشاعر إيليا أبو ماضي.
تركَ الشاعر الكولونيل مسعود سماحة ديوانَ شعرٍ يقع في 272 صفحة من القطع الكبير، أَصدرته مطبعة مجلّة "السمير" التي أنشأها إيليا أبو ماضي (1890 – 1957) في نيويورك. وتضمّن الديوان قصائد اجتماعيّة ووطنيّة. كذلك تضمّن الديوان العديد من قصائد المُناسبات والتهاني، هذا فضلاً عمّا زخر به من قصائد الغَزَل والإخوانيّات، من دون أن يخلو من الرثاء لأحبّة فارقوه، إلى جانب القصائد الفكريّة المزدحمة بالتساؤلات الوجوديّة.
لم يكُن مسعود سماحة يتقصّد الأسلوب المعقّد المركَّب، بل ترك كلماته تسري مسرى الماء دونما عوائق، وكانت اللّغة مطواعة في كلماته وقوافيه، من دون اصطناعٍ ولا تكلّف.
وطنه كان دائم الحضور في ذهنه وقلبه، كما في بيانه وقصائده، يُهاجر وعَينه عليه، فيقول:
تلك الربوع تركناها وما تركت/ قلوبنا حبّها أو حبّ أهليها
إذا دعتنا وإن شطّ المزار بنا/ فكلّ جارحة منّا تلّبيها
وكان يَصف مُعاناته في مسيرته "التجاريّة" الشاقّة بحساسيّة الشاعر المُرهف، ومن ذلك ما قاله في عمله كبائع متجوّل:
كم طويتُ القفار مشياً وحملي/ فوق ظهري يكاد يقصم ظهري
كم قرعتُ الأبواب غير مبالٍ/ بكلالٍ أو قرّ فصلٍ وحرّ
كم ولجتُ الغابات واللّيل داجٍ/ ووميض البروق شمسي وبدري
كم توسّدتُ صخرةً وذراعي/ تحت رأسي وخنجري فوق صدري
وحين كان الشعر يحمله إلى عوالم القلب والحبّ، كان مسعود سماحة يُسفر عن مزيدٍ أخّاذ من شاعريّة دافقة ورقّة يانعة. وممّا قاله في ذلك:
لو مــلكتُ الدنا ســماءً وأرضاً / لوضعــتُ الأكــوان بين يديكِ
ولقــلَّدتُ جيدك الشمــسَ والبدرَ/ وصغـتُ النجوم في قرطــيك
وجعلتُ الورود حــولك تــنمــو/ واحمــرار الورود في خــدَّيــك
ولألقيتُ ما ملكتُ، وزنــــــدي/ وفؤادي، والروح في راحتَيْك!
وفعلتُ الذي فعلت لعلِّـــــــــــي/ أسعدُ النفس بالوصول إليـــك
والمُلاحظ للغاية كان إعجاب الشاعر إيليا أبو ماضي به، إذ وصفه مرّة بأنّه "شاعر حياة ووجود في الصميم". ولطالما دارت بينهما مُناظراتٌ شعريّة غنيّة كان أشهرها "مناظرة القهوة"، حيث أهدى سماحة صديقه "أبو ماضي" مجمعاً من البنّ الفاخر، ومعه قصيدة جاء فيها:
أدرها قهوةً كعصير بكرٍ/ تجلّت في الكؤوس بكفّ بكر
كأنّ المسكَ يغلي حين تغلي/ ويجري في الأواني حين تجري
وأجابه الشاعر إيليا أبو ماضي بقصيدة طويلة جاء فيها:
شربناها على سرّ القوافي/ وسرّ الشاعر السمح الأبرّ
سقانا قهوتَيْن بغير مَنٍّ/ عصير شجيرة وعصير فكر
فيا لك شاعراً لبِقاً لعوباً/ كأنّ يراعه أنبوب سحر
يفيض سلاسة في كلّ لفظ/ ويجري رقّة في كلّ سطر
كان مسعود سماحة قنديلاً من شعراء عرب عاشوا ونظموا شعرهم في البلد الذي هاجروا إليه. برزَ في غير ميدان، شاعراً وضابطاً ورجل أعمال. لكنّه كان المنبريّ الأوسع شهرة في أوساط الجاليات العربيّة في واشنطن. وعندما غاب، غاب معه صوتٌ نقيٌّ وغنيٌّ قلّما جرى الاهتمام به في بلده، وفي بلدان العرب قاطبة.
*كاتب وإعلامي من لبنان - مؤسسة الفكر العربي