حرب أوكرانيا.. وانقسامُ الاقتصاد العالَميّ
عدنان كريمة*
منذ انهيار جدار برلين الذي مثَّل الانطلاقة الأكبر للعَوْلَمة، كانت القضايا السياسيّة الشائكة دائماً على الهامش، من دون أن تؤثِّر على مَصدر الأوكسجين الرئيسيّ للنموّ الاقتصاديّ العالَميّ. لكنّ تداعيات حرب أوكرانيا، وما صاحَبها من عقوباتٍ تتصاعد ضدّ روسيا، وما تحمله من تبعاتٍ "جيوسياسيّة"، بدأت تضرب المَفاصِل السياسيّة للعَوْلَمة الاقتصاديّة التي ميَّزت نهاية القرن العشرين والعقدَيْن الماضيَيْن من القرن الحاليّ، فجَعلتِ القضايا "الجيوسياسيّة" في صلب قرارات المُستثمِرين، وبدأتْ جهود الشركات تتركَّز على نقْلِ الأعمال إلى المركز والتخلّي تماماً عن تعاقُدات الأطراف، وهو الاتّجاه العكسيّ للعَوْلَمة.
وفي خضمّ التطوُّرات التي تُرافِق تداعيات حرب أوكرانيا، جاء تحذير المدير العامّ لصندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا من مخاطر انقسام العالَم إلى كتلٍ "جيوسياسيّة"، وتعميق البؤس الاقتصادي وارتفاع شدّة مُعاناة الناس في البلدان الغنيّة كما الفقيرة، في وقتٍ يُواجِه فيه الاقتصاد العالَمي أكبر اختبار له منذ الحرب العالَميّة الثانية.
لقد وفَّرت العَوْلَمة على مدى عقودٍ خفْضَ تكلفة الإنتاج وتوسيع نِطاق التجارة والسلع والخدمات، وأَسهم ذلك في تراكُم الثروات بشكلٍ كبير، وفتْحِ الباب أمام بعض الاقتصادات الصاعدة للاستفادة من استراتيجيّات الاستثمار وعمليّات الشركات الكبرى. وفي ظلّ تطوُّر المؤشّرات الإيجابيّة، تعزَّزت قوى التكامُل الإنتاجيّة ومستويات المعيشة، وتضاعَفَ حجْم الاقتصاد العالَمي ثلاث مرّات، وتمَّ انتشال 1.3 مليار إنسان من براثن الفقر المدقع. وإذا كانت العَوْلَمة قد أَسهمت في تراكُم الثروة بعشرات الأضعاف، فهي في الوقت نفسه وسَّعت الهوّة بين الأثرياء والفقراء. ولكنْ يبدو أنّ تأثير انتهاء العَوْلَمة سيكون أوسع نطاقاً ويطال الاقتصاد بكامله. ومن هنا جاء تحذير كريستالينا غورغييفا من مجموعة كوارث سيُواجهها العالَم، سببها وباء "كوفيد-19" وارتفاع أسعار الغذاء والطّاقة، وتشديد الأوضاع الماليّة وتعطيل سلاسل التوريد وخَطَر المناخ، إضافة إلى تصاعُد التوتّرات. ووفق بحوث صندوق النقد الدولي فقد أدّى عدم اليقين بشأن السياسات التجاريّة وحدها إلى انخفاض النّاتج المحلّي الإجمالي. ومنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا أَقدمت نحو 30 دولة على تقييد التجارة في الغذاء والطّاقة والسلع الأساسيّة الأخرى، حتّى أنّ تكاليف مزيد من التفكُّك ستكون باهظةً عبر البلدان.
حربٌ اقتصاديّة
في الواقع، فَرضتِ الحربُ الروسيّة الأوكرانيّة تداعياتٍ سلبيّة عدّة على الاقتصاد العالَمي، وأرْبَكَتْهُ بشكلٍ غير مسبوق، وأَضعفتْ ثقةَ المُستثمِرين والمُستهلِكين، وذلك وسط ارتفاع تكاليف المعيشة للعديد من الأُسر حول العالَم. ويُرتقب أن تتفاقَم أكثر فأكثر، مع احتمال طول فترة الحرب وتوسيع نِطاقها، وتشديد العقوبات على موسكو، وقيام هذه الأخيرة بفرْض عقوباتٍ مُضادّة على الغرب، وخصوصاً بعدما وصفَ الرئيس فلاديمير بوتين هذه العقوبات بأنّها بمثابة "إعلان حرب اقتصاديّة"، ومؤكِّداً بأنّ موسكو لن تحيط نفسها بـ "سِتار حديدي" مثلما فَعَلَ الاتّحاد السوفياتي، عندما انهارَ في أكبر كارثة "جيوسياسيّة" في القرن العشرين، ولن ينعزل الاقتصاد الروسي عن العالَم. مع العِلم أنّه منذ بداية آذار/ مارس الماضي، تمَّ تصنيف البحر الأسود منطقةً عالية المخاطر، ما أدّى إلى رفْعِ أقساط التأمين المطلوبة لشحْن البضائع، وتأخُّر الشحنات، وازدحام الموانئ، فضلاً عن تعطيل خطوط إنتاج السيّارات بسبب ارتفاع مَخاطر نقص الرقائق بين الشركات في روسيا، التي تُعتبر ثالث أكبر مَورد في العالَم للنيكل المُستخدَم في صناعة بطّاريات اللّيثيوم، كما توفِّر 40 في المئة من البلاديوم، في حين يأتي 90 في المئة من موادّ النيون المطلوبة لصناعة أشباه الموصلات من أوكرانيا. الأمر الذي يضيف المزيد من العراقيل أمام سلاسل التوريد الضعيفة في الأساس. وفي ظلّ هذه التطوُّرات، تصاعدت التحذيرات من دخول الاقتصاد العالَمي مَوجةً من الركود، وخفَضَ البنك الدولي توقّعاته للنموّ من 5.5% قبل الحرب إلى 4.1%، ثمّ عدَّله إلى 2.9% للعام الحالي، وعلى أمل أن يتحسّن إلى 3.2% في العام المُقبل. ورجَّح البنك أن يستمرّ النموّ الضعيف طوال العقد بسبب ضُعف الاستثمار في معظم أنحاء العالَم، مع ارتفاع التضخُّم إلى أعلى مستوياته.
ولوحظ أنّ الحرب الاقتصاديّة شَملت عقوباتٍ مُتبادَلة، فمِن جانب الغرب فَرضت الولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبي والمَمْلكة المتّحدة واليابان وكندا وأستراليا، قيوداً على المُعاملات الماليّة التي يُشارك فيها البنك المركزي الروسي، ما يؤثِّر في احتياطاته وأصوله وصندوق الثروة الوطني ووزارة الماليّة، واستهدفت البنوك الروسيّة، حيث أزالت الكبرى منها من نِظام الرسائل الدولي "سويفت"، الأمر الذي سبَّب تأخير مدفوعات صادراتها من النفط والغاز. كما فَرضتْ عقوباتٍ واسعة النّطاق على نحوٍ متزايد، استهدَفت الأفراد والبنوك والشركات الكبرى المملوكة للدولة. ولعلّ أكبر هذه العقوبات وأكثرها تأثيراً، تجميد جزء كبير من حسابات روسيا الخارجيّة البالغة نحو 640 مليار دولار، ويقع نحو نصف هذا المبلغ في الولايات المتّحدة وأوروبا. أمّا موسكو فقد ردَّت بعقوباتٍ تضمَّنت قائمةَ مَنْعٍ طويلة، شمَلت مدفوعات الفائدة للمُستثمِرين الأجانب الذين لديهم سندات حكوميّة، ومَنعت الشركات الروسيّة من الدَّفع للمُساهمين الأجانب الذين يمتلكون مليارات الدولارات من بَيع الأسهم والسندات، وأَعلنت بَيع وقودها بعيداً عن العملة الأميركيّة، وفتْح الباب لشراء النفط والغاز بالروبل والعملات العالَميّة الأخرى، في خطوةٍ تهدف إلى إزاحة الدولار عن "عَرش الطّاقة".
وعلى الرّغم من صمود الروبل، مُستنِداً إلى دفاعاتٍ ماليّة عملاقة بَنَتْها روسيا خلال السنوات السبع الماضية، حتّى اكتسبت لقب صاحبة "الاقتصاد الحصين"، إلى جانب فائض حساب جارٍ بنسبة 5% من النّاتج المحلّي، ودَين يبلغ 20% فقط من النّاتج، وانخفاض التزاماتها "الدولاريّة" من 80% إلى 50%، مع الأخذ بالاعتبار تحقيقها عائدات بلغت نحو 93 مليار دولار من صادرات الطّاقة الأحفوريّة، خلال الـ 100 يوم الأولى من الحرب، فإنّ اقتصادها قد لا يصمد أمام حملة عقوبات منسَّقة من الغرب. ويتوقَّع المُراقبون أن تكون هذه العقوبات مؤلِمة وموجِعة، ولَو بعد حين.
ومع الارتفاع الهائل والمُستمرّ في أسعار الوقود والكهرباء، يزداد شعور الناس العاديّين في الدول الغربيّة بأنّ العقوبات المفروضة على روسيا تضرّ بهم أكثر ممّا تضرّ بالاقتصاد الروسي المُستهدَف. ويَطرح بعض المُراقبين أفكاراً مختلفة تتعلّق بالنفط والغاز الطبيعي، وكان هناك شبه إجماع في جلسة نقاش استضافها "المجلس الأطلسي" على ضرورة "إعادة تنظيم" العقوبات على قطاع الطّاقة الروسي، لجهة استهداف عائدات البلاد من تجارته، بدلاً من تقليل حجْم الصادرات، وبالتالي دفْع الأسعار العالَميّة نحو الارتفاع الصاروخي. ولذلك يُخشى أن يؤدّي استمرار الحرب والعقوبات إلى مزيدٍ من الأزمات حول العالَم، بما فيها الدول التي تفرض هذه العقوبات. وفي إطار الخسائر التي تُلاحِق الاقتصاد العالَمي جرّاء الأزمات "الجيوسياسيّة" التي انتقلت إلى جميع الأسواق، سجَّلت ثروات أكبر 10 أثرياء في العالَم خسائر حادّة، بَلغت نحو 330 مليار دولار، لتتراجَع قيمتها المجمَّعة من 1515 مليار دولار في بداية العام الحالي إلى نحو1185 مليار دولار. حتّى أنّ الخسائر شَملت اليابان، إذ زاد عددُ شركات التجْزئة في قطاع الكهرباء التي أَعلنت إفلاسها وسط أزمةِ طاقةٍ عالَميّة، وبَلغت نسبتها 15% من نحو 700 شركة تعمل في القطاع. وتُشير بيانات نشَرها "بنكتيكوكو" إلى أنّ عدد الشركات المتضرِّرة بَلغ 104 شركات، وقد تزايَدت إلى ثلاثة أضعاف العدد عن آذار (مارس).
انقسامٌ عالَميّ
لا شكّ في أنّ العالَم بعد حرب أوكرانيا سيكون مُختلفاً كثيراً عمّا قبلها، ومن الطبيعي أن ينقسم الاقتصاد العالَمي تدريجاً بين كتلتَيْن مُتنافستَيْن. وإذا كانت هذه الحرب قد بدأت تُسرِّع نهاية العَوْلَمة، فإنّه سيكون لذلك تأثيرٌ كبير على الاقتصاد العالَمي، وعلى أسعار السلع وطريقة تطويرها، وسيدفع الثمنَ دولُ العالَم الثالث.
لقد سبق أن شهدَ الاقتصادُ العالَمي حالَ انقسامٍ بدأت مع الحرب التجاريّة التي شنَّها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ضدّ الصين، واستمرَّت خلال جائحة "كوفيد-19"، وتتسارع وتيرتها حاليّاً مع الحرب الروسيّة على أوكرانيا؛ ولكن يبدو أنّ الاقتصاد العالَمي سينقسم في المرحلة المُقبلة إلى كتلٍ مُنفصِلة، واحدة تتمحور حول الصين، وأخرى حول الولايات المتّحدة مع الاتّحاد الأوروبي، ويُحاوِل كلّ تكتُّل عزْلَ نفسه، ثمّ العمل على إضعاف التكتُّل الآخر. وتَبرز في هذا المجال أهميّة نجاح "الحصار المالي" ضدّ روسيا، وخصوصاً لجهة تجميد احتياطات البنك المركزي الروسي، في ضوء حقيقة التحالُف المؤيِّد للعقوبات والذي يضمّ غالبيّة النظام المالي العالَمي، وجميع المؤسّسات الماليّة الرئيسيّة، باستثناء البنوك الصينيّة التي لا تُريد بدَورها أن تبتعد من هذا النظام. وفي الوقت نفسه قد يؤدّي الخوف من احتمال إفراط واشنطن في استخدام قوّتها الماليّة الى تحفيز الدول الأخرى على إيجاد بدائل أفضل للدولار، ونظام المدفوعات المُتمركِز حوله، مع الإشارة إلى أنّ تجربة روسيا سَبق أن أَوضحت أنّ تنويعَ دولةٍ ما احتياطاتها بين اليورو واليوان، وحتّى الذهب، لن يُساعد في شيء ما دام المُشاركون الآخرون في السوق يخشون الاستبعاد من نظام الدولار، ولاسيّما أنّه في هذه الحالة لن يكون هناك طَرَفٌ أخر تبيع هذه الدول احتياطاتها له.
ويأتي في سياق "الانقسام العالَمي"، إطلاق الرئيس الأميركي جو بايدن في أيّار (مايو) الماضي مُبادَرة تجاريّة مع 12 دولة من المُحيطَيْن الهندي والهادي في أوّل جهدٍ له لتعزيز المُشارَكة الاقتصاديّة في المنطقة، ومُساعدة الدول الحليفة في مُقاومة الضغط الصيني، ويُمثِّل هذا التكتُّل نحو 40% من الاقتصاد العالَمي. وفي الوقت نفسه، تسعى روسيا والصين للتعامُل بعُملتَيْهما مع دول تكتُّل "البريكس" الذي يضمُّهما مع ثلاث دول أخرى هي الهند، البرازيل، وجنوب أفريقيا، وخصوصاً أنّ لدى هذا التكتُّل فرصةً ليكون أقوى تكتُّلٍ اقتصاديٍّ في العالَم. ووفق بيانات البنك الدولي، بَلَغَ حجْمُ ناتجه الاقتصادي نحو 16.5 تريليون دولار. وبلغت احتياطاته من العملة المُشترَكة نحو 4 تريليونات دولار، نصْفها تحقَّق في السنوات الأخيرة. إضافة الى ذلك، يعمل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسيّة، بجانب بنك التنمية الجديد الذي أسَّسته المجموعة في العام 2014، كبديلٍ واضحٍ ومُنافِسٍ للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللّذَيْن تُهيْمِن عليهما الدولُ الغربيّة بقيادة الولايات المتّحدة.
*كاتب ومحلّل اقتصادي من لبنان - مؤسسة الفكر العربي