المرأة بين هَوَسِ التسوّق وإيديولوجيا الجمال
وفاء البوعيسي*
لماذا تتهافت النساء على التسوُّق؟ سؤالٌ يتردّد بقوّة بين الحين والآخر، يرافقه انطباعٌ راسخ بأنّ النساء مولعاتٌ بالتسوُّق وتبذير المال على سلعٍ ومعروضاتٍ يُمكن، في الغالب الأعمّ، الاستغناء عنها. أمّا الإجابات على وجه الإجمال، فتكاد تجزم بهوس النساء بالاستهلاك والإفراط فيه، لأنّهنّ، وكما يُقال، لا يتعبْنَ في جني المال، فهو غالباً ما يكون مال الزوج أو الأب، كما أنهنّ لا يقدّرن قيمة الوقت الذي يُمكن تمضيته في نشاطاتٍ أكثر فائدة!
ساد هذا الانطباع طويلاً، حتّى حلّ قرننا الحالي بتقدُّم علومه ومنطق شروحاته العقلانيّة، ليُقدِّم تفسيراتٍ نفسانيّة وأنثروبولوجيّة جديدة، تربط السلوك الاستهلاكي للمرأة والرجل بماضي أسلافهما البعيد، من خلال آليّات علم النّفس التطوّري، والذي قدَّم حججاً معمّقة لعددٍ من سلوكيّات الإنسان الحديث وعاداته، ومنها التسوّق.
ومن بين أبرز العُلماء الذين قدّموا تفسيراتٍ منطقيّة، لاختلاف المرأة عن الرجل في مسألة التسوّق، كان البروفسور دانيال كروجير Daniel Kruger، المُحاضر في علم النَّفس التطوّري في جامعة ميتشغان، مستنداً إلى دراسة تناولت قضايا البحث عن الغذاء وطرائقه لدى أسلافنا من الجنسَين منذ آلاف السنين (نُشرت أطروحته في مجلّة عِلم النَّفس الاجتماعي والتطوُّري الثقافي عدد كانون الأوّل/ ديسمبر 2009).
أسلوب التسوُّق وفق عِلم النَّفس التطوّريّ
بدأ الأمر عندما لجأ الأسلاف إلى تقسيم النشاطات المتعلّقة بتوفير الطعام للأسرة، فتوجَّب على الرجال القيام بنشاط الصيد، في حين توجّب على النساء القيام بنشاط جمْع الثمار. كان السبب، على الأغلب، يعود للتكوين الجسدي للرجال في ما خصّ الصيد، ولاحتياج الرُضّع والضعفاء لخدمات النساء وعنايتهنّ في ما خصّ القطاف. وحدث أن انفرد كلُّ نشاطٍ على حدة، بآليّاتٍ واستراتيجيّات حافظت على الأمن الغذائي والمعيشي للعائلة على مدى قرون.
في نشاطات الصيد، كان على الرجل أن يعرف الكثير عن الاتّجاهات الجغرافيّة والبيئيّة، ويعرف مواسم هبوب الرياح وسكونها حتّى لا يُفوِّت على نفسه تسديدة الرمح، وأن يتعلّم نصب الشراك، ويعرف مواسم هجرة الحيوانات وتزاوجها وأوقات خروجها بحثاً عن القوت، وتدريب صغارها على الطيران، فيسترخي مرتاحاً في كهفه حتّى يحلّ الوقت المناسب، ليخرج بعدها من خلوته إلى المكان الذي يتوقّع فيه ظهور الطريدة. وهو يقوم بذلك وحده غالباً كي لا يُثير ضجّةً تجفل معها الفرائس، ويُسدّد رمحه ليصيب الطريدة المُستهدَفة من الرمية الأولى. وحين يُرديها، يحملها على كتفه ويقفل بسرعة عائداً إلى كهفه عبر مخارج يعرفها مسبّقاً، تجنّباً لمُواجَهةٍ محتومة مع أمّهات الطرائد الحائرة في الجوار؛ وهكذا بانتظار موعد الصيد التالي.
أمّا في مواسم القطاف، فكان على المرأة أن تتعلّم الكثير عن طبيعة الثمار، ومواقيت نضجها، ونصاعة لونها، وأن تتحسّس كلّ ثمرة لتتأكّد من خلوّها من الحشرات، ومن الفجوات التي تُسبِّبها الطيور، ومُعاينة النباتات الورقيّة بدقّة للتأكُّد من خلوّها من البقع الصفر واليرقات المُختبئة في طيّاتها حتّى لا تضرّ بعائلتها، ولأنّها قد تفكّر في استزراع بعضها. علاوة على ذلك، حرصت المرأة كلّ الحرص، على رصْد الأشجار التي توشك ثمارها على النضج استعداداً لمرحلة القطاف التالية.
ولأنّ الثمار تتحلّل بسرعة نتيجة أسلوب تخزينها البدائي، فالمرأة مضطرّةٌ للعودة إلى القطاف مرّة كلّ أسبوع، وفي كلّ مرّة كانت تَخرج بصحبة أُخريات للتعاوُن على حمْلِ منتوجهنّ، كما كانت تصحب طفلتها معها، إمّا لتعذُّر ترْكها في البيت أو لتعليمها كيفيّة إعداد مائدة صحيّة لأسرتها.
هكذا ترسّخت استراتيجيّات الصيد في اللّاوعي والمُمارسة لدى أسلافنا الرجال، وتمكّنت منهم حتّى صارت قواعد حياة لا يغيّرونها. كما ترسّخت، في المقابل، استراتيجيّات القطاف لدى جدّاتنا الأوّليّات، وصارت بمثابة طبائع مُلازِمة.
وعلى مرّ الزمن، صمدت آليّات الصيد والقطاف، وحلّت في كلّ مكان استوطنه الإنسان، وطوَّر خلاله عمليّة الزراعة والصناعة ولعبة الإنتاج وبناء الاقتصاد، واستطراداً افتتاح الأسواق وانفجار ظاهرتها، حتّى ألفى نفسه لاحقاً أمام أكثر مراكز التسوُّق شهرةً في عالَمنا الحاضر: نيويورك، باريس، روما، لندن، دبي، شنغهاي، والكثير من مُدن العالَم.
من هنا سنفهم، ولاسيّما مع تشابُك الحياة الحديثة وتعقّدها، لماذا يتعجّل الرجل في تسوّقه، حين يدخل مضطرّاً لمتجرٍ ما لشراء كريم حلاقة مثلاً. سيبحث بسرعة عن لافتة تحيله إلى قسم الرجال، فإن لم يجدها سأل أوّل عاملٍ في المكان عن غرضه، ليذهب مسرعاً إلى المكان المُخصَّص، فيستلّ منه الغرض المعني ويدفع ثمنه ويغادر على الفور.
كما سنفهم على النقيض من ذلك، تباطؤ المرأة وتأرْجُح قرارها في عمليّة التسوّق، وهو قرار يُترجِم نفسه، أوّلاً، في أخْذ جولة مستقيضة لها على عموم محالّ مركز التسوّق المعنيّ، وتفقُّد الأرفف كافّة، وخصوصاً في معرض بحثها عن عطرٍ نسائي بعَينه. وثانياً حين نراها تتفحّص القارورة المَعنيّة، وطبيعة الموادّ العطريّة التي تحتوي عليها، ونسبة تركُّز الكحول فيها، ثمّ السعر، وبلد المنشأ، لتتحوّل بعدها إلى نَوعٍ آخر من العطور.. وهي تفكّر، بميزانيّتها، والمدّة المقدّرة لاستهلاك العطر وأمورٍ أخرى، وبعد ذلك تقرّر.
وفي طريقها للدفع، ستتأمّل المرأة مُستلزمات خاصّة بالأطفال، على الرّغم من أنّها ليست أمّاً بعد، وموادّ التجميل، على الرّغم من أنّ زوجها لا يحبّذها، وبطاقات المعايدة، على الرّغم من أنّ تبادُل البطاقات ليس شائعاً في ثقافتها، وأدوات المطبخ، على الرّغم من أنّ مطبخها مكتظّ بها، وأدوات الرياضة، على الرّغم من كونها لا تُمارس الرياضة. ولا مانع لديها من إلقاء نظرة على المخبوزات والأشربة والحقائب والأحذية، وحين يروق لها حذاء ما، نراها تعمد لتجربة "الفردتَين" معاً، فتتمشّى بهما قليلاً مركّزة على السعر، فإن لم يناسبها، أجّلت الشراء لموسم التخفيضات المُقبل.
وهكذا نلحظ أنّ نشاط التسوُّق لدى الرجل هو لتلبية حاجة ملحّة. بينما هو عند المرأة مشروع مستمرّ لرصد كلّ جديد، ومحاولة شرائه إن أمكن. كما أنّه مناسبة تتذكّر فيها المرأة احتياجات صديقاتها وقريباتها وجاراتها، لتُخبرهنّ عن المكان والسعر.
وهكذا فالتسوّق بالنسبة إلى النساء طقسٌ اجتماعيٌّ وترفيهيٌّ مُحبَّب، قد تُشرك فيه حتّى أطفالها بهدف التسرّي عنهم، وإخراجهم من رتابة البيت والمدرسة، حيث يلعبون ويمرحون من حولها، ويعودون بعد ذلك محمّلين بألعاب أو بقطعٍ من الحلوى.
المتسوّقون المُختبئون في ظلّ النساء
تُحدِّثنا بريجيت برانن Bridget Brennan، المؤسِّسة والرئيسة التنفيذيّة لشركة Female Factor والباحثة في دراسة السلوك الاستهلاكي على أساس النَّوع (Gender) بمقالة مطوّلة، مقدّمةً تفسيرها الاجتماعي الذي لا يخلو من وجاهة ، إذ ترى أنّ السبب الكامن وراء تصدُّر المرأة نشاط التسوُّق في كلّ الثقافات، لا ينتج بالضرورة عن كونها مُدمنة على الاستهلاك، بل لطبيعة التقاليد التي تُحيط بالنساء عموماً في العالَم كافّة.
إنّ المرأة في كلّ مجتمعٍ تقريباً، تتحمّل مسؤوليّة تقديم الرعاية والخدمات للأطفال وكِبار السنّ والمرضى ممَّن هم في عهدتها، فضلاً عن الزوج الذي هو ركن أساس من أركان اهتمامها، وجميع هذه الفئات تُعلن كلّ يومٍ عن حاجتها لغرض أو خدمةٍ ما؛ لهذا تجد المرأة نفسها مضطرّةً لشراء حاجيّات أو تدبير خدمات نيابة عن كلّ هؤلاء.
على مدار حياتها تقريباً، تقوم المرأة بمهمّة شراء كلّ ما يحتاجه البيت من طعام وشراب ومستلزمات تنظيف وأثاث وملابس للأطفال، فهي تبتاع احتياجات ابنها حتّى قبل أن يولد، وبعد أن يولد، وحتّى يصل إلى سنٍّ متقدّمة. كما تبتاع سائر احتياجاته المدرسيّة والترفيهيّة والعلاجيّة. كما تبتاع للزوج وكبار السنّ ممَّن حولها، احتياجاتهم كلّها، الكبيرة منها والصغيرة.
هؤلاء في الواقع هُم المشترون الحقيقيّون، لكنّهم يتخفّون في ظلّ المرأة التي تنوب عنهم جميعاً أمام آلة البيع.
إنّ المرأة المسؤولة عن عائلة، تجد نفسها مَعنيّة بالتسوّق، ليس للأشخاص الذين يعيشون معها فقط، بل حتّى لأصدقائهم وأقربائهم وزملائهم في العمل؛ فهي تفكّر في الوجبة المناسبة لضيوف زوجها، فتُعدّ لهم وليمةً مُعتبرة، لا تنقصها الفاكهة والحلويات، وحتّى الزهور على المائدة. وهي تتذكّر أن تشتري هديّة لمعلّمة طفلتها في المدرسة في يوم عيد المُعلّم حتّى لا تُحرجها أمام زميلاتها. كما ستشتري هديّة عيد ميلاد لصديق ابنها الذي يدعوه لحضور احتفالٍ صغيرٍ في بيته، أو قد تعدّ له كعكة ميلادٍ مُغرية. كما تبتاع الهدايا والمشروبات وبطاقات التهنئة في المناسبات العائليّة، كالزواج والنجاح والتقاعُد وقدوم المواليد، وهي تتذكّر أعياد ميلاد معظم مَن حولها، وتُبادر إلى شراء الهدايا المُناسبة لكلٍّ منهم... إلخ.
ما تفعله إيديولوجيا الجَمال
مرّة أخرى نعود إلى الماضي البعيد، لنفهم حمّى الاستهلاك الشخصي التي يُقال إنّ المرأة مصابةٌ بها. إنّ النظام الذكوري في تشكُّله، حرص على التمييز بين الرجل والمرأة، فظفر الرجل بالعقل والتدبير، واختُصَّت المرأة بالجسد والمشاعر، وكان الرجل هو السيّد ومُعيل الأسرة، والمرأة خادمته المُطيعة، المُلتزمة بترفيهه ورعاية أطفاله، وبهذا تركّزت أدوار النساء في وظائف الإنجاب والخدمة، والرجال في السيادة عليهنّ.
هذه العلاقة غير المُتكافئة، بين الرجل كذاتٍ والمرأة كجسدٍ وحيازة، صمدت أمام التقلّبات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، لتتجذّر عميقاً في كلّ ثقافة؛ وبتعبير شيستا مالك Shaista Malik (أكاديميّة تكتب في تشييئ المرأة في الثقافة الاستهلاكيّة) فإنّ المرأة في النظام الأبوي داومت باستمرار على تملُّق الرجل (International Journal of Gender and Women’s Studies, December 2014,Vol.2, No4,p87) بتجميل نفسها له، والخضوع لرغباته والاستسلام لأوامره؛ وبهذا غَدت هي المشهد وهو المتفرّج. وإن حدث لاحقاً واستطاعت المرأة التخفيف من وطأة تقييد حياتها بعد نضال، وبمساعدة الأفكار النسويّة، فقد تمكّنت - والكلام لشيستا مالك - من التخلّص ممّا يُسمّى بـ"الأدوار الأنثويّة"، لكنّها لم تستطع تخليص نفسها من "الصورة الأنثويّة" التي لا تزال ترى فيها محض جسدٍ خُلق ليُرفِّه عن سيّده. وهو الأمر نفسه الذي يؤكّده إفرات تسيلون Efrat Tseelon المُهتمّ بما بات يُعرف بـ"إيديولوجيا الجمال" The Ideology Of Beauty ، إذ يعتقد أنّ المرأة التي اختُزِلت في جسدها من قبل الثقافة الذكوريّة، تحوّلت لذاتٍ جسديّة جوهرها الجمال الخارجي، الذي يقرّره الرجل وحده، وقد عجزت هي عن تقديم نفسها كإنسانةٍ مُكافئةٍ له، في مجتمعٍ شكّل الاختلافُ الجنسيُّ فيه جزءاً من أيديولوجيّته المُهيمِنة. وبهذا سيكون من المتوقّع أن تتحدّد هويّتها، ويُحكم على ذاتيّتها من ضمن أنموذجٍ جسديّ جماليّ وحسب، ويتمثّل هذا الأنموذج في إنكار جسدها الطبيعي الفطري، لكونه قابلاً للتقلُّب والهرم، بإعادة ضبطه وتحسينه.
وفق تسيلون، سوف يُنتزع الجسد الأنثوي عنوةً من عِلم الأحياء ليُعانِد الزمن، ويُعاكِس تنوّعات الجغرافيا، وخصائص الإثنيّات وإملاء الجينات، ليتمّ إعادة تهذيبه وزخْرفته في معامل عيادات التجميل ومُستلزمات الزينة، بفضل ثقافة الاستهلاك.
ولذيوع الاستهلاك بين النساء وارتباطه بهنّ حصراً، قصّة فَرَضَها ظهور الموضة للمرّة الأولى. فبحسب "كوين ه. نجو" Quyen H. Ngo المهتمّة بموضوع الاستهلاك والأنوثة، أنّ الموضة بدأت بالظهور في القرن الثامن عشر، أي في العصر الفيكتوري، وقد اتَّسمت وقتها بالإيقاع السريع جدّاً من خلال التنوُّع الذي بدأ يظهر في وفرة الأزياء ومُستحضرات التجميل من حيث الشكل والخامة والأسلوب، بدل أن يأخذ عقوداً وأجيالاً من أجل تبنّيه والاقتناع به. وبحلول القرن التاسع عشر، بدأ مصمّمو الموضة يُدقّقون في مسألة استئثار المرأة بمهمّة الشراء، بوصفها جزءاً من عَملها كربّة بيت، واستغلالها بهدف تسويق مُنتجاتهم لها، ومن وقتها بدأ التخطيط للقيام بحملات إعلانيّة مكثّفة استهدفت ربّات البيوت والعاملات بتعليمهنّ كيفيّة إنفاق المال على أنفسهنّ والعناية بجمالهنّ لأجل أنوثة نضرة، جذّابة ومُستدامة.
ومع الوقت، ظهر ما يسمّى اليوم بالمُحاكاة الاجتماعيّة Social simulation، المتمثّلة بقيام المراتب الدنيا في المُجتمع بتقليد المراتب العليا، في قفزةٍ واضحة على الفجوة بين الطبقات الاجتماعيّة. وتُقدِّم السيّدة "كوين ه. نجو" كثيراً من المصادر في بحثها، لدعم فكرة أنّ المُحاكاة الاجتماعيّة كانت هي بالذات السبب الكامن وراء النزعة الاستهلاكيّة التي نعرفها اليوم. أمّا طلب المُستهلِك نفسه، فكان هو مفتاح الثورة الصناعيّة.
وقد انصبّت أعمال الدعاية الموجَّهة للنساء قديماً، كما الآن، على تقديم أيقونات الجمال العالَمي المثاليّة بعرْض أجساد الممثّلات وعارضات الأزياء، وجعْلهنّ المثال الوحيد والحصري للجمال لجذْب المُستهلِكات إلى فخّ الاستهلاك.
لقد قُدّمت تلك الأيقونات دائماً كنماذج لا تكبر، لا تترهّل، لا تَهرم، لا تسمن، ملساء ودائمة النضارة؛ ولاحقت النساء عبر عقوٍد طويلة، تحرّشت بهنّ في كلّ ثقافة استطاعت الوصول إليها، فظهرت صورهنّ في الشوارع والمجلّات والسينما وفي دعايات الجرّارات الزراعيّة والعطور الرجاليّة، بل وعلى علب الطماطم وأكياس الطحين.
هذا الغزو الملحاح لعقول النساء، كان يهدف إلى تعويدهنّ نفسانيّاً على الالتزام بالنزعة الاستهلاكيّة، عبر ربط مُنتجات الموضة المُقترَحة بأيقوناتِ الجمال تلك. ومن هنا بدأ تصميم هويّة الأنثى المُستهلِكة، من خلال ثقافة الاستهلاك نفسها التي تتفنّن في استحداث حاجيّاتٍ مُصطنَعة لهنّ، ويتبارين هنّ في استهلاكها بنَهَمٍ ملحوظ، رغبةً منهنّ في استبقاء نضارتهنّ وشبابهنّ إلى الأبد.
المرأة مَشهَد والرجل مُتفرِّج
إنّ إيديولوجيّة الجمال التي يُخبرنا عنها إفرات تسيلون Efrat Tseelon تُجبر المرأة على العيش في وضعٍ فصاميّ مأزوم، فهي إن لم تُفلح في إخضاع جسدها الفطري للانضباط الذي فرضته سياسات الجمال المُعوْلَمة، فهي لن تكون مقبولة في سوق العمل والزواج، وستكون مُدانةً باعتبارها قبيحة ولا تُساير شروط الجمال العالَميّة. أمّا إذا نجحت، فهي ستُثبت أنّها لا تزال تدور في فلك النظام الذكوري الذي يُحدِّد قيمتَها من خلال مظهرها، وعليه فهي لا تزال تتملّق سيّدها وإن بأساليب برّاقة وعصريّة.
قصارى القول، إنّ المرأة حتّى اللحظة لا تزال تأخذ وضعيّة المَشهد، فيما الرجل يتمترس في وضعيّة المُتفرّج، وعليه فإنّ مؤشّر المرأة لا يزال يُراوح مكانه على مستوى هذَين الوضعَين القائمَين.
ولحسم القول بخصوص هَوس المرأة بالتسوُّق، يتوجّب الآن استجواب نواياها عند الشراء، وتحديد مَن المستفيد حقّاً من فرط الاستهلاك هذا.
يُخبرنا اقتصادُ الأسرة أنّ معظم مُشتريات المرأة إنّما يرتبط باحتياجات الأسرة بأكملها، وهي مَعنيّة، علاوة على ذلك، باتّخاذ القرار المناسب بشأن ماذا تبتاع؟، وكم تَستهلِك؟ وما الميزانيّة المُناسبة لتوفير مختلف الاحتياجات بلا تبذير أو تقتير؟.. وهي قد تُمارِس هذا النشاط على مضض، لكنّها تفعله لأجل الشريك، لا لأجل نفسها بالضرورة.
إذاً، إنّ تبضُّع المرأة للبيت يَخدم مصلحة العائلة، وما هي إلّا فردٌ واحد فيها، فهي في النهاية تشتري احتياجات الرجل وضيوفه وعائلته، وبيته وأولاده. أما المُشتريات المدفوعة لمستحضرات الزينة والريجيم وعمليّات التجميل...إلخ، التي تُرمِّمُ بها جسدها الذي هدّه الزمن والإنجاب والعمل على جبهتَين ربّما (البيت والعمل المأجور)، إنّما تفعله كيّ تظلّ نضرة ومُثيرة في عَين شريكها، وهو أمرٌ قد يُعرّضها – والكلام لكوين ه. نجو - لمتاعب وآلام صحيّة قد تفضي بها إلى الموت.
والمُفارَقة المُثيرة للسخرية برأيه، هي أنّ الثقافة الاستهلاكيّة المُعاصِرة، إنّما تتلاعب بالمرأة حين تجعلها تعتقد أنّها حرّة، وأنّها تتحكّم بنفسها وبجسدها، لكنّها في الحقيقة تقع في مصيدة مُطارَدة الجمال، لأنّها لا تعي أنّ الجمال المُطارَد، تمّ استحداثه من طرف الرجل، وعلى هذا يكون الرجل هو الناظر المُتمتّع بها في كلّ مرة تلهث فيها للقبض عليه، وهو أيضاً المنتِج للأفكار والأساليب التي تقوم هي باستهلاكها؛ فشركات الموضة، والأزياء، ومُستحضرات الزينة، وعيادات التجميل، ومَراكز التنحيف، والعطور... إلخ معظمها بأيدي الرجال، ما يعني أنّ استهلاك المرأة في النهاية، إنّما يصبّ في مصلحة الرجل، والمرأة بالتالي موجودة دائماً لتُرضي عَينه وتملأ جَيبه.
*كاتبة وروائيّة من ليبيا - مؤسسة الفكر العربي