د. خالد صلاح حنفي محمود*
مرّت شبكة الإنترنت منذ نشأتها وحتّى وقتنا الحاضر بثلاث مراحل، كانت الأولى خلال ذلك معنيَّة بالاتّصالات والولوج إلى مصادر المعلومات وكانت أدواتها بسيطة وغير معقّدة تمثّلت في البريد الإلكترونيّ وصفحات الويب. ثمّ جاءت المرحلة الثانية التي كانت معنيَّة بالاقتصاد الشبكيّ، حيث تمّ فيها مُمارَسة الأعمال المُرتبطة بالاقتصاد بصورة رقميّة، وكانت أدواتها مرتبطة بسلسلة القيمة للعمليّات الاقتصاديّة وتشمل وسائل الدفع غير النقديّ من عملات إلكترونيّة ومشفّرة. أمّا المرحلة الثالثة فعنيَت أكثر بالتواصُل بين المُستخدِمين بصورةٍ أكثر فاعليّة سواء كان تواصلاً لأغراضٍ اقتصاديّة أو تواصُلاً اجتماعيّاً تطوَّر عدّة مرّات في فترةٍ زمنيّة قصيرة وكانت أهمّ أدواتها منصّات التواصُل الاجتماعيّ والهواتف الذكيّة.
نأتي حاليّاً إلى المرحلة الرابعة، وهي ظهور الميتافيرس، حيث أعلنَ "مارك زوكربرج" مؤسِّس شركة الفيسبوك عن تغيير اسمها إلى "ميتا" ليقوم باستخدام تقنيّات الواقع الافتراضي Virtual Reality(VR) والواقع المعزَّز Augmented Reality(AR)، وذلك بصورة أكثر تكامُلاً وشموليّة. وقد أَطلق "زوكربرج" شعار شركته وهو جمْع الناس معاً Connecting People Together، لأنّ مبدأ الميتافيرس Metaverse أو "العالَم الماورائي" سيُحقِّق برأيه هذا الأمر باقتدار، وسيتمّ خلْق عالَم افتراضي مُتكامل يعيش فيه البشر بصورةٍ شبه دائمة ويستطيعون من خلاله القيام بما كانوا يقومون به من قَبل فضلاً عن أنماطٍ جديدة للتواصل والتسلية لم تكُن مُتاحة في السابق.
وأوّل مَن استخدمَ مُصطلح "الميتافيرس" Metaverse هو "نيل ستيفنسون" في رواية الخيال العلمي "Snow Crash" عام 1992. وتتكوَّن الكلمة من مقطعَيْن: الأوّل Meta وهو الاسم الجديد الذي تغيّرت إليه فيس بوك، ويعني "ما وراء"، والمقطع الثاني Verse الذي يأتي اختصاراً لكلمة Universe بمعنى "العالَم"، والكلمتان معاً تأتيان بمعنى "العالَم الماورائي". وقد قَصَدَ به "نيل ستيفنسون" في روايته تلك، العالم الافتراضي المملوك من قِبل الشركات، حيث يتمّ التعامُل مع المُستخدَمين النهائيّين كمواطنين يعيشون في "ديكتاتوريّة الشركات".
ويسعى "مارك زوكربرج" من خلال "الميتافيرس" إلى إنشاء عالَمٍ افتراضي يسدّ الفجوة بين العالمَين الواقعي والرقمي، لينشأ بذلك عالَمٌ ثالث افتراضي، يستطيع فيه الأفراد إنشاء حياة افتراضيّة لهم عبر مساحاتٍ مختلفة من الإنترنت، تسمح لهم بالتلاقي والعمل والتعليم والترفيه في داخله، مع توفير تجربة تسمح لهم ليس بالمشاهدة عن بُعد عبر الأجهزة الذكيّة فحسب كما يحدث حاليّاً، ولكن بالدخول إلى هذا العالَم في شكلٍ ثلاثيّ الأبعاد عبر تقنيّات الواقع الافتراضي. فمن خلال استخدام نظّارات الواقع الافتراضي والواقع المُعزَّز وارتداء السترات والقفّازات المُزوَّدة بأجهزةِ استشعار، يستطيع المُستخدِم أن يعيش تجربةً شبه حقيقيّة، تعمل فيها هذه التقنيّات الذكيّة كوسيطٍ بين المُستخدِمين في عالَم "الميتافيرس"، لإيصال الشعور بالإحساس المادّي، فيستطيع أن يرى المُستخدِم الأشياء من حوله بصورةٍ ثلاثيّة الأبعاد عبر النظّارة، كما يُمكن أن يشعر فيها بالمؤثّرات الجسديّة الحسيّة، كإحساس السقوط في المياه أو اللّكمة في الوجه أو غيرها، من خلال المُستشعرات الموجودة في السترات والقفّازات التي يرتديها، فيحصل على تجربة أشبه بالواقعيّة حتّى وإن كانت غير مباشرة.
ويُعَدّ "الميتافيرس" عالَماً اختياريّاً يُبنى وفق رغبات مُستخدِميه، فيستطيع الأفراد إنشاء عالَمهم الخاصّ بهم، وقد قسَّمه "زوكربرج" حتّى الآن إلى 3 عوالم أو آفاق Horizons كما أَطلق عليها، وهي "آفاق المنزل" أو Horizons Home، و"آفاق العمل" Horizons Workrooms، و"آفاق العالَم" Horizons world.
وعموماً لا تُشير "ميتافيرس" بالمعنى الأوسع إلى العوالِم الافتراضيّة فحسب، بل قد تُشير إلى الإنترنت ككلّ، بما في ذلك النطاق الكامل للواقع المعزَّز، وخصوصاً أنّ مُجتمع الميتافيرس يُركِّز على إيصال التعلّم الانغماسي للجميع قبل كلّ شيء.
مزايا التعليم باستخدام الميتافيرس
يَستخدم النّاس الإنترنت اليوم للتبضُّع وقراءة الأخبار والاستفادة من الخدمات المصرفيّة والكثير من الأمور الأخرى. وتتمتّع الشبكة بفاعليّة عالية، ولكنّ استخدامها يختلف طبعاً عن أداء هذه النشاطات شخصيّاً؛ لأنّ الشخص الذي يتبضّع عبر الإنترنت مثلاً، لا يستطيع التفاعُل مع مُنسِّق المظهر أو تجربة مجموعة من الملابس. نحن نتحدّث هنا عن الوجود المُشترَك، أي الاستمتاع بتجاربنا الناتجة عن استجابتنا الدماغيّة في الميتافيرس. تَمنح التفاعُلات في الميتافيرس أصحابها انطباعَ خَوض تجارب حقيقيّة وصناعة ذكريات حقيقيّة - لأنّهم يفعلون ذلك حقّاً.
وتوفِّر تجربة عالَم "الميتافيرس" في التعليم مجالاتٍ أكثر ثراءً، فهي توفِّر مثلاً للطلّاب المعنيّين بدراسة الفضاء أو المُحيطات أو الجيولوجيا أو التاريخ فرصةً لمُحاكاة هذه العوالم في صورةٍ ثلاثيّة الأبعاد، وبالتالي يُمكنهم الذهاب إلى القمر أو أحد الكواكب الشمسيّة أو حتّى الشمس نفسها، وأيضاً يُمكنهم الذهاب إلى أعماق المُحيطات أو باطن الأرض، أو حتّى العودة إلى أحد الأزمنة التاريخيّة ومُحاكاة طُرق العيش فيها. ومع دخول نُظم الذكاء الاصطناعي في برْمَجة شخصيّات هذه العوامل، يُمكن للمُستخدِم أن يعيش تجربةً شبه حقيقيّة بالفعل.
يسمح التعليم من خلال تقنيّات الميتافيرس وتجارب الواقعَيْن الافتراضي والمُعزَّز بتفاعُلٍ ذي واقعيّة عاطفيّة يُطوِّره مُحترفو تعليم الواقع إلى المُستخدِمين بطريقة معبّرة أكثر. ويُتيح التعلّم في الميتافيرس تأسيسَ تواصُلٍ بين المتعلّمين من جميع أنحاء العالَم وتقويتهم للتفاعُل بطُرقٍ معبِّرة. يتّسم هذا التعليم بتفاعليّة وتأثير أكبر لأنّه يتيح لنا محاكاة كلّ شيء من المحادثة إلى الجراحة.
وقد وَجدت شركة "بي دبليو سي" أنّ المتعلّمين الذين تدرّبوا على استخدام الواقع الافتراضي امتلكوا ثقة أكبر بمعدّل 275 في المائة في استخدام ما تعلّموه بعد التدريب - أي تحسُّن بنسبة 40 في المائة عن التعلّم في غُرف الصفّ، و35 في المائة عن التعلّم الإلكتروني.
وقد أشارت تقارير شركة "إس آي بي" للبَرْمَجة ومنظّمة "جوبز فور ذا فيوتشر" حول استخدام برنامج سكيل إمرشن لاب Skill Immersion Lab المُعتمِد على استخدام تقنيّات الميتافيرس إلى أنّ البرنامج أَسهَم إيجاباً في تنمية قدرة المتعلّمين في مرحلة الثانويّة على تطوير المهارات المطلوبة للتوظيف. فقد أظهر أوّل استخدامٍ أنّ أكثر من 85 في المائة من المتعلّمين شعروا بثقة أكبر في التكلّم مع الآخرين بعد انتهاء تجارُب التعلّم الانغماسي. وصرّح 85 في المائة من هؤلاء بأنّ قدرتهم على إيجاد الكلمات الصحيحة للتعبير عن فكرة معيّنة تحسّنت خلال البرنامج، بينما اعترف 90 في المائة منهم بأنّهم كانوا يُراجعون إجاباتهم لمعرفة كيف يُمكنهم أن يُحسّنوا أنفسهم بعد انتهاء كلّ درس؛ وتظهر النتائج النهائيّة للبرنامج، أنّ محتوى التعليم الانغماسي مُنتِج، وأنّ الأولويّة الآتية يجب أن تكون إيصاله إلى أكبر عددٍ من المتعلّمين.
ويملك الميتافيرس القدرة على استنساخ التفاعُلات البشريّة وإقناع الآخرين بها بفضل حسّ الوجود والواقعيّة العاطفيّة اللّتَيْن يتميّز بهما. تَضمن مكانة هاتَين الميزتَيْن نوعاً من الألفة والارتباط بالعالَم المادّي.
وتُساعِد زيادة التفاعُلات الرقميّة أيضاً في تعزيز تركيزنا وانتباهنا في حياتنا الحقيقيّة، لأنّ زيادة إنتاجيّة التعاوُن والتعلّم الانغماسيَّين تترك لنا المزيد من الوقت للاستفادة منه في أيّامنا العاديّة للتواصل مع العالَم المادّي والأشخاص المُحيطين بنا فيه. يملك الميتافيرس القدرة على تحقيق توازنٍ مع الجوانب السلبيّة للرقْمَنة، عبر تعزيز الأنْسَنة والتواصُل خلال الوقت الذي نمضيه في العالَم الإلكتروني، ومُساعدتنا بالاستمتاع أكثر بالحياة التي نعيشها بعيداً عن التقنيّة.
فقد أَظهرت الدراسات الأطول في الفصول الدراسيّة في الصين أنّ استخدام الواقع الافتراضي له تأثير كبير في فعاليّة نتائج الاختبارات؛ إذ إنّ الطلّاب الذين حصلوا على الدرجة "C" باستخدام الانغماس في التعلُّم في الواقع الافتراضي، تفوَّقوا على نظرائهم الذين حصلوا على "A" في الصفوف التقليديّة.
حاليّاً، تُخطِّط "جامعة كايست" التي أنشأتها كوريا الجنوبيّة في كينيا، لإنشاء حَرَمٍ جامعي افتراضي يتمّ افتتاحه بحلول شهر أيلول/ سبتمبر 2023.
تحدّيات التعلّم عن طريق الميتافيرس
ينطوي التعلّم الإلكتروني على وجه العموم على الكثير من الجوانب السلبيّة كانعدام المُساواة في الحصول على التقنيّة، كما أنّ هناك مشكلات تتعلّق بالبنية التحتية للإنترنت، وإمكانيّة تفاعُل أعداد كبيرة من المُشاركين مع بعضهم البعض في الوقت الفعلي، وحواجز اللّغة، ومشكلات زمن الوصول. ومع انتشار شبكات الجيل الخامس اللّاسلكيّة مع زمن انتقالٍ مُنخفض للغاية وخصائص عرض النطاق التردُّدي العالي التي يُمكنها التعامُل مع الواقع الافتراضي السلس والواقع المعزّز، يتوقَّع أن تنتشر تلك التقنيّات على نطاقٍ أوسع. فوفقاً لتقارير شركة "Campus Technology"، سينمو سوق الواقع المعزّز والافتراضي إلى أكثر من ثمانية أضعاف حجْمه الحالي على مدار السنوات الخمس المُقبلة، ممّا يجعله الفئة الأسرع نموّاً بين الأجهزة الناشئة، والتي تشمل الأجهزة القابلة للارتداء والأجهزة المنزليّة الذكيّة.
ويحتاج ذوو الاحتياجات الخاصّة والمُصابون بإعاقات (بصريّة، وسمعيّة، وغيرها) إلى تجهيزاتٍ خاصّة ليتمكّنوا من الاستفادة من الميتافيرس، لكنّ الحصول على الأجهزة والأدوات الضروريّة قد يكون صعباً بسبب ارتفاع سعرها. لذا؛ يتطلّب الميتافيرس، كما الإنترنت، اعتماد استراتيجيّة تضمن إتاحته للجميع بالتساوي، وخصوصاً لأولئك الذين لا يملكون الوسائط المطلوبة للمُشاركة فيه.
كذلك يحدّ الاتصال الافتراضي من صدق تعابير الوجه ولغة الجسد، فضلاً عن أنّه يضع حواجز رقميّة وماديّة بين البشر. في المقابل، يستطيع المُستخدِم خلال اجتماع في الواقع الافتراضي أو المعزّز أن يرى حركات الشخصيّات الرمزيّة التي تمثّل الزملاء، بالإضافة إلى الشعور بوجودهم وكأنّهم معه في العالَم الحقيقي.
الميتافيرس في الميزان
يرى الكثيرون أنّ الميتافيرس يمثِّل تعليم المستقبل الواعد. لكن على الجانب المُقابل فإنّ هناك العديد من التساؤلات التي تحتاج إلى الإجابة عنها، والتي تشمل:
- ما الذي سوف تنقله لنا الميتافيرس في المستقبل؟
- ما مقدار الخصوصيّة الفرديّة للطلّاب الذين يندمجون في التعليم في عالَم الميتافيرس
- متى يُمكن أن يستطيع عامّة الطلّاب أن يستفيدوا من تجربة التعليم في عالَم الميتافيرس؟ ما هي حدود التعليم في عالَم الميتافيرس؟
- هل سيُشكِّل التعليم في عالَم الميتافيرس فارقاً تمييزيّاً حقيقيّاً في فُرص التعلُّم والعمل بين الطلّاب اعتماداً على الإمكانات الماديّة؟
ختاماً، فإنّ الأمل معقود بتطوُّر تكنولوجيا الميتافيرس، بما يُمكِّننا من الاستفادة منها لإعادة تشكيل مستقبل التعليم قريباً من أجل مُستقبلٍ مُزهر تقنياً لأطفالنا.
*أستاذ أصول التربية المساعد - كليّة التربية – جامعة الإسكندريّة - مؤسسة الفكر العربي