لماذا لسنا كأيٍّ من الأجناس الأخرى؟

news image

 

تقديم وترجمة د. محمود الذوّادي*

 

"البشر: لماذا نحنُ البشر لَسنا كأيٍّ من الأجناس الأخرى على هذا الكوكب؟" هو العنوان الذي خصَّصت له "مجلّة العلوم الأميركيّة Journal of Scientific American " في أيلول/ سبتمبر من العام 2018، عدداً خاصّاً (المجلّد319، العدد3)، اقتطعنا منه أجزاءً من مقالةٍ لكيفين لالاندKevin Laland ، أستاذ البيولوجيا السلوكيّة والتطوّريّة في جامعة سانت أندروز في المَملكة المتّحدة، معنوَنة بـ:

 

"ماذا يجعلناً فريدين؟ كيف أصبَحنا نَوعاً مختلفاً من الحيوانات؟ ?What Made Us Unique? How we became a different kind of animal ". في ما يلي الترجمة العربيّة لبعضٍ من هذه الأجزاء.

عموماً، يَعتبر معظمُ الناس بشيءٍ من الفرح على هذا الكوكب، ومن دون أيِّ أساسٍ علميّ صحيح، أنّ البشر مخلوقات خاصّة متميِّزة عن الحيوانات الأخرى. واللّافت أنّ العُلماء الأكثر تأهيلاً لتقييم هذا الادّعاء، غالباً ما بدا عليهم التحفُّظ عن الاعتراف باستثنائيّة تميُّز الكائن البشري، ربّما خوفاً من تعزيز فكرة الاستثناء البشري المطروحة في المُعتقدات الدّينيّة. وعلى الرّغم من ذلك، فإنّ معلومات علميّة قويّة مُجمَّعة من ميادين مُختلفة من عِلم البيئة إلى عِلم النَّفس المعرفي تؤكِّد حقّاً أنّ البشر جنسٌ متميّز.

تتفوَّق كثافةُ سكّان البشر كثيراً على نمطِ ما يُحتمل أن يوجد لدى حيوانٍ يُشبهنا في الحَجْم. نحن نعيش في مساحةٍ جغرافيّة واسعة جدّاً، ونحن نُسيطر على تدفّقاتٍ غير مسبوقة من الطّاقة والمادّة: فتأثيرنا الشامل في الكَون مسألة لا ريب فيها. عندما يَنظر المرءُ أيضاً إلى ذكائنا وقوى التواصُل والقدرة على اكتساب المعرفة والاشتراك فيها - صحبة الأعمال الرائعة في الفنّ والمعمار والموسيقى التي نقوم بها نحن البشر - يَبرزُ البشرُ في حقيقة الأمر كنوعٍ من الحيوان المُختلف جدّاً. تبدو أنّ ثقافتنا تَفصلنا عن بقيّة عوالم الطبيعة. ومع ذلك فتلك الثقافة يجب أيضاً أن تكون حصيلةً للتطوُّر.

يتمثّل التحدّي في إعطاء تفسيرٍ علميّ مُرْضٍ لتطوُّرِ القدرات المعرفيّة لجنسِنا البشري وتجلّياتها في ثقافتنا في ما أسمّيه "سمفونيّة داروين الناقصة". ذلك أنّ تشارلز داروين بَدأ بحثه في هذه الموضوعات قَبل حوالى 150 سنة، ولكنْ، كما يُقرّ هو نفسه، فإنّ فَهْمَه كيف طوَّرْنا هذه السمات كان، بلسانه هو، "ناقصاً" و"مؤلَّفاً من شظايا" لحُسن الحظّ. فلقد اهتمَّ عُلماءٌ آخرون بالقضيّة، وثمّة شعورٌ مُتزايد بين هؤلاء مِن الذين يُمارسون البحث العلمي في هذا المجال بأنّنا قاب قوسَيْن أو أدنى من إجابة.

هناك إجماعٌ متزايد يُشير إلى أنّ إنجازات البشريّة تنبثق من قدرة اكتساب المعرفة والمهارات من الآخرين. حينئذ يُعيد الأفرادُ البناءَ على ذلك المخزون من المعرفة المُجمَّعَة عبر فتراتٍ طويلة. فهذا المخزون الجماعي من التجربة يُمكِّن من ابتكارِ حلولٍ متنوّعة وأكثر فاعليّة لتحدّيات الحياة. لم تكُن أمخاخُنا الكبيرة أو ذكاؤنا أو اللّغة التي تعطينا الثقافة هي السبب، لكنّ ثقافتَنا بالأحرى هي التي تُعطينا أمخاخاً كبيرة وذكاءً ولغة. فبالنسبة إلى جنسنا البشري، وربّما لعددٍ صغير من أجناسٍ أخرى كذلك، الثقافة هي التي حوَّلت صيرورةَ التطوُّر. فمصطلح "الثقافة" يَعني اللّباسَ الحديث أو الطبخ الراقي، لكنّ جوهرها العلميّ أَصبح يَعني في نهاية المطاف أنّها تشمل أنماطَ سلوكاتٍ مُشترَكة بين أعضاءِ مجموعةٍ بشريّة تَعتمد على معلوماتٍ مُنتقِلة اجتماعيّاً. سواء نَظرنا إلى تصاميم السيّارات أم أساليب الموسيقى الشعبيّة أو النظريّات العلميّة أم غزو مُجتمعاتٍ صغيرة، نلْحظُ أنّها جميعها تتطوَّر من خلال دَوراتٍ لا حصرَ لها من الابتكارات تُضيف تحسيناتٍ أكبر إلى بداية المعرفة الأولى. فالنَّسخُ الخالد للأشياء والذي لا يَهدأ والابتكار هُما سرّ نجاح جِنسنا.

مهاراتٌ حيوانيّة

تَسمحُ مقارنةُ البشر بحيواناتٍ أخرى للعُلماء بتحديدِ الطُّرق التي نتفوَّق فيها والخاصيّات التي نَشترك فيها مع أجناسٍ أخرى، وبتحديدِ متى تطوَّرتْ سماتٌ خاصّة. فالخطوة الأولى لفهْمِ كيف أَصبح البشر مُختلفين إلى هذا الحدّ، تكمن في أن نتّخذَ هذا المنظور المقارِن ونَبحثَ في التعلّم الاجتماعي والابتكار لدى المخلوقات الأخرى، وهو البحث الذي يقودنا في نهاية المطاف إلى الفروقاتِ والاختلافات الدقيقة والحاسِمة التي تَجعلنا جنساً فريداً.

فكثيرٌ من الحيوانات تُقلِّد سلوكات حيواناتٍ أخرى، وبهذه الطريقة تتعلَّم عن الغذاء وأساليب تناول الغذاء وتحاشي الافتراس أو تتعلَّم الأصوات والأغاني. والتقاليد الطويلة المُميِّزة لاستعمال الأدوات لدى مجموعاتٍ مختلفة من القردة الإفريقيّة/ التشمبانزي في إفريقيا هي مثالٌ مشهور. ففي كلّ مجموعة يتعلَّم الصغار السلوكات المحليّة - تكسير المكسّرات المفتوحة بمِطرقة صخريّة أو صَيْد النمل بعود - بتقليد مَن هُم أكثر منهم تجربة. لكن لا يقتصر التعلّمُ الاجتماعي على الثديّيات أو الحيوانات ذات الأمخاخ الكبيرة وحتّى الحيوانات ذات العمود الفقري. فآلاف الدراسات التجريبيّة بيَّنت تقليدَ السلوكات في مئات الأجناس من الثديّيات والعصافير والأسماك والحشرات. وتُظهر التجارب أيضاً أنّ الإناثَ الصغيرات لذُباب الفاكهة تَختار كشركاءٍ لها الذكورَ الذين اختارتهم لها الإناثُ الأكبر سنّاً.

يتمّ تعلُّمُ سلسلةٍ من السلوكات المتعدّدة اجتماعيّاً. تَمتلك الدلافين تقاليدَ في البحث عن الطعام باستخدام الإسفنج البحريّ لإخراج الأسماك المُختبئة في قاع المُحيط. ولأسماك القرش أو الحيتان القاتلة تقاليد في صَيد عجل البحر (الفقمة)، بما في ذلك محاولة إسقاطها من على كتل الجليد، وذلك بحمْلها أو الاندفاع نحوها بانسجام وخلْق مَوجةٍ عملاقة. وحتّى الدجاج يَكتسب سماتِ أكْل اللّحم من خلال التعلُّم الاجتماعي من دجاجٍ آخر. فُمعظم المعرفة المنقولة عبر المجموعات الحيوانيّة تَرتكز على الغذاء - ما يُؤكَل وأين يُعثَر عليه - لكنّ ثمّة أعرافاً اجتماعيّة خارقة للعادة؛ فقد ابتكَرَتْ جماعةٌ من القردة في كوستاريكا عادةً غريبة تتمثّل في إدخال الأصابع في تجاويف عيون أو فتحات أنف قردة أخرى أو إدخال الأيدي في أفواهها، والجلوس معاً بهذه الطريقة لفتراتٍ طويلة والتأرْجُح برفق - وهي تقاليد يُعتقَد أنّها تَختبر قوّة العُرى والروابط الاجتماعيّة.

الحيوانات "تَبتكر" أيضاً. عندما يُطلَب منّا تسمية ابتكارٍ ما، سرعان ما نمضي إلى التفكير باختراع البنسلين بواسطة ألكسندر فلمنغ Alexander Fleming أو ببناء شبكة الويب العالميّة بواسطة تيم بيرنرز لي Tim Berners-Lee؛ لكنّ الابتكارات الحيوانيّة المُساوِية لها ليست أقلّ جاذبيّة. وإنّ أفضلها عندي تتعلّق بشمبانزي صغير يُدعى مايك Mike الذي لاحظت عالِمةُ الثديّيات Jane Goodall كيف يَبتكر عَرضاً صاخباً للهيْمَنة يتضمَّن ضرْبَ علبتَيْ كيروسين فارغتَيْن معاً. هذا العرض أَخافَ مُنافسي مايك وقادَ إلى رفْعِ مكانته الاجتماعيّة، فأصبحَ هو الذَّكَر صاحبَ الصدارة الأولى المسجَّلة في التاريخ؛ ثمّ هناك اختراع الغربان اليابانيّة المتمثِّل باستخدام السيّارات لكسْر المكسّرات.. فقشور الجوز قاسية للغاية بالنسبة إلى هذه الغربان، بحيث إنّها لا تستطيع كسْرِها بمناقيرها، لكنّها على الرّغم من ذلك، تتغذّى على هذه المكسّرات بوضْعها في الطريق حتّى تدوسها السيّارات، لتعود بعدها إلى استعادة طعامها عندما تُصبح الإشارات حمراء. كما بدأت مجموعةٌ من الزرازير - مشهورة بحُبّها للأشياء التي تَلمع لاستعمالها في زينة الأعشاش - بمُهاجَمة ماكينة تحتوي على عملاتٍ معدنيّة في محطّة لغسل السيّارات في مدينة فريدريكسبيرج Frederiksburg في ولاية فرجينيا، وسرقت مئات الدولارات من العملات المعدنيّة.

إنّ مِثل هذه الحكايات هي أكثر من نِتَفٍ من التاريخ الطبيعيّ فقط؛ إذ تكشفُ التحليلاتُ المقارِنة أنماطاً مُذهلة من التعلُّم الاجتماعي والابتكار لدى الحيوانات. يتمثّل أهمّ ما نَجده في هذه الاكتشافات في أنّ الأجناس المبتكرِة، وكذلك الحيوانات الأكثر اعتماداً على تقليد سلوكيّات غيرها، تَمتلك أمخاخاً كبيرة غير عاديّة (سواء بالنسبة إلى المقاييس بالمُطلق أم بالنسبة إلى حَجْم الجسم). وقعتْ في البداية ملاحظةُ علاقةِ الارتباط بين نِسب الابتكار وحَجْم المخّ لدى العصافير، لكنّ البحثَ أثبتَ منذ ذلك الوقت صحّةَ الأمر لدى الثدييّات. تُسانِد هذه النتائجُ فرضيّةً تُعرَف بالدّافعيّة الثقافيّة التي طَرحها في الثمانينيّات من القرن العشرين عالِمُ البيولوجيا والكمياء في جامعة كاليفورنيا ألن ولسن Allan C.Wilson في مدينة بيركلي. يرى هذا العالِم أنّ القدرةَ على حلّ المشكلات أو تقليد ابتكارات الآخرين تُعطي الأفراد تفوُّقاً في الكفاح من أجل البقاء. وبافتراض أنّ لهذه القدرات أساساً في عِلم الأعصاب، فإنّها ستؤدّي إلى توليد الانتقاء الطبيعي الذي سيعمل في اتّجاه توليد أدمغة أكبر حجْماً على نحوٍ متزايد - وهي عمليّة سريعة تنتهي بأعضاءٍ ضخمة تَنجح في منْحِ البشر قدرةً على الإبداع لا حدود لها وثقافةً تَشمل كلَّ شيء. في البداية كان العُلماء مُتشكّكين في حِجّة وِيلسون. فإذا كانت ذبابة الفاكهة، بأدمغتها الصغيرة جدّاً، قادرة على أن تُقلِّد بشكلٍ مثاليّ، فلماذا ينبغي على عمليّة التطوُّر الانتقاء الطبيعي إذن أن تؤدّي إلى إنتاج أدمغةٍ عملاقة متناسبة مع حَجْم الثديّيات؟ لقد استمرّت هذه المعضلة لسنوات، إلى أن ظهرت إجابة من مصدرٍ غير متوقَّع.

تقليد القطط

مثَّلت مُباراة استراتجيّات التعلُّم الاجتماعي مُنافَسةً نظَّمها زملائي معي ورُسِمت للعثور على أفضل طريقة للتعلّم في بيئةٍ معقّدة ومتغيّرة. تصوَّرنا عالَماً افتراضيّاً يُمكن للأفراد فيه أو للفاعلين - كما يُطلق عليهم - القيام بعددٍ كبير من السلوكات، لكلٍّ منها نتيجتها المميّزة التي تتغيَّر بمرور الوقت. كان التحدّي يتلخّص في معرفة السلوكات التي تُعطي أفضل المردودات والتعرُّف كيف تغيَّرت. يَستطيع الأفرادُ إمّا تعلُّم سلوكٍ جديد أو القيام بسلوكٍ وقَع تعلُّمُه سابقاً، ويُمكن للتعلُّم أن يَحدث بواسطة المحاولة والخطأ أو عبر تقليد الآخرين. فبدلاً من مُحاولة حلّ اللّغز بأنفسنا، قُمنا بوصْف المشكلة وتحديد مجموعة من القواعد، ودعوة أيّ شخصٍ مُهتمّ لمحاولة حلّها. فجميع المداخل - المقدّمة كمادّة مُشفَّرة تُحدِّد كيف ينبغي أن يتصرّف الفاعلون - تنافَست ضدّ بعضِها البعض في مُحاكاةٍ حاسوبيّة، وفازَ أفضل الفاعلين بجائزة قدرها 10000 يورو. كانت النتائج مُفيدة للغاية. وَجدْنا علاقةً إيجابيّة قويّة بين مدى أداء الإدخال ومدى الحاجة إلى التعلُّم الاجتماعي من الفاعلين.

فرضية الدّافعيّة الثقافيّة

فالأجناس التي لها جيلٌ ماهر بعد جيل في تعليم الآخرين والابتكار ينبغي أن تكون صاحبة أدمغة كبرى، وهو ما يَطرح فرضيّةً ثقافيّة. فالدّافع الثقافي يَرى وجودَ جسرٍ بين السلوكات الاجتماعيّة وعِلم الوراثة البيولوجيّة الذي يُشير إلى أنّ التقليدَ الدقيق لسلوكيّات الآخرين يعود إلى وجود مهارات معرفيّة/ ذهنيّة وأدمغة كبيرة أفضل. تؤدّي هذه العمليّة إلى تحسين سلوكيّاتٍ اجتماعيّة ومهاراتٍ تقنيّة وحتّى في ما يتعلّق بنوعيّة الغذاء، ويُنتِج ذلك كلّه في نهاية المطاف نجاعةً أفضل في عمليّة تعليم الآخرين وتقليدهم. لقد كسبَ البشرُ رهانَ هذه الدائرة الفعّالة أفضل من أيِّ جنسٍ آخر.

 

*عالِم اجتماع من تونس – مؤسسة الفكر العربي

وكالة بث