في مُدخلات العام 2025 ومُخرجاته
![news image](https://bethpress.com/NewImages/uploads/%D9%85%D8%AF%D8%AE%D9%84%D8%A7%D8%AA.png)
سعيد هادف*
عديدةٌ هي القراءات الفكريّة التي سعت لاستشراف المستقبل؛ لكنّ القراءات ذات الروح النقديّة العلميّة في منحاها التنويريّ قليلة.. بخاصّة لناحية الإنتاج والترويج معاً. وأهمّ كتاب كان لي حظّ قراءته في هذا المضمار هو كِتاب: "نهاية العالَم كما نعرفه" للسوسيولوجيّ والمؤرِّخ الأميركيّ إيمانويل والرشتاين. إلى جانب القراءات الاستشرافيّة العلميّة، حاول الخيالُ الروائيُّ والسينمائيّ، ولاسيّما الخيال الأميركيّ، التكهُّنَ بما سيَقع في المستقبل.
قبل نهاية القرن المنصرم بثلاثة أعوام، ظَهَرَ فيلمٌ تلفزيوني أميركي بعنوان "الحرب الأهليّة الثانية The Second Civil War" وهو من النَّوع الكوميدي الساخر حيث يروي تفاصيل التحضير لحربٍ أهليّة أميركيّة ذات دوافعٍ عرقيّة جرّاء الهجرة المفرطة التي أدَّت إلى مجتمعٍ مُتشرذم الهويّات. وفي العام 2016، في غمار الحملة الانتخابيّة التي انتهت بفوز دونالد ترامب، صدرتْ في إنكلترا ثمّ في أميركا، روايةٌ تحت عنوان "عائلة آل ماندبيل 2029 - 2047 The Mandibles: A Family,"، وتدور أحداثُها في أميركا في العام 2029، إبّان أزمة ديونٍ أدَّت إلى انهيار اقتصاد البلاد تزامُناً مع ظهور تكتُّلٍ اقتصادي ضمَّ بلداناً عديدة لم تَسمح لأميركا بالانضمام إليه. أحداث هذه الرواية تدور، في قسمها الأوّل، بين عامَيْ 2029 و2032، مُسلِّطةً الضوءَ على شخصيّاتٍ من أربعة أجيال لعائلة أفلست بعد ثروة فاحشة، بينما تدور أحداث القسم الثاني في العام 2047 حيث يزداد وضعُ هذه العائلة تفاقُماً.
في هذا السياق الديستوبيّ ظَهَرَ مؤخّراً (في العام 2024) فيلمٌ تحت عنوان "حرب أهليّة" (Civil War)، يقدِّم سرديّةً متخيَّلة عن حركةِ تمرُّدٍ تعيشها الفيديراليّة الأميركيّة، اشتعلت في كاليفورنيا وتكساس ضدّ واشنطن. شرارة التمرُّد التي تحوّلت إلى حربٍ أهليّة تسبَّب بها رئيسٌ متهوِّر بإجراءاته الدكتاتوريّة (الرئيس المقصود هنا هو دونالد ترامب).
هذا المُتخيّل الروائي، وعلى الرّغم من مظهره الديستوبي، يحمل، من جهةٍ أولى، روحاً نقديّة استباقيّة لكلّ ما من شأنه أن ينحرف بالفيديراليّة الأميركيّة إلى منحدرٍ يصعب التحكُّم بعواقبه؛ ومن جهةٍ ثانية يلعب هذا المُتخيّل، في تقديري، دَوراً علاجيّاً في إعادة بناء الوعي العمومي الأميركي وحسّه المُشترَك.
أردتُ بهذا الاستهلال أن ألفت القارئ العربي إلى نقطتَيْن: الأولى أنّ العقل الأميركي عقلٌ مُتجدِّد بحُكم انفتاح مُجتمعه على الثقافات الوافدة من جهة، واشتغال الوسط العلمي الأميركي على ما يجري في مُحيطه العالَمي من جهة أخرى. والثانية أنّ فاعليّة الدَّور العربي مشروطة، على ما يبدو، بتحرُّر النّخب العربيّة من حالة الخوف المَرَضيّ أو الفُوبْيا، ولاسيّما أنّ ثقافتَنا العربيّة فيها ما يَمنحنا مقاماً ننظر منه إلى الآخر نظرة تفهُّم، سواء كان هذا الآخر ضعيفاً أم قويّاً، مُتطرِّفاً في الظلم أم مُفرطاً في العدل. أتحدّث هنا عن مشاعر الخوف والكراهية أو (الأمريكوفوبْيا) التي يُعاني منها صنفٌ من النّخبة في نظرته إلى أميركا، ويعمل على إشاعة هذه المشاعر في وسط الشعوب العربيّة، وبالتالي يُسهِم في إعاقة هذه الشعوب عن التفكير المُتبصّر والتواصُل الوجداني السوي.
ثقبٌ في الجدار المُضادّ للتاريخ
هذا العام هو العام الأخير من الربع الأوّل من القَرن الحالي. وقَبل أن يطوي هذا الربع صفحته الأخيرة، من المُحتمل جدّاً أنّه سيشرَع في طيّ تلك الملفّات التي هيْمَنت على القرن العشرين، أو بتعبيرٍ آخر، سَيُحدث ثُقباً في الجدار المضادّ للتاريخ، حتّى تتنفّس مُخرجاتُ القرن العشرين التي تكثَّفت وتكاثَفتْ بشكلٍ ديستوبيّ (Dystopic) في الرّبع الأوّل من قَرننا الحالي.
ويبدو لي أنّه من دون ضبْط "وضعيّة" الرؤية وفحْص "التحيُّزات"، لا يُمكن أن نُحيط بشكلٍ واضح وواسع بحقل الرؤية، أي بـ "الأُفق". أستعير هنا تعبير الفيلسوف الألماني جورج غدامير من حيث إنّ أيّ فاعلٍ أو مُراقبٍ، هو بالضرورة، متورّطٌ في وضعيّة معيّنة. ومن حيث إنّ كلّ رؤية، هي بالضرورة، ذاتيّة واستشرافيّة. وكذلك من حيث إنّ ليس لدى أيّ مُراقِب المعرفة الموضوعيّة والمثاليّة للعالَم الذي ينشغل به، ويَطرح عليه "مشكلة التحيُّزات". ومن حيث إنّ هناك تحيُّزاتٍ مشروعة، وإنّ كلَّ فهْمٍ هو في الأساس ناجمٌ عن تحيّز، وهو رأي مُسبق قد يَصمد أو لا يَصمد أمام اختبار الحقائق.
المجتمعات العربيّة عاشت اختباراتٍ عديدة، وقد أَنجبت نُخباً قادرة على التمييز بين العناد والثبات، أو على رأي معاوية، تعرِفُ كيف تفرِّق بين الجَّملِ والنّاقة. وإذا كان الباحث في السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، المؤرِّخ الفرنسيّ إيمانويل تود قد أصاب في تنبّؤه بانهيار الاتّحاد السوفييتي، فهل ستصدق رؤياه حول تفكُّك الفيديراليّة الأميركيّة؟ المعطى التاريخي يؤكِّد أنّ الفَرْقَ شاسعٌ بين الاتّحاد السوفييتي والفيديراليّة الأميركيّة، لجهة أنّ الأوّل نَشأ بعد مضيّ حوالى قرنٍ ونصف القرن على نشأة أميركا، ولم يَدُم سوى سبعة عقود، بينما الفيديراليّة الأميركيّة ما زالت تحتفظ بشروط تماسكها؛ هذا مع ضرورة الإشارة إلى أنّه حتّى الكيانات الكبرى ليس من مصلحتها أن تتفكَّك أميركا، وأنّ الأخيرة ليس من مصلحتها، هي أيضاً، أن تتفكَّك روسيا أو الصين. فالكيانات السياسيّة العظمى اليوم أكثر اعتماداً على بعضها البعض، ويُمكن للخلافات والمشكلات في ما بينها أن تتَّسِم بروح الحوار والتفاوُض بدلاً من النزعة العدائيّة (Antagonism).
وقد تميَّز الرّبع الأوّل من قرنِنا الحاليّ بمُخرجاتٍ عدّة، لعلّ أهمّها هجمات 11 سبتمبر/ أيلول والحرب على العراق وأفغانستان، واتّساع النفوذ الإيراني، ثمّ ثورات 2011 التي ترتَّب عنها تحوُّلٌ جذريّ في الوضع السياسي العربي، ثمّ حرب روسيا على أوكراينا وحرب إسرائيل على غزّة. هناك مخرجات أخرى يمكن إجمالها في البريكس والبريكست وتأزُّم العلاقة الفرنسيّة الأفريقيّة....
الحرب الروسيّة الأوكرانيّة
وإذا ألقينا نظرةً على الماضي البعيد، نستنتج أنّ هذه المُخرجات نَتجت عن سيرورةٍ من تحوّلات النسق التاريخي الحالي الذي ظَهَرَ إثر سقوط القسطنطينيّة. نَسقُنا الحالي (أسمّيه النسق الكوبرنيكي) تأسَّس في أوروبا الغربيّة على براديغما وضعيّة/ إغريقيّة خلافاً للبراديغما الدّينيّة/ الساميّة التي تأسَّس عليها النسق السابق الذي ظَهَرَ مع القسطنطينيّة وسقط بسقوطها (أسمّيه النسق القسطنطيني)، وتطوّرَ الوضع البشري إلى ما هو عليه اليوم (الديمقراطيّة، العلمانيّة، حقوق الإنسان، الأيكولوجيا.... ومذاهب سياسيّة واقتصاديّة: الرأسماليّة واللّيبراليّة، الاشتراكيّة والشيوعيّة....).
البراديغما الوضعيّة وغريمتها الدّينيّة دخلتا في حالةِ عداء (Antagonism). مع مرور الزمن ظهر صنفان من البراديغما الوضعيّة (وضعيّة علمانيّة مدنيّة تؤمن بالحريّات الفرديّة والجماعيّة على غرار الفيديراليّة الأميركيّة، وأخرى وضعيّة أيديولوجيّة لا تؤمن بالعلمانيّة ولا بالديمقراطيّة على غرار الاتّحاد السوفييتي). تطوَّرت البراديغما الوضعيّة في شقّها العلماني في علاقتها الحواريّة مع البراديغما الدّينيّة، وفيما تطوَّر الحوارُ بين التيّارات والتنظيمات ذات البراديغما العلمانيّة تعطَّلت العلاقة بين البراديغما المُعادية للعلمانيّة والبراديغما العلمانيّة، وترتّب عن ذلك سقوطُ الاتّحاد السوفييتي واهتزاز الأنساق المنغلقة (دينيّة كانت أم مُعادية للدين)، فبادَر البعض إلى الدخول في تغييرٍ ذاتيّ طَوعي، وبقيَ البعضُ متصلّباً، فكان مآله الانهيار. مع سقوط الاتّحاد السوفييتي سقطتِ البراديغما الأيديولوجيّة اللّادينيّة المُعادية للعلمانيّة، وتعزَّزت البراديغما الأيديولوجيّة الدّينيّة و/ أو القوميّة المُعادية للعلمانيّة. هذه الأخيرة خصاميّة بطبيعتها، أي أنّها لا تعبِّر عن وجودها إلّا بالعنف ولو ضدّ ذاتها.
الحرب الروسيّة الأوكرانيّة هي حربٌ بين بلدَيْن أرثوذوكسيَّيْن، أي ينتميان إلى البراديغما القوميّة المُنغلقة على نفسها. وفي السياق ذاته، كانت الحرب على غزّة بين أطرافٍ من المرجعيّة الساميّة نفسها (إسرائيل التلموديّة من جهة، والتحالف الإخواني الملالي من جهة ثانية). أو بتعبيرٍ آخر، إنّ هذه الحرب (حرب روسيا على أوكراينا وحرب إسرائيل على غزّة) كانت تعبيراً عن رواسب النسق القسطنطيني في ثقافته المُعادية للحوار وحُسن التواصل، بعكس الثقافتَيْن المسيحيّة والإسلاميّة، في مظهرهما العلماني، المُنفتحتَيْن على الحوار والسِّلم. ويبقى السؤال المطروح: هل هذه الحرب التي اندلعت على خلفيّةٍ دينيّة همجيّة هي آخر المُخرجات المترتّبة عن رواسب النسق القسطنطيني في صدامه مع النسق الكوبرنيكي؟
والمُدخلات الصغيرة، وفق تعبير وارلشتاين، تنجم عنها مخرجاتٌ كبيرة (خلافاً لما هي عليه الحال في مراحل التطوُّر العادي للنسق، عندما تُفضي المُدخلاتُ الكبيرة إلى مُخرجاتٍ صغيرة)، وبالتالي فإنّ العلاقة بين المُدخلات والمُخرجات علاقة جدليّة. فما هي مُدخلات العام 2025؟
لقد كان لدونالد ترامب حظّ المشاركة في صَوْغِ الرّبع الأوّل من هذا القرن، وقد يكون له قسطٌ وافر في صَوْغِ الرّبع الثاني، ولاسيّما أنّه فاز بعهدة ثانية سيستمرّ حكمُهُ فيها إلى العام 2028. لا شكّ أنّ عودته إلى البيت الأبيض ليست عَرضيّة، وأنّه مندوبٌ أو منذورٌ ليسهر على وضْعِ اللّمسات الأخيرة على القضايا التي تحوَّلت إلى مجرّد "أوراق" تكاثَر حولها اللّاعبون. أو بتعبيرٍ سيميوطيقي تحوَّلت تلك القضايا إلى علاماتٍ صفريّة بلغة لوتمان (Youri Lotman) أو إلى دوالٍ فارغة بلغة لاكلو (Ernesto Laclau) أو إلى أظرفة خالية بلغة الجاحظ. ذلك أنّ العلامات التي فقدتْ ارتباطَها بمدلولٍ مناسب تُسمّى دَوالاً فارغة.
إنّ مفردات المقاومة والتطبيع والصهيونيّة مثلاً علاماتٌ صفريّة (empty signifiers) أو دوالٍ فارغة (zero signs) في حقلِ تداولٍ اجتماعيٍ انفجرَتْ فيه الـ "النحن" إلى طرفَيْن على الأقلّ: طرفان مُتخاصمان، حيث كلّ طرف يحشو علامات "المقاومة" و"التطبيع" و"الصهيونيّة"... بمدلولٍ يتناقض مع "مدلول" الطرف الآخر. وبالتالي فالضمير المتكلّم "نحن" في صيغته الفلسطينيّة لم يعُد يُواجه الـ "نحن" في صيغته الإسرائيليّة إلّا في مواجهة ذاته المنشطرة. هذا لا يعني أنّ الـ "نحن" الإسرائيلي مندمجٌ كليّاً، فحتّى هو منقسم، ولكنْ في إطارٍ حواريّ أكثر منه خصاميّ؛ وهذا ما يفتقده الـ "نحن" الفلسطيني. إنّ الدّوال الفارغة، في ضوء التحليل السيميوطيقي، تستمرّ في التدليل، وفي إنتاج وفرة من الدلالات، لا تدلّ على شيء سوى على انفتاح الدلالة قَبل أيّ معنى محسوم.
في ضوء قراءة المعطيات المتوافرة، وبناءً على أنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب كان عرّاب التطبيع في نسخته المُستأنَفة بين إسرائيل والعرب، يبدو أنّ التطبيع، وإنهاء الحرب الروسيّة الأوكرانيّة، وإبطال النفوذ الملالي والإخواني هي مدخلات صغيرة ستفضي إلى مُخرجاتٍ كبيرة، لعلّ أهمها سقوط النسق الصهيوني بفعل سيرورة التطبيع، ليس التطبيع بين العرب وإسرائيل فحسب، بل التطبيع بين البلدان العربيّة نفسها. وسقوط الصهيونيّة كنسق ليس غاية يعملُ من أجلها الفلسطينيّون فحسب، ولا مجرّد مطلبٍ يُطالب به دعاة العلمانيّة في إسرائيل، بل هو من أهمّ المخرجات المفصليّة بين النسق التاريخي الحالي والنسق الذي سينبثق عنه.
يقرّ وارلشتاين أنّ "القرن الحادي والعشرين سيكون أكثر صعوبة، وأكثر تشويشاً، ولكنّه أكثر انفتاحاً من أيّ مرحلة عشناها في القرن العشرين". وفي الطبعة العربيّة لكتابه يقول: "لا ريب في أنّ الناس في البلدان النّاطقة باللّسان العربي، شأنهم شأن العالَم، سيسعدون لسماع رأيي بأنّ النسق العالمي الرّاهن، الذي يتّسم بحدّة القمع واللّامساواة والاستقطاب، لن يدوم طويلاً. وهذا بلا شكّ من الأخبار السارّة. غير أنّ الجانب الآخر للمسألة يُظهر لنا أنّنا نشهد، بالتالي، صراعاً عالميّاً هائلاً حول نَوع النَّسق الذي يتعيَّن علينا أن نُقيمه ليحلّ محلّ النَّسق القائم. والإجابة التي ينطوي عليها الخَبر السارّ هي بين بين". فقد نحظى بنسقٍ أفضل، وقد نُبتلى بنسقٍ أكثر سوءاً. ذلك أنّ "مَن يريدون الاستعاضة عن النسق الحالي بآخرٍ يُماثله، بل يفوقه سوءاً، يضيف، هُم من القوّة بحيث لا يتردّدون في استخدام جميع ما لديهم من القوّة، ومن المدافع والأموال والمكر، ليعيدوا إنتاج النسق التراتبي المُستغِلّ الذي نعاني منه الآن في نسقٍ يتّسم بالخصائص نفسها، وإنْ بأشكالٍ أخرى مختلفة".
*شاعر وباحث من الجزائر – مؤسسة الفكر العربي
وكالة بث