مأساة العِلم والعقلانيّة في بلادنا

د. المهدي مستقيم*
يُعَدّ برتراند سان - سورنين Bertrand Saint - Sernin (1931) من أبرز الفلاسفة وعُلماء الرياضيّات في المشهد الفلسفيّ الفرنسيّ المُعاصِر، ومن بين أبرز أعماله نذكر على سبيل الذكر لا الحصر: "رياضيّات القرار" (1973)، "المُقرِّر" (1979)، "أصل الفعل ووحدته" (1989)، "العقل في القرن العشرين" (1995)، "فلسفة العلوم"، بالاشتراك مع آن فاغو - لارغو (2002).
تَجدر الإشارة إلى أنّ المكتبة العربيّة - باستثناء هذا العمل الذي نُقدِّمه لقرّائنا - تخلو خلوّاً تامّاً من أيّ أَثَرٍ لهذا لفيلسوف.
يشيد برتراند سان - سورنين بإسهامات المراكز الكبرى للحضارة العربيّة في العلوم، ويَسِمُها بالإسهامات المهمّة، ولاسيّما تلك التي طَبعتِ القرون الهجريّة الأولى (العصر الوسيط المسيحي). بيد أنّ سورنين لا يخفي حيرتَهُ من لغزٍ لطالما راوده في أثناء مُعالَجته المسألة، لغز فضَّلَ أن يعبِّر عنه بتوسُّل صيغة الاستفهام: لماذا تمكَّنت أوروبا ابتداءً من القرن السابع عشر من إبداع "فلسفة طبيعيّة" جديدة، ولم يَحدث أيّ شيءٍ مُماثِل في الإمبراطوريّة العثمانيّة التي كانت تَحكم الأراضي العربيّة كلّها، باستثناء الجزيرة والمغرب؟
لم يَشهد الشعر والمسرح اليونانيّان واللّاتينيّان طفرةً مشابهة لتلك التي شهدتها ترجمةُ العِلم، والطبّ، والفلسفة، في الحضارة العربيّة الإسلاميّة، بل إنّ الترجمات العربيّة كانت وسيطاً رئيساً لِنقْلِ بعض الأعمال العلميّة القديمة إلى الغرب اللّاتيني. يقول سان - سورنين: "لقد تعوَّدنا على المقابلة بين الشرق والغرب وبين العالَم العربي الإسلامي والعالَم الأوروبي المسيحي. إنّ هذا التمييز أمرٌ قائم، ولكن يجب ألّا يطغى على واقعةٍ أساسيّة، وهي أنّ الحضارتَيْن قد اغترفَتا واقتبسَتا من المَصدر اليوناني. لقد كان فلاسفةُ الإسلام وعُلماؤه، أيّاً كان أصلهم، سواء كانوا فُرساً، أم أندلسيّين، أم عرباً، إلخ، مُهتمّين للغاية بأعمال اليونانيّين السابقين عليهم، وعَملوا جاهدين على مُتابعتهم وإغنائهم. ولقد دَرسوا أفلاطون، وأرسطو، وأقليدس، وأودوكس Eudoxe، وبطليموس ...إلخ، ثمّ أصبحوا هُم بدَورهم مُهندسين، وأطبّاء، وأدباء" (برتراند سان - سورنين، العقلانيّة الجديدة، المركز القومي للترجمة، القاهرة، مصر، 2022، ص206 - 207).
بيد أنّ الحضارةَ العربيّة الإسلاميّة على عَظَمَتِها ما بَرح يُخيِّم عليها الانغلاقُ والتّشرنُقُ حول الذّات، إبّان القرن الثامن الميلادي؛ أي قَبل سطوة العثمانيّين عليها. لكن ما السبب الذي يحول دون ترسيخ أواليّات العِلم واستنباتها في أراضي العرب والمُسلمين؟: "ما هو أخطر، هو أنّه في بداية القرن الحادي والعشرين، وفي الوقت الذي يُمارِس فيه العِلُم والتكنولوجيا فعْلَهما الفاعل على الحياة اليوميّة للناس، فإنّ اندماجه في الحضارة العربيّة لا يزال صعباً. ولقد حدثَ انقسامٌ غريب، يتمثّل في كون استقبال العِلم والتكنولوجيا بوصفهما حقائق أداتيّة وضروريّة لاستخراج البترول وتسيير البنوك والتجارة، إلّا أنّ المهندسين والتقنيّين الذين درسوا في أوروبا أو أميركا يشعرون في الوقت نفسه بنَوعٍ من النفور تجاه صورة الغرب التي تستعرضها التلفزة والصحافة. من هنا، نَتج ذلك الحُكم والموقف من "الحداثة" الذي يتّصف بالتردُّد، وهو أمر مفهوم، ذلك لأنّه، وكما يتساءل بعض العلميّين والمُهندسين المُسلمين، أليس من المُمكن أن نَقبل بالمعارف والتقنيّات الوافدة من الخارج بوصفها وسائل ونَدمجها في إطار الإسلام اليقينيّ أو "الأرثودوكسيّ"؟" (ص204).
إنّ أوّل عائق من شأنه أن يواجه هؤلاء، إنّما يتمثّل في كون العِلم ليس أداةً البتّة، إذ يتأسَّس على أبعادٍ كونيّة، ومن أجل ذلك لا يني يَنقل منذ نشأته تصوّراً جديداً للكون. من هنا، مأتى سيرورات الحظْر التي طالته وتطاله، نتيجة التخوُّفات التي يُثيرها لدى القائمين على الشأن الدّيني من جهة، والمُستفيدين من توظيفه الإيديولوجي من جهةٍ أخرى. وتأسيساً عليه "نَفهم مختلف التخوّفات والإدانات الدّينيّة التي يُثيرها، والمُحاكمات التي تعرَّض لها في أوروبا المسيحيّة. إذن، من الطبيعي أن يَحدث الشيء نفسه في الدّين الإسلامي. لكنْ في أوروبا، كان مؤسِّسو العِلم الحديث أو أصدقاؤهم يتمتّعون بهامشٍ من الحريّة، وذلك بناءً على العقيدة المسيحيّة نفسها؛ لأنّهم لا يكفّون عن ملاحظة أنّ الله الذي خلقَ العالَمَ وخلقَ الإنسانَ على صورته، يبيح البحث في الطبيعة عن علامات فكره وفعله. لقد كان هنالك بالتأكيد مقاومات، ومعارك، ولكن في نهاية المطاف، نجحتْ مؤسّسةُ العلم، في عصر التنوير، فتميَّز مجال المعرفة عن مجال الإيمان" (ص204 - 205).
الإيمان ليس غصّة مُلتهبة
يعود تطوُّر العلم وازدهاره في الحضارة الغربيّة إلى سببٍ رئيس يتمثّل في قيام المسيحيّة على مبدأ استراتيجي قطب رحاه حريّة الضمير، إذ من غير المعقول أن يبدي الله رغبةً في الحدّ من حريّة الإنسان ولجْمها بعدما ارتضى خلْقه بوصفه كائناً حرّاً وعاقلاً، فذلك ليس من شأنه سوى الإيحاء بتراجعه عن تدبيره. ومن ثمّ، لا يُمكن أن يكون الإيمان بأيّ حالٍ من الأحوال غصّةً مُلتهبةً في حنجرة سيرورات البحث عن الحقيقة؛ ونَقصد السيرورات التي تتوسَّل ضروبَ الاكتشاف العلمي للواقع. إذا كان تقدُّمُ العلم رهيناً بتقديم فرضيّات قابلة للاختبار والتفكُّر، فمِن المُفترض في هذه الفرضيّات أن توضَع خارج دائرة كلّ سلطة دينيّة، وهو الأمر الذي يُثير حفيظة بعض المؤمنين، بل ويدفعهم إلى مُجابهة تلك الفرضيّات بالرفض القاطع وباستراتيجيّات العنف من جهة، ثمّ بمسوّغات الأنثروبولوجيّة اللّاهوتيّة من جهة أخرى، ما يتيح لهم الظفر بالغلبة في نهاية المطاف. وبناءً عليه، يتساءل سان - سورنين: هل يَسمح الإسلامُ لعلمائه وفلاسفته باستعمال استراتيجيّة مُماثلة؟ وهل يؤكِّد القرآن مثل الكتاب المقدَّس على الحريّة التي مَنَحَها الله للإنسان، وعلى أبوّة الله التي تَستقبل الابن الضالّ عندما تكون الجرأة الإنسانيّة مفرطة؟ تساءَل فأجاب: "بلا شكّ فإنّ هذه المشكلة تُعَدّ من أهمّ المُشكلات في الوقت الرّاهن بالنسبة إلى علماء الإسلام ولاهوتيّيه. فعندما تتَّضِحُ أدوار الإيمان والمعرفة، فإنّ العلاقات بين العلم والدّين تتيسَّر ولا تتعقَّد. ولكنْ لسنا متأكّدين من أنّ هذه العمليّة القائمة على الفصل والتمفصُل تتحقَّق بالفعل، ذلك لأنّ العِلم نفسه يفرز الإيديولوجيا، وذلك منذ أن وُجد. والإيديولوجيا العلميّة كما سمّاها كانغليم [جورج كانغليم فيلسوف وطبيب فرنسي مُختصّ في نظريّة المعرفة (الإبستيمولوجيا) وفلسفة العِلم...]، ربّما هي الأكثر مَكراً من جميع الإيديولوجيّات؛ لأنّها الأكثر سريّة، ولأنّها تختفي حتّى في مستوى النشاط والخطاب العلميَّيْن. لقد كانت [الفيلسوفة الفرنسيّة] سيمون ويل حَذِرة للغاية تجاه هذه الظاهرة، في البحث عن الحقيقة؛ لأنّ آثارها مُدمِّرة" (ص206).
بالإضافة إلى العامل الدّيني، ثمّة عوامل عدّة أخرى تُعوِّق عمليّة استنبات العلم والعقلانيّة في بلاد الإسلام، أهمّها العوامل السياسيّة والاجتماعيّة (القانون والديمقراطيّة)؛ إذ "تحتاج الحياة العلميّة إلى الحريّة الفكريّة للأفراد والجماعات (المُختبرات، مراكز البحث، الجامعات ...إلخ)، وبخاصّة أنّه يُمكن ملاحظة هذا الواقع في أوروبا نفسها، وعليه، فإنّه لا يُمكننا نقْلُ المؤسّسات العلميّة (بطريقة جاهزة أو كما يُقال، تسليم المفاتيح في البدء)، والسبب واضح، إنّ البحث حتّى وإن كان عملاً جماعيّاً، إلّا أنّه يعتمد على الأفراد. ولذا، فإنّه يتميَّز بنَوعٍ من التعقيد والهشاشة. فهو نِتاج تنظيمٍ حيّ وبيولوجي واجتماعي في الوقت نفسه. إذن، يجب إيجاد الطريقة المناسبة، لإقامة مؤسّسات قادرة على التلقّي والإبداع في الوقت نفسه، وذلك من ضمن سياقٍ معيّن. هذه هي المشكلة الكبرى التي يُواجِهُها العِلم والتكنولوجيا في القرن الحادي والعشرين. وهذه مشكلة مطروحة في العالَم كلّه، لكنّها بالطبع مطروحة بحدّة أكثر، في تلك المناطق التي لم تَستطع أن تُنتِج بعد حَدَثاً مُماثِلاً لحَدَثِ النهضة الأوروبيّة" (ص209).
بناءً عليه، يُمكن القول إنّ السبب الرئيس وراء التفاوتات الصارخة بين البلدان يكمن في الأسباب الاجتماعيّة، ونخصّ بالذكر: الحرمان من التعليم منذ الطفولة وكذلك الرعاية الصحيّة، ذلك أنّ الآثار الفيزيولوجيّة التي تترتّب عنهما غير قابلة للعلاج. من أجل ذلك، ينبغي "البدء بتقليد التجارب الناجحة ومُحاكاتها مثل التجربة الاسكندنافيّة في تعليم القراءة والكتابة. لكنّ الأمر ليس سهلاً؛ إذ يجب أن تتوافر إرادة اجتماعيّة قويّة لترجمةِ ذلك" (ص211).
*أكاديمي من المغرب – مؤسسة الفكر العربي
وكالة بث