حرب أوكرانيا و" تحالفات" التجارة العالَميّة

news image

عدنان كريمة*

مع دخول الحرب الروسيّة - الأوكرانيّة سنتها الثانية، وعدم توافُر أيّ مؤشّرات في الأُفق عن قرب نهايتها، سيظلّ التهديد الرئيس مُتمثّلاً بتصعيد العمليّات العسكريّة بما في ذلك احتمال استخدام روسيا أسلحة نوويّة. ومن شأن ذلك أن يضعَ مسيرةَ الاقتصاد العالَميّ في اتّجاهٍ نحو المجهول، ولاسيّما في ظلّ ارتفاع خطر انقسام حركة التجارة العالَميّة إلى تكتّلاتِ دولٍ تُعادي بعضها، ما يؤدّي إلى تراجُع التعاون و"فكْفَكَة" العلاقات الاقتصاديّة، وخصوصاً أنّ التطوُّرات المُرتقَبة قد تشهد الانتقالَ إلى جولةٍ جديدة من العقوبات التي لا تستهدف روسيا فقط، بل ستتوسَّع لتشمل المزيد من الشركات والمُستثمِرين من مختلف البلدان الذين يتعاملون معها. ولكنْ وسط توقّعات بظروفٍ متقلِّبة للاقتصاد العالَميّ، والتحالُفات الدوليّة، هل تشهد المرحلةُ المُقبلة بدايةَ نهاية العَوْلَمة؟

كانت فترة التسعينيّات من القرن الماضي والعقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، حقبةَ ما سمّاه "أرفيند سوبرامانيان" و"مارتن كيسلر" "العولمة المتسارعة"، وذلك عندما أدَّت التطوُّرات التكنولوجيّة وثورة الحاويات وانخفاض تكاليف المعلومات والاتّصالات، وتفكيك الحواجز التجاريّة، في ظلّ استمرار الوفرة الاقتصاديّة على نطاقٍ واسع، فضلاً عن عوامل أخرى، إلى رفْعِ نسبة الصادرات العالَميّة إلى النّاتج الإجمالي العالَمي من 15% إلى 25% على مدى العقدَيْن اللّذَيْن سبقا الأزمة الماليّة العالَميّة لعام 2008، وأدّى هذا الازدهار في الصادرات إلى نموٍّ سريع في البلدان النامية.

ثمّ بدأ التحوُّلُ نحو تراجُعِ "العولمة" أو تباطئها، في أعقاب الأزمة الماليّة العالميّة، حيث مثَّلت الحربُ التجاريّة الصينيّة الأميركيّة، وخروجُ بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي، وصعودُ ترامب والقادة الشعبويّين القوميّين في جميع أنحاء العالَم، مظاهرَ هذا الاتّجاه المتزايد نحو تراجُع العولمة. ووفق مجلّة "الإيكونوميست" بدأت 8 مؤشّرات بالتراجُع أو الركود من أصل 12 مؤشّراً للتكامُل العالَمي، وانخفضت التجارة من 61% من إجمالي النّاتج المحلّي العالَمي في العام 2008 إلى 58% في العام 2018. كما تقلَّصت قدرة سلاسل التوريد وشحن البضائع نصف المصنَّعة عبر الحدود. وبينما ارتفعت الواردات الوسيطة بسرعة في العشرين عاماً حتّى العام 2008، عادت وانخفضت منذ ذلك الحين من 19% من النّاتج المحلّي الإجمالي العالَمي إلى 17%. كما تراجعت مسيرة الشركات متعدّدة الجنسيّات، حيث انخفضت حصّتها من الأرباح العالَميّة لجميع الشركات المُدرجة من 33% إلى 31%. وانخفض الاستثمار الخارجي طويل الأجل من قِبَلِ جميع الشركات من 3.5% من النّاتج المحلّي الإجمالي العالَمي إلى 1.3%. وانهارت القروض المصرفيّة الخارجيّة من 60% إلى 36% من إجمالي النّاتج العالَمي. كذلك انخفض إجمالي تدفّقات رأس المال من ذروةٍ بلغت 7% إلى 1.5%. ومن الملاحظ أنّه عندما ازدهرت العولمة، وَجدت الاقتصادات النّاشئة أنّه من المُمكن اللّحاق بالعالَم المتقدِّم من حيث النّاتج الفردي. ولكن منذ العام 2008، انخفضت حصّة الاقتصادات المتقاربة بهذه الطريقة من 88% إلى 50% (باستخدام تعادل القوّة الشرائيّة).

فكْفَكَة العَوْلَمة

كنتيجة لاستمرار حرب روسيا على أوكرانيا، وتداعياتها على الاقتصاد العالمي، وفي ضوء التطوّرات المُرتقَبة في المرحلة المُقبلة،ينقسم المراقبون إلى فريقَيْن: فريق يستبعد "تفكيك العولمة"، وفريق آخر يتساءل: هل تقود الصين "نهاية العولمة"؟

الفريق الأوّل يرى أنّه في الوقت الذي يتّجه فيه الاقتصاد العالَمي نحو مزيدٍ من ظروف تقلُّبات الأسواق، إلّا أنّه لا يزال بعيداً عن سياسة "تفكيك العَولمة"، حيث سجَّلت شركاتٌ عملاقة في أوروبا وأميركا نتائج إيجابيّة، على الرّغم من ضغوط الطلب على الاستهلاك مع تصاعد التضخُّم،وأفصحت كبرى الشركات العالميّة أخيراً عن نتائج ماليّة قويّة ومؤشّرات أداء تفوق التوقّعات. وقالت شركة "ساب" السويديّة للصناعات العسكريّة، إنّها حقَّقت مبيعات فاقت التوقّعات في الرّبع الأخير من العام الماضي، إذ بلغت 1.3 مليار دولار بزيادةٍ سنويّة بلغت 16%، في الوقت الذي بلغت فيه أرباحها التشغيليّة 125 مليون دولار، بزيادةٍ سنويّة نسبتها 22%.

بالإضافة إلى ذلك، يقول الخبير الاقتصادي البريطاني "نيل شيرينغ"، إنّ هناك اتّفاقاً واسع النّطاق بين الاقتصاديّين والمعلّقين على أنّ العالَم بلغَ ذروة العولمة، لكنْ ثمّة إجماع قليل بشأن ما سوف يحدث بعد ذلك. وأوضح: هناك رأي يقول إنّنا سندخل فترة "تفكيك العولمة"، والتي فيها تنخفض أحجام التجارة العالميّة وتنحسر تدفّقات رأس المال عبر الحدود. ويرى شيرينغ أنّ الفترة الأحدث من "العولمة" كان يؤازرها اعتقادٌ بأنّ التكامل الاقتصادي سيؤدّي إلى أن تُصبح الصين ودولُ الكتلة الشرقيّة السابقة، بحسب توصيف رئيس البنك الدولي السابق روبرت زوليك، "الجهات المعنيّة المسؤولة" داخل النظام العالَمي. وعلى هذا الأساس، يقول شيرينغ: إنّ "تفكيك العولمة" ليس أمراً حتميّاً بأيّ حالٍ من الأحوال... هناك قليل من الدواعي الجيوسياسيّة الملحّة وراء ضرورة أن تتوقّف الولايات المتّحدة عن استيراد السلع الاستهلاكيّة من الصين. ومستطرداً: إذا أدرنا عقارب الساعة إلى الأمام عشر سنوات، من المُحتمل أن نجد الغرب لا يزال يشتري اللُّعَب والأثاث من الصين. وما سيحدث هو أنّ التقسيم بين الكتلتَيْن سيتمّ على طول خطوط الصدع المهمّة من الناحية الجيوسياسيّة. وفي بعض المجالات، سوف يكون هذا التقسيم عميقاً. ولكن في مجالاتٍ أخرى، سوف تكون التحذيراتُ من حدوثِ إعادةِ تنظيمٍ زلزاليّة للاقتصاد العالمي والنظام المالي واسعةَ النّطاق.

أمّا بالنسبة إلى الفريق الثاني من المُراقبين الذين يتساءلون: ماذا لو بدأت "نهاية العولمة" من الصين؟، فذلك عائد إلى ارتفاع التضخُّم عالميّاً، واستمرار مُعاناة الاقتصادات غير المستقرّة من جائحة "كورونا"، والهاوية الديموغرافيّة المُقبلة؛ فبحسب هذا الفريق "يبدو من المعقول أن تتّخذ الحكومة الصينيّة خطواتٍ لدعْمِ اقتصادها المحلّي بتشييد جدرانٍ حوله. وهناك بالفعل دلائل على ذلك في قطاعاتٍ معيّنة". مع الإشارة إلى أنّ العالَم يدرك ما يقوم به الحزب الشيوعي من دعوة الشركات إلى الصين، من خلال وعدٍ بتوفير فُرصٍ واسعةِ النّطاق في الأسواق، من أجل الدَّفع باتّجاه إقامة مشروعاتٍ مُشترَكة؛ ثمّ يقوم فجأة بوضْعِ سقفٍ لحصّة الشركات الأجنبيّة بينما يؤازر المُنتجين والمُصنّعين المحليّين الذين لا يخدمون احتياجاتهم المحليّة فقط، ولكن يصدّرون ويتنافسون عالَميّاً أيضاً. وقد تعهَّدت الصين بتوسيع الإنفاق المالي بشكلٍ "مناسب" خلال العام الحالي مع "ضبط" أدوات السياسة الماليّة، بما في ذلك العجز المالي والديون الخاصّة، في إطار جهودها لتعزيز النموّ الاقتصادي. وذكرت وزارة الماليّة الصينيّة، في بيانٍ نشرته على موقعها الإلكتروني، أنّ الاستثمارات الحكوميّة سوف تضْطلع بدَورٍ أقوى في قيادة الاستثمارات الخاصّة ودعمِ الاستهلاك وتحقيق الاستقرار للتجارة والاستثمارات الأجنبيّة.

ولوحظ أنّ الصين اعتمدت في العام الماضي على استثماراتِ البنية التحتيّة القائمة على الديون المحليّة لدعم النموّ الاقتصادي، في ظلّ تضرُّر الاقتصاد من جائحة "كورونا" وأزمة العقارات وضُعف الصادرات.
ومع اهتمام الصين بالداخل، قد يخلص قادتُها إلى إدراكِ أنّ الاقتصاد العالمي قد لا يتواءم مع أهدافهم؛ فسياسات مثل "الدورة المزدوجة" تُعجِّل الاستقلالَ المحلّي بالتركيز على الاكتفاء الذاتي أوّلاً، على أن تأتي الصادرات في المرتبة الثانية، توفِّر فرصةً لإنهاءٍ تدريجي للتجارة العالميّة كما كرَّستها "العولمة".

تكتّلات تجاريّة

وفق تقارير صندوق النقد الدولي، لا يزال نموّ الاقتصاد العالمي ضعيفاً، وإذا كان قد سجَّل في العام الماضي 3.4%، فإنّه يتراجع في العام الحالي إلى 2.9%، على أمل أن يتحسَّن في العام المقبل ليصل إلى 3.1%. ومن منطلقٍ تفاؤلي، توقَّعت المديرة العامّة للصندوق "كريستالينا غورغيفا" أن يشهد العام الحالي تراجعاً في التضخُّم إلى 6.6% بعدما كان 8.8% في العام الماضي، ليصلَ إلى 4.3% في العام المقبل. علماً أنّه سيظلّ متجاوِزاً مستويات ما قبل جائحة "كورونا". وأعادت العوامل المساعدة لذلك إلى إعادة فتْحِ الصين، وصلابة أسواق العمل، والإنفاق الإستهلاكي في الولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبي.

لكنّ المشاركين في المنتدى الاقتصادي العالَمي الذي انعقد في كانون الثاني/ يناير 2023 في منتجع "دافوس" السويسري، حذَّروا من خطر انقسام التجارة العالميّة إلى كتلٍ تجاريّة، وقالوا إنَّ تجنُّبَ ذلك يتطلَّب تعزيزَ أجندة تجاريّة عادلة وشاملة ومُستدامَة من مؤسّساتٍ مثل "منظّمة التجارة العالميّة"، ووضع قواعد أساسيّة واضحة لمختلف الدول. من جانبها، قالت "منظّمة التجارة العالميّة" التي شاركت في مناقشات دافوس، إنّ التحدّي الذي يواجه التجارة لعام 2023 لا يتمثّل في تباطؤ النموّ العالمي فحسب، ولكن أيضاً في عدم اليقين. وأشارت إلى أنّ الحرب في أوكرانيا، والمخاوف بشأن فيروس كورونا، وسلاسل التوريد الهشّة، قد دفعت بالعديد من الدول إلى إعادة التفكير في نَهجها في التجارة والتشكيك في مستقبل العَولمة.

ومع بروز الصين كمُنافسٍ استراتيجيٍّ للولايات المتّحدة، يصبح الأمر الطبيعي انقسام العالَم الى كتلتَيْن، وبما يُلزِم الدولَ الأخرى باختيار السياسات داخل هاتَيْن الكتلتَيْن، على أساس "الاعتبارات الجيوسياسيّة". ويرى المراقبون أنّه سيكون للطابع المدفوع سياسيّاً للتقسيم، تأثيره الكبير على ظروف التشغيل بالنسبة إلى الشركات الأميركيّة والأوروبيّة في تلك القطاعات الأكثر تعرُّضاً للقيود على التجارة، مثل قطاعَيْ التكنولوجيا والأدوية، وسوف تعمل الشركات، وكذلك المُستثمِرون، في ظروفٍ مختلفة تقوم فيها الاعتبارات السياسيّة بدَورٍ أكبر في القرارات الخاصّة بتخصيص المَوارد.

*كاتب ومُحلِّل اقتصادي من لبنان - مؤسسة الفكر العربي