المُستقبليّة العربيّة بين الواقعِ والطّموح

news image

نبيل علي صالح*

في حياة الأفراد والشعوب والأُمم، لم يعُد الحديث عن أهميّة البُعد المستقبليّ لَوناً من ألوان الترف الثقافيّ أو الاجتماعيّ أو حتّى العلميّ الذي كان يُمارس على نطاقٍ واسعٍ في المُجتمعات الغربيّة حتّى أواسط القرن العشرين على مستوى التنجيم والتنبّؤ بأحداث المستقبل بطريقةٍ خياليّة تجريبيّة، بل أصبح هذا البُعد الزمنيّ عِلماً تخصُّصيّاً قائماً بذاته في تلك المُجتمعات التي مرَّت بمراحل مديدة من التخلُّف الثقافيّ والعلميّ والتقهقُر الحضاريّ تكرّست فيها الخرافة والأسطورة، وخصوصاً خلال العصور الوسطى التي امتدّت حوالى الألف عام.

لكنّ تلك المُجتمعات مع ذلك كانت السّباقة لاحقاً في الوصول إلى التأسيس الجدّي لعِلم المستقبليّات واستشراف المُستقبل ومحاولة معرفة ما سيجري في عوالم الغد سياسةً واقتصاداً وفتوحاتٍ علميّة وغيرها، وخصوصاً بعد التقدُّم النَّوعي الكبير الذي حدثَ في مجال الدراسات التاريخيّة التحليليّة ذات الصلة بالوقائع الاجتماعيّة وقوانين التاريخ ونواميسه التي تتحكّم في المسيرة التاريخيّة للإنسان في طبيعة تحدّياته ومسؤوليّاته.

وقد باتَ واضحاً الآن أنّ استمرار حياة الأمم والحضارات مرتبطٌ فعليّاً بمدى تجذُّر عقليّة التفكير المستقبلي في داخل البنية الحضاريّة الذهنيّة والعمليّة لتلك الشعوب والأُمم، باعتبار أنّ نهوضَ الأُمم، وتطوّرها، ونجاحها، وفلاحها، أو نكوصها، وتأخُّرَها، وفشلَها، وهزيمتَها، يجري وفق ضوابط وسنَن وقوانين ثابتة كونيّاً وتاريخيّاً وعلميّاً، لا بدَّ من إدراكها ووعيها، ومعرفة مُقتضياتها وشروطها، وضرورة الاستجابة لها، والتكامُل بها ومعها، من أجل تحقيقِ الأهداف والتطلُّعات الحضاريّة الكبرى للشعوب والبلدان والمُجتمعات، بخاصّة بلداننا ومجتمعاتنا التي هدَّها التعب والإحباط والعيش الطفيلي على موائد الآخرين.

ونحنُ لا نقصدُ من استخدامنا لمصطلح "الاستجابة" هنا الذّوبان والتّلاشي أمام الآليّات المتولّدة من تلك القوانين أو الانسحاق الكامل تحتَ وطأة الضغط والثقل (النوعي) المتولّد من طغيان تلك الضوابط، ولكنّنا نقصدُ أنْ يتوافرَ لدينا شرط الإرادة الإنسانيّة الفرديّة والمُجتمعيّة الواعية والمتمثّلة، عمليّاً، في التخطيط المُمنهَج للغد الإنساني، ودراسة مواقعنا فيه انطلاقاً من متغيّرات واقعنا الرّاهن وثوابته، وبالاعتماد على معطيات التاريخ والتراث العقلاني والصريح، وذلك بهدف التمكُّن - ولو جزئيّاً - من استيعاب بعض مواقع المستقبل، والاستجابة الفاعلة لتحدّياتها، والعمل على إدارتها وبنائها بما ينسجم ومعاييرنا القيميّة الإنسانيّة.

إنّنا نعتقدُ بضرورة أنْ نحثَّ الخطى ونبذلَ قصارى الجهد لتأسيس منهج عربي حقيقي لاستشراف المُستقبل ورؤيته، واكتشاف نواميسه، ووعي مجالاته، والإعداد العملي له، لأنّنا - كعرب - معنيّون أكثر من غيرنا بأهميّة الدخول إلى هذا الحقل العلمي الكبير الذي نمتلك فيه تراثاً إخباريّاً واسعاً يهتمّ بالمستقبل الإنساني، ويتحدّث عنه، بل وحتّى يؤسِّس له في كثيرٍ من مفرداته. لذلك فالمشكلة القائمة عندنا لا تكمنُ في غياب عناصر ومعطيات التأسيس المستقبلي العربي المطلوب، بل هي متوافرة بكثرة على هذا الصعيد، ولكنّها (أي المشكلة) قائمة أساساً في عدم تشكيل وبلْورة صيغة عربيّة - نظريّة على مستوى المنهج، وعمليّة على مستوى التصوُّر والإعداد - بخاصّة لدراسة المستقبل الذي لا تعني عمليّة الاهتمام به تناسي أو نفي الماضي، فالذي يعي ويُحسن قراءة حاضره يهيّئ لمستقبله بقدر ما يعي ماضيه ويُحسنُ توظيف ما فيه من مفرداتٍ إيجابيّة.

وتَجب الإشارة هنا إلى أنّ الدراسات المستقبليّة أو علم المستقبل ليس تنجيماً ولا خَوضاً في السحر ولا تنبّؤاً بالمستقبل، ولا معرفة تخمينيّة ظنيّة مزاجيّة (وهي مواصفات وخصائص سلبيّة شائعة في عالَمنا العربي على مستوى الفرد والمُجتمعات وحتّى الحكومات للأسف)، بل هي دراسة علميّة فيها كلّ الانضباطات المعرفيّة والمحدّدات العلميّةالتي تتقوَّم بالعقل والتفكير العقلي التأمُّلي الحدسي الهادف إلى توفير إطاراتٍ زمنيّة طويلة المدى نسبيّاً لما قد يتمّ اتّخاذه من قرارات اليوم.. ومن ثمّ العمل بناءً على رؤيةٍ وأُفقٍ بعيد المدى الزمني المستقبلي، بخاصّة على صعيد قضايا التنمية والنهوض الحضاري العربي من مستنقعات التخلُّف والجهل الذي طال واستطال في حياتنا العربيّة. وهذا كلّه يُراكِم المعرفة ويَمنع لاحقاً ظهور مشكلات، بل يتمّ تحديدها وحصْرها قبل وقوعها، أي يحول دون وقوعها، بل ويضيء على مواقع القوّة والثروة لنُعيد اكتشاف أنفسنا وطاقاتنا وثرواتنا.

هذا كلّه يتطلَّب من جهةِ الدراسات المستقبليّة العربيّة في مراكز البحوث والدراسات، التركيزَ على ما يلي:

إعمال حركة العقل والفكر والخيال في دراسة إمكانات المستقبل
دراسة كلّ المستقبلات المُحتمَلة والمُمكنة حول الظواهر القائمة والمتوقَّعة
إدراك كلّ الأُسس المعرفيّة للدراسات المستقبليّة
الوقوف المتأنّي أمام الأُسس والمعايير الأخلاقيّة للدراسات المستقبليّة
تفسير الماضي وتوجيه الحاضر
إحداث التكامُل بين المعارف المتنوّعة والقيَم المُختلفة
زيادة المشاركة الديمقراطيّة في تصوُّر المستقبل وتصميمه، انطلاقاً من وعي الحاضر في قواه ومؤثّراته المستقبليّة
لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: لماذا يحتاج العرب إلى دراسة المُستقبل، واستشراف آفاقه؟! وما هي المُنطلقات الفكريّة التي يجب أن ينفتحوا عليها في سياق عمليّة التأسيس العملي لعِلم المستقبل العربي؟!

في الواقع يشكّلُ التعامل الموضوعي الدقيق مع مفردة الزمن - في بعدها المستقبلي - أحد أهمّ عناصر النظرة الواقعيّة والعقلانيّة المتّصلة بقضايا أمّتنا العربيّة وهمومها في امتداداتها التاريخيّة المستقبليّة. كما يُعبِّر، في الوقت ذاته، عن نمطٍ فريدٍ من التفكير القيادي والإداري لدى أيّ موقع من مواقع المسؤوليّة في حركة هذه الأمّة، وخصوصاً إذا ما عرفنا أنّ الوقت يتداخل صميميّاً مع أيّ عملٍ حياتي مهما كان نوعه وحجْمه وحَقله.

لذلك وُجب علينا أن نَفهم الدَّورَ الحضاري الذي يلعبه عامل الزمن في حياة الأُمم والشعوب، بما يؤدّي في المحصِّلة إلى استثماره وتوظيفه على مستوى أيّ مشروع تقدّمي أو رؤية حضاريّة، لمصلحة أمّتنا في واقع حياتها وتحدّياتها وسجالاتها و(حوارها) الحضاري الشامل والمركَّب.

لكنّ هذا التّوظيف المطلوب لعامل الزمن لا يُمكن أن يَجِدَ لنفسه طريقاً إلى حيِّز الفعل - في ظلّ ظروف مُجتمعاتنا ودولنا الرّاهنة وأوضاعها - ما لم يمتلك العرب مفاتيح الدخول إلى العصر المستقبلي الذي تظهر فيه عمليّة التخطيط للمستقبل والإعداد له، كإحدى أهمّ العوامل المُفترَض توافُرها.

صحيحٌ أنَّ هناكَ حاجة دائمة ورغبة ملحّة تؤكِّد عليها وتأمر بها النصوصُ ومنظومات التفكير العربيّة في أهميّة وضرورة الاستعداد للزمن المستقبلي، واستشراف أبعاده المختلفة ووعي مُقتضياته ومؤثّراته؛ لكنّنا - وبالنّظر إلى ذلك - لا نستطيعُ أنْ نؤسّسَ للمستقبل بالاستناد إلى الرغبات والنوايا الحَسنة من دون ملاحظة الإمكانات والطّاقات المتوافرة في الواقع ودراستها، وضرورة معرفة الطرق والأساليب الأمثل لاستخدام هذه الإمكانات بشكلٍ فعّالٍ وتوجيهها نحو ما نريد، وإلى ما نهدف، آخذين بعَيْن الاعتبار وجود قوانين وسُنن تاريخيّة ثابتة لا تتبدّل، لها علاقة وثيقة جدّاً بما ذكرنا. حيثُ يجبُ العمل - في هذا الإطار - على اكتشافها وتحقيقِ الاستجابة لها، والعمل وفق ثوابتها وضروراتها. لذلك فالمسألة هنا لا تُوزن - كما أسلفنا - بميزان النوايا الطيّبة، بل لا بدّ من العمل الجدّي وتركيز الجهود على وضْع استراتيجيّات عمليّة تبتعد عن دائرة الخطاب النظري التعبوي الدعائي الفارغ من أيّ محتوىً أو طموحٍ مُستقبلي هادف، وتتوفّر على شروط وعناصر العلميّة والموضوعيّة والواقعيّة المؤهِّلة وحدها لاستشراف المستقبل، والتأثير الفعليّ في مساراته وسُبله وتيّاراته من أجل تحقيق الهدف العربي الأساسي لاستشراف المستقبل، وهو هدف بناء مُجتمعات عربيّة متقدّمة قويّة وقادرة على تنفيذ إرادتها ووعيها وتمثُّلهما من دون الاتّكاء على الآخرين، تستطيع أنْ تفتحَ مساراتٍ عالية ومتواصلة أمام أبنائها بما يضمن لهم العيش الحرّ الكريم في عالَمٍ متداخل ومتغيّر وصعب التعامل، ولا مكان فيه إلّا للقادر القويّ المالِك زِمام المُبادرة العلميّة والتقنيّة والصناعيّة. لكنّ هذا الهدف العالي والطموح الكبير للمستقبليّة العربيّة، لا ينفصل بأيّ حال من الأحوال عن الغايات والأهداف الأخرى، وبخاصّة هدف التخطيط العلمي والواقعي للمستقبل، ومعرفة أحداثه، والتنبّؤ العلمي بها، واستطلاعها، بل إنّه يستوعبها ويحتويها، ولا يختلف عنها إلّا في دلالات النتائج والغايات فقط.

إنّنا عندما نطرحُ أنفسنا نحن العرب كأصحابِ خطٍّ حضاري ومشروع مستقبلي إنساني قائم على التسامح والمشاركة والاعتراف بالآخر بعيداً عن الغلوّ في التطرُّف والمركزيّات الحضاريّة وعقليّة التفوُّق والأنا الذاتيّة، فإنَّ هذا الطرح لا يتعدّى دائرة الأحلام النظريّة التي فشلنا من خلالها في التعامُل مع التحوّلات والتحدّيات الجارية من منطلق ردود الأفعال العقليّة الصريحة والواضحة والمحسوبة النتائج والنهايات، الأمر الذي انعكسَ سلباً على طبيعة الأداء العامّ لواقعنا العربي الذي لا نزال نُعايش فيه أشدّ مراحل المُعاناة والتعب السياسي والاجتماعي والاقتصادي وطأةً على اجتماعنا السياسي العربي، على الرّغممن وجود الكثير من المواقع الإيجابيّة المُضيئة في هذا المجال.

نعم، نحن العرب بحاجةٍ ماسّة إلى مراكز تفكير بالمُستقبليّات تعطي إمكانات للوعي بالمستقبل ومعرفة ملامحه والعمل على وضع برامج لتنظيم مواجهة العصر الرقمي للأعوام، بل للعقود المُقبلة. وعلى هذا الطريق، تحتاج الدراسات المستقبليّة ذاتها للتعريف بها ونشْرها في المناهج التعليميّة والدراسيّة في المدراس والجامعات تهيئةً للأجيال، وتحويل الدراسات المستقبليّة إلى دائرة الإمكان والمُمارسة، بخاصّة على صعيد معالجة قضايا علميّة عمليّة.

والواجب يقتضينا هنا العمل بكلّ صدق ووعي والتزام بقضايا الوطن والأُمّة وهمومها في حاضرها ومستقبلها، بعيداً من أيّ حساسيّاتٍ آنيّة وضيّقة.

*باحث وكاتب من سورية - مؤسسة الفكر العربي