في إعادة تأهيل تُراث بيروت بعد الانفجار

news image

رَسَمَ تاريخ الرّابع من آب (أغسطس) ٢٠٢٠ معنىً جديداً للكارثة في بيروت خرج عن النّطاق المَكانيّ المحدود ليشمل جزءاً واسعاً من نسيجها العمرانيّ. بعد أن اعتادت المدينة منذ نهاية الحرب اللّبنانيّة على حوادث مُتتالية تعبثُ بأجزاء محدودة من أحيائها وأبنيتها، كان حَجْم انفجار المرفأ كافياً ليوزِّع الأضرار الجسيمة على ما يُقارب رُبع مساحة العاصمة. لكنّ أكثر ما يُميّز هذا الحدث الذي سيرسخ حتماً في ذاكرة لبنان لعقودٍ قادمة هو إطاره الزمنيّ المحدود الذي لا يتعدّى الثواني العشر.

في لحظاتٍ معدودة جدّاً تحوّلت الأبراجُ المُعاصِرة إلى هَياكِل مُنهكة وانهارَ قسمٌ كبير من مباني الحقبة العثمانيّة وزَمَن الانتداب، ناهيك بتعرُّض العمارة السكنيّة الحديثة العائدة إلى فترة الخمسينيّات والستينيّات إلى تحطُّم كبير في واجهاتها التي تُشكّل جزءاً لا يتجزّأ من الهويّة البصريّة للمَكان.

ما يدفعنا للتطرُّق إلى البُعد الزّمني للكارثة في حديثنا عن إعادة تأهيل المنطقة المنكوبة وعن نسيجها المعماري التراثي هو أوّلاً اختصار ذاكرة الفاجعة في مُخيّلة السكّان في صورة وموعدٍ محدَّدَين. فكلّما اتّضحت مَعالِم الصدمة على المدينة كلّما بات علاجها أكثر إمكانيّة من الناحية النظريّة. ذلك إسوةً بالكوارث الطبيعيّة كالزلازل أو الحرائق التي تقضي على مَعلمٍ ثقافيٍّ مُعيَّن في وقتٍ قصير فتُغذّي بذلك مَطلباً شعبيّاً للعودة بالمبنى المُتضرِّر إلى ما كان عليه قبل الحادث. نذكر على سبيل المثال الهزّات الأرضيّة المُتتالية في إيطاليا التي حوَّلت مُدناً تاريخيّة كثيرة إلى رُكامٍ سارعت المؤسّسات المعنيَّة بالمُحافَظة على الإرث الثقافي في البلاد إلى النهوض بها وإعادتها إلى وضْعها الأوّل. بهذا تطلَّع المعنيّون في كلّ مرّة ليس إلى إنقاذ القيمتَين الجماليّة والتاريخيّة للبيوت والأزقّة والكنائس فقط، بل أيضاً إلى تلبية الحاجة المُلحّة لدى السكّان المُصابين بهذه الصدمة عن طريق استرداد صورة مألوفةٍ عن وسط مُدنهم تبعث فيهم شيئاً من الاستقرار والطمأنينة. بهذا تتوازى الأولويّات الحياتيّة بتأهيل الأبنية السكنيّة ومقوّمات الحياة الاقتصاديّة بترميم أو إعادة بناء مَعْلَمٍ ما فَقَدَهُ المكان في لحظةٍ محدّدة. أمّا حين تكون أسباب هذه الكارثة المحدودة زمنيّاً مُتعمَّدة أو تخريبيّة، فقد تتّخذ عمليّة إعادة الإعمار بُعداً أكثر رمزيّة. هُنا يُعبّر الناشطون من مُتخصّصين أو مُواطنين مَعنيّين بالتراث المعماري عن تمسّكهم بصورة الأمكنة كما كانت قبل التدمير بحثاً منهم عن مُقاوَمة العمل التخريبي وتفكيكه واستعادة دَورة الحياة الأولى. تعودُ بنا هذه الظروف إلى مَراحل مُختلفة من تاريخ بيروت الحديث منها مثلاً حادثة تفجير مبنى الكوليدج هول وبرج الساعة في الجامعة الأميركيّة في بيروت في الثّامن من تشرين الثّاني (نوفمبر) من العام ١٩٩١. بعد التدمير الكلّي للبناء اجتاحت يومها حالةٌ من الغضب عدداً كبيراً من سكّان الحيّ ومن الطاقم التعليميّ وطلّاب المؤسّسة الذين لم يعبّروا عن سخطهم لعَودة مشهد الدمار بعد عامٍ على انتهاء الحرب فحسب، بل أيضاً لتدمير أحد رموز المدينة مُطالبين بإعادة بنائه تماماً كما كان قبل الانفجار. إذا كنّا نُقارن ما حلَّ اليوم بأحياء مار ميخائيل والجمّيزة ومار نقولا ومار مارون والنّاصرة والخندق الغميق وغيرها مع كوارث أخرى محدودة زمنيّاً، فإنّ وجه الشبه يكمن أوّلاً في الانطلاق السريع لعمليّات إعادة الإعمار والترميم، أي مباشرةً بعد الحدث، ثانياً في انتشار الأضرار على نطاقٍ واسع على جميع الأبنية. هُنا، خلافاً للحروب والمَعارك المُتتالية على أرض لبنان بما فيها حرب تمّوز (يوليو) ٢٠٠٦، كانت ذاكرة الدّمار جامعةً ودافِعاً أساسيّاً لإنقاذ ما تبقّى من أبنية تراثيّة صمدت حتّى اليوم على الرّغم من هجمة الاستثمار العقاريّ الشّرسة. وخلافاً لمَراحل سابقة من تاريخ بيروت المُعاصر، فإنّ الأولويّة لدى الجهات النّاشطة في إعادة الإعمار قد توزَّعت بشكلٍ شبه متساوٍ بين مُساعَدة ودعْم سكّان الأحياء المنكوبة وبين السعي وراء المُحافَظة على الأبنية التراثيّة. فبالإضافة إلى البحث الحثيث عن القيمة المعنويّة لعودة الحياة بعد الكارثة، بات جليّاً أنّ المُطالَبة بالحفاظ على الأبنية التراثيّة اقترب من أن يُصبح مَطلباً شعبيّاً في هذه المنطقة، أي أنّه لا يعني النّخبة حصراً بل المواطنين أجمعين. أمّا على صعيد المُبادَرة الفعليّة لاستنهاض النسيج المعماري التراثي المُتضرِّر والمُحافَظة عليه، فقد جاءت "مُبادرةُ إنقاذ التراث المعماري في بيروت - ٢٠٢٠" باكورة هذا التحوّل في التعاطي مع تراث المدينة مُتّخذةً من فاجعة الرّابع من آب (أغسطس) فرصةً حقيقيّة لرسْم خطّة جديّة ومُستدامَة للمُحافَظة على ما تبقّى من تراث معماري في العاصمة. وقد تشكّلت "مُبادَرة إنقاذ التراث المعماريّ في بيروت - ٢٠٢٠" من مجموعة خبراء في الترميم المعماري من مَركز الترميم والحفاظ على المَواقِع التاريخيّة التّابع لكليّة الفنون الجميلة والعمارة في الجامعة اللّبنانيّة تحت إشراف المديريّة العامَّة للآثار، وجمعيّة "إيكوموس لبنان" ومُحافظة بيروت، وبالتعاون مع منظَّمة "اليونسكو" والمَركز الدوليّ لدراسة صَوْن وترميم المُمتلكات الثقافيّة "إيككروم"، وجمعيّة حماية المَواقِع الطبيعيّة والأبنية القديمة في لبنان "أبساد"، و"الدرع الأزرق".

الذاكرة البصريّة لمعظم البيارتة

يبقى المُجدي العودة إليه اليوم هو الفرصة التي سنحت أمام المعنيّين من خُبراء في مجال التراث المعماري ومن الاختصاصيّين في العمارة بعامّة بتناوُل نسيج هذه الأحياء تناوُلاً شاملاً ليس عبر مجموعة أبنية مُنفرِدة فقط. فبهذه المُقارَبة ينتقل التراث من معناه الجامد إلى رؤية أكثر ديناميكيّة تشملُ المدينة بتنوّعها، والتي تعكسُ عبر اختلاف الأساليب المعماريّة شتّى مَراحل التوسُّع فيها. فهذا التنوّع في أشكال العمارة يُشير تارةً إلى سرعة التحوّلات الديموغرافيّة في البلاد والتطوّر التقني وتعديلات قانون البناء، ولاسيّما في ما يتعلّق بارتفاع الأبنية، ويرمز تارةً أخرى إلى نزعةٍ متأصّلة لدى اللّبنانيّين للتحديث واستسهال استبدال ما هو قديم بالجديد. فالنسيج العُمراني المُتضرِّر يجمع نماذج نادرة من أبنية تعود إلى منتصف القرن التّاسع عشر صمدَ بعضها في حيّ الحِكمة بسبب تجميد حركة البناء مع مشروع جادّة فؤاد بطرس. ويجمع غيرها بنسبة قليلة من فترة أواخر القرن التّاسع عشر وبداية العشرين كالأبنية ذات البهو الوسطي المعروفة بالقناطر الثلاث في واجهتها وسطح القرميد المُنتشِرة اليوم، وهي مُنتشِرة اليوم إمّا عند الشّوارع الرئيسة كخطّ غورو - أرمينيا أو في أحياء مار نقولا والخندق الغميق والبسطة الفوقا والباشورة. وتُشكِّل أبنية فترة الانتداب، التي تتميّز باستخدام تقنيّات الإسمنت المسلَّح في الشرفات الصغيرة والفرندات أو بالواجهات المُزخرَفة، نسبةً متوسّطة مُنتشرة في جميع أنحاء المنطقة المذكورة. أمّا النموذج التراثي الأكثر انتشاراً فهو حتماً الإرث المعماري الحديث بأبنيته السكنيّة المشيَّدة بين أواسط الأربعينيّات وأوائل السبعينيّات قبيل اندلاع الحرب اللّبنانيّة عام 1975. فعناصر هذا النموذج الأخير مُرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالذاكرة البصريّة لمُعظم سكّان بيروت. منها مثلاً الواجهات المرشوشة والنّافرة أو الدرابزينات المُنخفضة والنوافذ الخشبيّة المفرَّغة أفقياً أو الحديديّة، فضلاً عن عناصر فريدة أُخرى كالفسيفساء الملوّن أو الورقة الخارجيّة المدقوقة وغيرها من التقنيّات التي كثُر استخدامها حتّى أوائل السبعينيّات.

إنّ هذه النظرة الشّاملة على جميع مكوّنات هذه الأحياء المُحيطة في وسط المدينة وفي المرفأ قد باتت اليوم ضروريّة بل مُلحّة لإعادة النّظر في مفهوم التراث المعماريّ وعدم حَصْره بأبنية مُنفرِدة من الحقبة العثمانيّة وفترة الانتداب. ولعلّ قرار المجلس الأعلى للتنظيم المدني وضْع المنطقة المُحيطة بانفجار المرفأ تحت الدرس وإحالة طلبات الترخيص وتصاريح ترميم الأبنية المُنجَزة قبل العام ١٩٧١ إلى المديريّة العامّة للآثار كان فعلاً أوّل الغيث في طرْح هكذا رؤية. فهو يرمي ليس إلى تناوُل النسيج العمراني بشكلٍ كامل فقط، بل يربط كذلك عمارة فترة الحداثة بتاريخ المدينة وتراثها المَبني. وإذا كانت أبنية الفترة العثمانيّة ومرحلة الانتداب عرضةً أكثر للانهيار وللخَلل الإنشائي، فإنّ عمارة الفترة اللّاحقة هي حتّى اليوم أكثر هشاشة لناحية الاهتمام الشعبي أو لناحية تصنيفها كتراثيّة من طرف بعض الجهات المعنيّة في السنوات السّابقة. فلو سلّمنا أنّ جهود بعض المنظّمات غير الحكوميّة والحديث المُتكرّر عن الأبنية التراثيّة في وسائل الإعلام قد نجحت نَوعاً ما بنشْر الوعي حول أهميّة المُحافَظة على البيوت ذات القناطر الثلاث وسطح القرميد والحَجَر الرّملي، فإنّ قيمة العمارة في الفترة اللّاحقة تبقى مُلتبسة لدى الأكثريّة. وعلى الرّغم من حملات التوعية المُختلفة كتلك التي قام بها "المركز العربي للعمارة"، فإنّ توسيع معنى التراث المعماري ليَشمل أبنية فترة الاستقلال هذه بقيَ مُعلَّقاً عند غير الاختصاصيّين.

غير أنّ حصْر فترة الحداثة بمبانٍ شهيرة ذات رمزيّة عالية كمبنى شركة كهرباء لبنان مثلاً في حيّ مار ميخائيل أو أخرى ارتبطت بمعماريّ معروف فقط، قد يُهمّش أخرى ويهدّدها بالزوال أو أقلّه بالتعديل وإعادة التأهيل غير المدروس. نُشيرُ على سبيل المثال إلى تلك الأبنية السكنيّة الأقلّ شهرة أو إتقاناً في التنفيذ، والتي بات وجودها مرتبطاً أشدّ الارتباط بذاكرة المكان وسكّانه. نذكُر منها أبنية حيّ الكرنتينا أو الجعيتاوي مثلاً عند خطّ شارع مار لويس أو في محيط شارع مستشفى القدّيس جاورجيوس. فكلّما اتّسع مفهوم ما هو ذو قيمة تاريخيّة ومعنويّة، كلّما انحسرت المُقارَبة النمطيّة للمُحافظة على التراث التي تميل أكثر إلى تجميل الأبنية من دون مُراعاة قِدمها وتحوّلاتها عبر السنين. هكذا ينتقل مشروع إنقاذ تاريخ بيروت من مُقارَبة تقنيّة ترمي إلى منْع الهدْم وترميم البناء إلى خطّة تُعنى أكثر بإدارة تحوّلاته وتحديد هامش التغيير والتعديل راسمةً خطوطاً حمراً للعناصر التي لا بدّ من المُحافظة عليها مهما كان. فإذا كان إقفال النوافذ أولويّة لعَودة السكّان، فاللّجوء مثلاً إلى استبدال جميع خشبيّات البناء، بما فيه الصّالح منها، بموادّ حديثة أكثر كلفة كالألومينيوم هو في الغالب خيارٌ لا ينظرُ إلى الجانب العَمَليّ والسريع كما يُشيَّع له، بل يلتحق أيضاً بمَوجة التغيير تحت ذريعة التحسين والتحديث. وإذا كانت ردّة فعل المُجتمع المدني على أكبر كارثة عرفتها بيروت منذ انتهاء الحرب قد بدأت بشقّ الطريق نحو إعادة النّظر بتراث المنطقة، فإنّ الحلول البسيطة والأكثر اقتصاداً كتدوير الموادّ الأصليّة والابتعاد عن التعديلات غير الضروريّة هو بحدّ ذاته سبيلٌ للحفاظ على هويّة الأمكنة وإعادتها إلى ذاكرة السكّان.

مازن حيدر / مهندس في الترميم - باحث وأستاذ جامعي من لبنان - مؤسسة الفكر العربي