"الإقطاع الطائفيّ" وسياسة إفقار اللّبنانيّين
د. مسعود ضاهر*
حين عقّب د. جورج قرم على البُعد الاقتصاديّ في دراسات "الندوة اللّبنانيّة" التي كان يُديرها بكفاءةٍ عالية ميشال أسمر، توقَّف مليّاً عند صرخةٍ سياسيّة اقتصاديّة مُدويّة أَطلقها موريس الجميّل في وجه مؤامرة الإقطاع اللّبنانيّ والدول الأجنبيّة، لإبقاء الشعب اللّبنانيّ في غيبوبةٍ اقتصاديّة. فالثائر في كلّ معنى الكلمة من بين جميع المُحاضرين، كان موريس الجميّل الذي أَطلق الصرخة في كانون الأوّل/ ديسمبر من العام 1952. وهو الوحيد الذي سعى إلى ربْطِ حال لبنان السياسيّة بأحواله الاقتصاديّة. وهو الوحيد أيضاً الذي شَعَرَ بأنّ لبنان في عبوديّةٍ اقتصاديّة، وأنّه تمّ إفقار شعبه لإبقائه في هذه الحال منذ فِتنة القرن التاسع عشر ما بين 1840 و1860. يَصِفُ الجميّل هذه الفتنة بأنّها "مؤامرة" لا تزال مُستمرّة إلى يومنا هذا، حاكَتها الدولُ الأوروبيّة ونفَّذها الإقطاعُ اللّبنانيّ.
فكيف بدأت العبوديّة الاقتصاديّة في جبل لبنان أوّلاً، ثمّ في لبنان الكبير على يدِ مَن وَصَفَهُم الجميّل بالإقطاع اللّبناني الطائفي؟ وهل ما نشهده في لبنان اليوم من مُصادَرة أموال المودعين في البنوك، وإذلال اللّبنانيّين وإفقارهم، يندرج في السياق التاريخي الذي أَبدع موريس الجميل في اكتشافه منذ أكثر من سبعين عاماً؟
بدايةً، يتساءل الجميّل عن طبيعة العلاقة المُلتبسة بين الشعب اللّبناني وحكّامه، وهل إنّ الشعب لم يُنفِّذ المشاريع التنمويّة التي اقترحتها الحكومةُ اللّبنانيّة أو أنّ الحكومة لم تكُن جادّة في تنفيذ أيّ مشروعٍ تنموي لمصلحة الشعب اللّبناني؟ فقد اعتُمدت سياسة الصفقات المشبوهة لجني العمولة والسمْسَرة، والإكثار من المشاريع التي هُدرت فيها ملايين الدولارات من دون أن تُبصر النور أو تمّ تعطيلها بعد المراحل الأولى من التنفيذ من دون أن تلقى أيَّ عقابٍ أو مُحاسَبة.
بعد قراءةٍ معمّقة لتاريخ لبنان منذ نهاية حُكم الأسرة الشهابيّة، يُسلِّط الجميّل الضوءَ على سمتَيْن أساسيّتَيْن في مجال التنمية البشريّة التي كان يوليها عناية خاصّة:
الأولى: الطبيعة التحرُّريّة للشعب اللّبناني، لأنّه يرفض الظلم والاستعباد، فأَعلن الأميرُ فخر الدّين الثاني التمرُّدَ على السلطنة العثمانيّة وهَزَمَ جيشَ والي دمشق في معركة عنجر. وتحالَفَ الأميرُ بشير الثاني الشهابي مع محمّد علي باشا، وأَرسل قوّاتٍ عسكريّة مع الجيش المصري لمُحارَبة السلطنة العثمانيّة في عقر دارها. وقام اللّبنانيّون بانتفاضاتٍ فلّاحيّة عدّة في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر، توِّجت بنجاحِ انتفاضة فلّاحي كسروان لأكثر من سنتيْن إلى أن ضُربت من تحالُفِ الإقطاع الطائفي اللّبناني مع قناصل الدول الأوروبيّة، وبمُبارَكةٍ من السلطنة العثمانيّة. لكنّ الانتفاضة أَدخلت تعديلاتٍ جذريّة في المُجتمع اللّبناني أبرزها ظهور فئة الفلّاحين الأحرار للمرّة الأولى في تاريخ بلاد الشام. وقد تملّكوا الكثير من الأراضي بعرق جباهم بعد صدور "قانون الأراضي العثماني" في العام 1858.
الثانية: اعتماد الطائفيّة السياسيّة في نظام القائمقاميّتَين للمرّة الأولى في جبل لبنان. فقد كانت السلطنة العثمانيّة توكل إلى ولاة طرابس وصيدا ودمشق تعيين المقاطعجيّين من أبناء الأعيان في جبل لبنان لجباية الضرائب من دون أن تكون لهم ملكيّة الأراضي التي كانت حصريّاً للسلطان، يَهبها لمَن يشاء ويَستردُّها ساعةَ يشاء. وكانت العلاقة المُعتمدة بين السلطان ورعاياه تُختصر بعبارة: "فرْض الطاعة عليهم وجباية الميري منهم".
لم يَستخدم حكّام لبنان من الأمراء المعنيّين والشهابيّين الطائفيّة على الإطلاق، لأنّ هدفهم كان جباية الضرائب من دون تمييز بين طوائف الرعايا من اللّبنانيّين. وكان الفلّاحون يدفعون ضرائبهم دونما نظر إلى طائفة المقاطعجي الجابي. كان بعض المقاطعجيّين يُبالغون في جمْع الضرائب ويجبونها مرّاتٍ عدّة في السنة. وحين يتأخّر الفلّاحون عن الدفع، يُرسل الأمير عسكر الجوّالة لجبايتها. فيُقيمون في القرية ويعيثون فساداً بالمدّخرات والمُمتلكات، ويذلّون الفلّاحين إلى أن يجبروهم على تسديد ما عليهم من ضرائب. وبسبب إذلال الرعايا اللّبنانيّين وإفقارهم، وفرْض السخرة عليهم، ومُصادَرة ما لديهم إبّان الحُكم المصري على جبل لبنان، شهدَ النصف الأوّل من القرن التاسع عشر سلسلةَ انتفاضاتٍ فلّاحيّة رفضاً للظلم والإذلال والإفقار المُتعمّد.
انطلقَ موريس الجميّل من هذا التوصيف الدقيق ليطرح السؤال المنهجي التالي: لمصلحة مَن كانت تُمارَس سياسة إذلال الرعايا اللّبنانيّين وإفقارهم؟ وما دور الإقطاع الطائفي في تنفيذ تلك السياسة؟ فقدَّم تحليلاً معمّقاً وغير مسبوق لهذه الظاهرة المُستمرّة في تاريخ لبنان المُعاصِر؛ فكيف تبلْورت نظريّته في هذا المجال؟
حتّى نهاية حُكم الأسرة الشهابيّة، لم يكُن هناك أثرٌ يُذكر للطائفيّة السياسيّة أو لاستغلال الطائفيّة في السياسة في جبل لبنان. ودلّت مرحلة الفِتن في جبل لبنان (1840 - 1860) على أنّ السلطنة العثمانيّة فشلت في فرْضِ حاكم عثماني على جبل لبنان لإخماد انتفاضات الفلّاحين ومنْعها من الانتشار في مختلف أنحاء بلاد الشام؛ فقبلت السلطنة بنظام القائمقاميّتين استناداً إلى رؤيةٍ سياسيّة تخدم مصالحها، وليس بسبب ضغوط الدول الأوروبيّة التي ادّعت حماية الطوائف اللّبنانيّة؛ فالطائفيّة السياسيّة تولِّد نزاعاتٍ دمويّة بين زعماء الطوائف اللّبنانيّة تستفيد منها السلطنة العثمانيّة في الدرجة الأولى. فكيف تستطيع الدول الأوروبيّة حماية المسيحيّين في جبل لبنان في حال نشبَ صراعٌ طائفي بينهم وبين طوائف لبنانيّة أخرى تحت رعايةٍ مباشرة من الجيش العثماني، وغياب أيّ قوّة عسكريّة أوروبيّة من جهة، وانخراط الطوائف الإسلاميّة في الصراع إلى جانب السلطنة من جهة أخرى؟
لذلك وجَّه موريس الجميّل انتقاداً حادّاً جدّاً للسياسة الرعناء التي اعتمَدتها الدول الأوروبيّة في تلك الفترة، واعتبرها تآمُراً فاضحاً ضدّ المسيحيّين في جبل لبنان وكامل منطقة بلاد الشام. فقد ضَربت الدول الأوروبيّة بمصلحة المسيحيّين الذين كانت تربطهم علاقات وثيقة بالطوائف الإسلاميّة في بلاد الشام. واستخدمت الطائفيّة لتمزيق عرى التضامُن بين الرعايا اللّبنانيّين من جميع الطوائف تنفيذاً لمشروعٍ أوروبي يرمي إلى تفكيك السلطنة واقتسام ولاياتها، وإقامة دويلاتٍ جديدة على قاعدة تجمُّعاتٍ قبليّة وطائفيّة هزيلة برعايةٍ أوروبيّة.
واستناداً إلى وعودٍ خادعة بالدعم والمساعدة العسكريّة من القناصل الأوروبيّين، وبخاصّة القنصل الفرنسي والقنصل البريطاني، دخلت الطوائف اللّبنانيّة في نزاعاتٍ دمويّة كبَّدت اللّبنانيّين خسائر فادحة في الأرواح والمُمتلكات. وتمّ القضاء على انتفاضة فلّاحي كسروان بعد حربٍ دامية في العام 1860. جاءت النتائج مخيّبة لآمال اللّبنانيّين جميعاً.
1- كانت القيادات اللّبنانيّة الطائفيّة الجديدة في عَهد الفِتن انفعاليّة وتفتقر إلى حِكمة القيادات الوطنيّة في زمن الأمراء المعنيّين والشهابيّين. فالقادة الطائفيّون الجُدد موظّفون يدّعون تمثيل طوائفهم، وينفّذون أوامر الحكّام العثمانيّين ونصائح القناصل الفرنسيّين والإنكليز. لا صلاحيّات لهم في إدارة شؤون جبل لبنان، ولا مكانة خاصّة لهم لدى عامّة اللّبنانيّين الذين باتوا يخضعون لحاكمٍ طائفي ضعيف، يعمل تحت إمرة متصرّف عثماني، يعمل بدوره تحت رعاية القناصل الأجانب.
2- في ظلّ النظام الطائفي الجديد تراجَعَ نفوذ مراكز القوى اللّبنانيّة التي كانت تنتفض على الظلم، وتحوَّلَ اللّبنانيّون إلى رعايا لطوائف فَقدتْ زعماءها التقليديّين الذين نالوا عقاباً قاسياً بسبب مُشاركتهم في مجازر 1860. فمنهم مَن دَفَعَ الثمن في أثناء المعركة أو تمّت مُعاقبته من السلطنة العثمانيّة. ونظراً لارتباطهم التبعي بالقناصل الأوروبيّين تحوَّلَ اللّبنانيّون إلى مجموعة طوائف مفكَّكة، وخاضِعة لنزاعاتٍ طائفيّة دوريّة تتكرّر مراراً في تاريخ لبنان المُعاصِر، أمعنت في إذلال اللّبنانيّين وإفقارهم لدرجة طلب الإغاثة خَوفاً من المجاعة.
3 - تفكّكت عرى التضامُن بين المُقاطعات اللّبنانيّة بعدما كانت موحَّدة وممتدّة في مرحلة حُكم الأميرَين الكبيرَين. بات رعايا الطوائف يخضعون لحاكِمٍ إداري ضعيف من سلالة الأعيان؛ وفَقدوا القدرة على القيام بانتفاضاتٍ فلّاحيّة ضدّ القمع والظلم. وكانت نسبةٌ كبيرة من فلّاحي جبل لبنان تعيش على حافّة الكفاف، وتفتقد إلى مقوّمات الصمود في الأزمات الحادّة، فدفعوا الثمن غالياً بسبب المجاعة في الحرب العالَميّة الأولى حين فَقَدَ الجبل ثلث سكّانه.
أَسهب موريس الجميّل في شرْحِ صفات الإقطاع الطائفي الذي حوَّلَ رعايا إلى كتلة بشريّة كبيرة مسلوبة الإرادة وتخضع لرغبات الزعيم المتسلّط الذي جَعَلَ العلاقة التبعيّة بين الحاكِم والمحكوم في الأرياف اللّبنانيّة تفتقر إلى أبسط القيَم الإنسانيّة والأخلاقيّة لعقودٍ طويلة. وتوسَّع في شرْحِ سياسة إذلال اللّبنانيّين وإفقارهم تحت عنوان "الانهيار الاقتصادي والإفقار المُزمِن في لبنان"، فوَصَفَها بالسياسة الخطيرة جدّاً، لأنّها تتناقض مع أبسط مقوّمات التحليل العلمي للتنمية المُستدامة التي تُبنى على الاستقرار الاجتماعي الذي يقود إلى الازدهار الاقتصادي؛ في حين يقود الإذلال والإفقار إلى الشعور بالإحباط والعجز عن المُواجَهة، فتشلّ قدرة الرعايا عن مُواجَهة نفوذ الإقطاع الطائفي الذي تزداد سطوته فيَستخدم "القبضايات" كما يسمّيهم الجميّل، أي البلطجيّة الذين يجوبون الشوارع مُردّدين: "بالروح، بالدمّ، نفديك يا زعيم"؛ فأَصبح "الإقطاع الطائفي" فوق القانون والمُحاسبة، وأقوى من الدولة، يتحكّم بمقدّراتها ومواردها.
وانتقد بشدّة مقولة أنّ لبنان ضعيف، لأنّه يَفتقر إلى الموادّ الخامّ، لأنّ لديه طاقات بشريّة وطبيعيّة كبيرة إذا أُحسن استخدامها. وهاجَمَ سياسة تجويع اللّبنانيّين واستجداء الدول الأجنبيّة لتقديم مُساعدات يتحكّم "الإقطاع الطائفي" بالكثير منها.
ختاماً، تحكّمت سياسة الإذلال والإفقار بمصير أجيالٍ مُتعاقبة من اللّبنانيّين. وما نشهده اليوم من مُصادَرة البنوك والطبقة السياسيّة لأموال المودعين، وإذلالهم وإفقارهم ليس سوى تأكيد على أنّ مقولة موريس الجميّل ما زالت حاضرة بقوّة في تاريخ لبنان المُعاصِر.
*مؤرِّخ وكاتب من لبنان - مؤسسة الفكر العربي