هل يُمكن قيام عَوْلَمة بلا منظّمات تنسيق فوق وطنيّة؟

د. عبد العظيم محمود حنفي*

لا تعمل العَوْلَمةُ من تلقاء نفسها، ولكنْ من خلال السياسات الاقتصاديّة - الماليّة، والذين يضعون هذه السياسات ويطبّقونها يُمكن أن يكونوا مَراكِز القوى في العالَم التي أنشأت هذه المنظّمات لخدمة مصالحها. والسؤال المطروح: هل يُمكن ترجمةُ تنفيدِ العَوْلَمة من دون إيجاد منظّمات التنسيق فوق الوطنيّة؟ يُجيب بعض المُحلّلين، وهُم يُمثّلون مُعسكر السيادة الوطنيّة، ومن بينهم جون كينيث جالبريث Kenneth Galbraith John، عن هذا السؤال بالإيجاب، في حين يجيب عنه البعض الآخر بالنفي، وهؤلاء يشكّلون تيّار الانفتاح الخارجيّ.

ما تحتاجه البشريّة اليوم ليس مجرّد العَوْلَمة، ولكن العَوْلَمة ذات الوجه الإنساني، التي يتمّ من خلالها تقاسُم المَنافِع بالتساوي بين الأُمم دوليّاً وبين الناس على الصعيد الوطني، من أجل إرساء العَوْلَمة على قيَم الإنصاف والعدالة الاجتماعيّة.

المطلوب هو الإصلاحات وقواعد جديدة للسلوك في منظّمات الحَوْكَمة العالَميّة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي ومنظّمة التجارة العالَميّة. واجَهَ الاقتصادُ العالَمي أوّلَ مَوجةِ ركودٍ في عصر العَوْلَمة عام 2008. ثمّ هناك مُعاناة الدول النامية في الحصول على اللّقاحات والأدوية لمُواجَهة كوفيد–19.

حَوْكَمة عالَميّة من دون حكومة عالَميّة

ليس هناك من نظامٍ مُماثِلٍ للإشراف على عمليّة العَوْلَمة في العالَم. لدينا الحَوْكَمة العالَميّة، من دون وجود حكومة عالَميّة. في المقابل، على مدى السنوات الـ ٥٠ الماضية، كان لدينا نظام المؤسّسات مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي ومنظّمة التجارة العالَميّة، التي تُعتبر مسؤولة عن نواحٍ مُختلفة من العمليّة التنمويّة، والتجارة، والاستقرار المالي، لكنّ الطريقة التي تتمّ بها قيادة هذه المنظّمات الاقتصاديّة تتماثَل مع مَسار تطوّرها على مرّ السنين: غياب الديموقراطيّة والشفافيّة، والانحياز إلى المصالح الخاصّة على حساب البلدان الفقيرة.

تتّهم الحكوماتُ العَوْلَمة بأنّها السبب في فقدانها السيادة الوطنيّة الناجمة عن النموّ غير المحدود لقوّة الأسواق الماليّة والشركات المتعدّدة الجنسيّات. وهذا ما يستدعي إصلاح المنظّمات الدوليّة، بما يخدم ليس الأغنياء والدول الصناعيّة المتقدّمة فحسب، ولكنْ أيضاً الفقراء والبلدان الأقلّ نموّاً. كان صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في المَركز من مشكلاتٍ اقتصاديّة كبرى بدأت منذ عقدَيْن، شملت الأزمات الماليّة وتحوُّل الدول الشيوعيّة السابقة إلى اقتصاد السوق. اهتمّ صندوق النقد الدولي، في علاقاته ببلدٍ مُعيّن، بقضايا الاقتصاد الكلّي: عجز الموازنة العامّة للدولة، والسياسة النقديّة، والتضخُّم، والعجز التجاري، والسياسة المتعلّقة بالعقود للحصول على الائتمانيّات القادمة من مَصادر خارجيّة. بينما كان من المُفترض أن يتعامل البنك الدولي مع المُشكلات الهيكليّة وأوجه إنفاق المال من جانب حكومة البلد المَعنيّ، والمؤسّسات الماليّة في البلاد، وسوق القوى العاملة، والسياسات التجاريّة. نحن نستطيع أن نؤكّد أنّ صندوق النقد الدولي لم يُحقِّق مهمّته الأساسيّة المتمثّلة في تعزيز الاستقرار العالَمي، لا بل إنّه لم يُحقِّق أيّ نجاحٍ أيضاً في المهمّات الجديدة التي تعهَّد بها.

وتحتاج منظّمة التجارة العالَميّة لاتّخاذ قراراتٍ تشتمل على أهداف تسهيل التغلغل في السوق الدوليّة لشركاتٍ معيّنة من البلدان النامية التي لديها إمكانات، والتي أَثبتتْ أنّ لديها القدرة على التكيُّف مع بعض المَعايير التي تفرضها المنظّمات الدوليّة لفترةٍ مُحدَّدة من الزَّمن. لتحقيق هذا الهدف، من الضروري أن تُدافع منظّمة التجارة العالَميّة، جنباً إلى جنب، مع المنظّمات الدوليّة الأخرى، عن اعتماد القرارات وتنفيذها لمصلحة دول الجنوب، مثل تخصيص الأموال والقروض غير القابلة للسداد في إطار شروط مواتية، وتقديم المُساعدة الفنيّة المُختصَّة لإرشاد المُديرين من أجل تخصيص المَوارِد بكفاءة، واعتماد سياسات واستراتيجيّات تسمح بتحقيق الأهداف المُقترَحة. بهذا المعنى، يجب أن توفِّر البلدان المُتقدّمة للبلدان النامية التكنولوجيا والمعدّات الفعّالة في ظلّ ظروفٍ مواتية، وأن تضمن المُساعدة التقنيّة والماليّة المُتخصِّصة اللّازمة حتّى تُصبح بلاد الجنوب قادرة على استغلال الموادّ الخامّ التي لديها، واستخدام القوّة العاملة المُتاحة الوفيرة والرخيصة نسبيّاً.

لم تكُن السياساتُ الاقتصاديّة التي تمّ التوصُّلُ إليها في واشنطن من قِبَلِ المؤسّسات الاقتصاديّة الدوليّة في البلدان المتقدّمة كافية بالنسبة إلى البلدان التي تمرّ بالمراحل الأولى من تطوّرها أو تحوّلها. فقد دَعَمَتْ معظم البلدان الصناعيّة المتقدّمة اقتصاداتها بقوّة من خلال حماية بعض فروع نشاطها، حتّى تمكَّنت من مُواجَهة مُنافَسة الشركات الأجنبيّة. وقد أَثبتت المُمارَسة في جميع أنحاء العالَم أنّ إلزامَ دولة نامية بفتْح أسواقها أمام استيراد المُنتجات التي من شأنها مُنافسة مُنتجات فروع معيّنة من اقتصادها الوطني يخلِّف آثاراً وعواقب اجتماعيّة واقتصاديّة كارثيّة. فقد قلَّت الوظائف بشكلٍ منهجي، وعَجِزَ المزارعون الفقراء في البلدان النامية عن مُنافَسة المُنتجات التي تدعمها الإعانات القويّة القادمة من أوروبا أو الولايات المُتّحدة الأميركيّة، قبل أن تتمكّن الصناعة والزراعة في هذه البلدان من تطوير ذاتها وإيجاد فُرص عملٍ جديدة. فبسبب إصرار صندوق النقد الدولي على أنّ البلدان النامية يتوجّب عليها الاستمرار في تطبيق السياسات النقديّة المقيّدة، وصلتْ أسعارُ الفائدة إلى مستوياتٍ جعلتْ من المستحيل إيجاد فرُص عملٍ جديدة، حتّى في ظلّ أفضل الظروف؛ إذ تمّ تحرير التجارة قبل اتّخاذ تدابير الحماية الاجتماعيّة اللّازمة، وتحوَّل الذين فقدوا وظائفهم إلى فقراء. في حين راح يشعر الذين لم يفقدوا وظائفهم بعدم الأمان. لذلك، وفي أحيان كثيرة جدّاً، لم ينتج عن التحرير النموّ الاقتصادي الموعود، بل حصلت زيادة في معدّلات الفقر.

زادت خيبةُ الأمل المتعلّقة بالإجراءات التي تمّ اتّخاذها بتوجيهٍ من صندوق النقد الدولي، ولاسيّما المتعلّق منها بفقراء البلدان النامية، وقضايا الاستفادة من الإعانات، من وقود وموادّ غذائيّة، التي راحت تقلّ بشكلٍ مُتزايد. فيما راح الفقراء في تايلاند يراقبون انتشار الإيدز بينهم بسبب التخفيضات الحاصلة في قطاع الصحّة التي يفرضها صندوق النقد الدولي، فضلاً عن امتناع الكثير من الأسر في العديد من البلدان النامية عن إرسال أبنائهم إلى المدرسة بسبب التكاليف الدراسيّة.

هنا يُثار تساؤل عمّا إذا كانت هناك حاجة اليوم إلى صندوق النقد الدولي؛ ذلك أنّ الدَّور ملقىً على الأُمم المتّحدة التي ينبغي عليها الاضطّلاع بمسؤوليّة تقديم العون والمساعدة إلى الدول لتطوير تفاعلاتها، وتطوير كفاءاتها في العمل في إطار نظامٍ متعدّد الأطراف، وهو الأمر الذي يُثير الجدل حول معضلة المركزيّة واللّامركزيّة. غير أنّ تحقيق مهامّ التعاوُن الدولي على هذا النطاق وبالصورة التي يُطالب بها ميثاق الأُمم المتّحدة في مثل هذه المجالات المتنوّعة غير قابل للتحقُّق على المستوى المركزي؛ إذ يعتمد العملُ الدولي في المجالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة على المُشارَكة الفعّالة واتّخاذ إجراءات تكميليّة من السلطات الوطنيّة في كلّ مجال. ويمكنها أن تعمل من خلال المشاركة المباشرة مع الشركاء الدوليّين؛ وهكذا فإنّ اللّامركزيّة هي هدف مطلوب تحقيقه، ويتمثَّل دَور المنظّمات الدوليّة في تحقيق الاستقرار المالي في:

العمل بحكمة في تعزيز تحرير رأس المال
وصف شروط قبولها من جانب الدول
تجنُّب سياسات الاقتصاد الكلّي الضيّقة للغاية وسياسات التكيُّف الهيكلي التي لم تُثبت كفاءتها
إنهاء الاحتكار من صندوق النقد الدولي
وللأُمم المتّحدة دورٌ لا غنىً عنه في منْعِ الآثار الناجمة عن النزاعات وتخفيفها، ليس من خلال إجراءاتها في المجال الصارم لعمليّات حفظ السلام أو الإجراءات العسكريّة والأمنيّة الأخرى فحسب، لكن أيضاً من خلال مَهامّها الأخرى كلّها، مثل تعزيز التنمية المُستدامة، واحترام حقوق الإنسان، وتطوير القانون الدولي. والأُمم المتّحدة ليست مُطالَبة بالسعي لتعزيز دَورها في هذا الاتّجاه فحسب، ولكنّها تحتاج أيضاً إلى تحفيز حشد المَوارد من المؤسّسات الماليّة الدوليّة في مشروعاتٍ مُشترَكة.

في الوقت الحاضر، ولسوء الحظّ، لا يُمكن الحديث عن وجود منظّمة عالميّة قادرة على الحدّ من التفاوت الصارخ بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب، وتنظيم الأمور وفقاً لقواعدها الخاصّة، من دون أن تتأثّر بحكومات البلدان الصناعيّة الكبرى.

نحن بحاجة إلى إصلاحاتٍ مهمّة في المنظّمات الدوليّة القائمة أو حتّى إلى حلّها وإنشاء منظّمات جديدة قادرة على تطبيق القوانين بشكلٍ موضوعي، واعتماد القرارات والاستراتيجيّات والخطط التي تخدم مصالح العالَم كلّه وليس مصالح البلدان الصناعيّة الرئيسة فقط. على أن تكون هذه المنظّمات قادرة على "الاستماع" إلى مُشكلات كلّ بلدٍ على حدة، واعتماد تدابير خاصّة به، وإيجاد حلولٍ وافية أقرب ما تكون إلى الواقع.

إنّ الضغوط التي تمارسها العَوْلَمة على الاقتصاد وعلى حياة الناس في كوكبنا تزداد وطأتها أكثر فأكثر. وفي الوقت نفسه، يجب أن نحوِّل الأزمةَ الاقتصاديّة والصحيّة الحادّة إلى فرصة لبدء عصر جديد من الاستدامة. فالتنمية هي وصفة خضراء جديدة تمثّل برنامج الاستثمارات العامّة في البنية التحتيّة والتكنولوجيا، الذي تستطيع البلاد من خلاله أن تضمن إعادة تأهيل اقتصاداتها، وأن تُسيطر على معدّل البطالة.

 

*باحث وأكاديمي مصري - مؤسسة الفكر العربي