المملكة تحتفي باليوم الوطني الرابع والتسعين.. ذكرى تأسيس دولة حضارية عظيمة
news image

بث:

في 23 من سبتمبر عام 1932م جاء الإعلان التاريخي للملك عبدالعزيز -رحمه الله-، لتوحيد هذه البلاد المباركة تحت راية "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" وإطلاق اسم المملكة العربية السعودية عليها بعد جهاد وكفاح استمر اثنين وثلاثين عامًا .
 

 وبحسب ما ورد في مجلد "سيرة وشخصية الملك عبدالعزيز ومراحل بناء الدولة السعودية الثالثة" -طباعة دارة الملك عبدالعزيز-، ولد الملك المؤسس في مدينة الرياض عام 1293هـ وترعرع فيها، ونهل من علمائها، حيث تعد الرياض امتدادًا تاريخيًا لمسيرة الآباء والأجداد.
وحرصًا على تنشئته وتعليمه، عهد به والده الإمام عبدالرحمن بن فيصل آل سعود –رحمه الله– إلى القاضي عبدالله الخرجي لتعليمه القرآن الكريم والقراءة والكتابة وهو في سن السابعة من عمره، وفي سن العاشرة تلقى تحصيله في الفقه والتوحيد على يد الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ، وبالتوازي مع ذلك كان الملك عبدالعزيز يتعلم ركوب الخيل، ومهارات الفروسية.
وتأثرت شخصية الملك عبدالعزيز كثيرًا بشخصيّة والده الإمام عبدالرحمن الفيصل –رحمهما الله- حيث كان أبًا وُمعلمًا وأخًا وصديقًا لابنه، فضلًا عن شخصية والدته الأميرة سارة السديري التي كانت من أكمل النساء عقلًا وتدبيرًا، وكان محبًا لإخوته (خالد، وفيصل، وفهد، ومحمد ونورة)، لكن علاقته بالأميرة نورة -رحمها الله- كانت أكثر حميمية، واحتلت مكانة كبيرة في نفسه -رحمه الله-، حتى إنه ينتخي بها بالقول: "أنا أخو نورة أنا أخو الأنوار"، ويحرص على زيارتها يوميًا في منزلها.
 

وللملك عبدالعزيز شخصية قوية آسرة ومهابة تأثر بها كل من قابله، وصورة باسمة مشرقة بأسارير متهلّلة بما عُرف عنه -رحمه الله- من لين الجانب والتواضع والمرح، وعدم تكلّفه في الحديث مع أبناء شعبه ورعيته، فضلًا عن كرمه وسخائه مع الجميع، فلم يكن ملكًا فقط، بل كان رب أسرة ومحبًا للجميع، ورجلًا قدوةً في أفعاله وسلوكياته.

ومرّ الملك عبدالعزيز -رحمه الله- بأحداث ومحطات متعددة في حياته كانت مؤثرة في بناء شخصيته الفذّة -رحمه الله- خاصة منذ أن بلغ سن الخامسة عشرة، حيث أسهمت هذه الأحداث في صقل شخصيته، وعلمته الصبر والقوة والإقدام.
وعدّ المؤرخون خروج الملك عبدالعزيز، مع والده الإمام عبدالرحمن –رحمهما الله– وبعض أفراد أسرته من الرياض عام 1308هـ الحدث الأصعب في حياته، وكانت محطتهم الأولى بعد الرياض واحة "يبرين" في الأحساء ثم البحرين إلى أن وصلوا فيما بعد إلى الكويت واستقروا بها عدة سنوات، ظل فيها الملك عبدالعزيز معلق القلب بالرياض.

وعندما بلغ الملك عبدالعزيز العشرينيات من عمره وهو في الكويت توجّه في الخامس من شهر رمضان عام 1319هـ إلى الرياض في رحلة بطولية .
وفي اليوم الرابع من شهر شوال من عام 1319هـ وصل الملك عبدالعزيز ورجاله إلى "ضلع الشقيب" الذي يبعد عن مدينة الرياض نحو ساعة ونصف مشيًا على الأقدام، ومن الضلع تقدموا إلى الرياض التي دخلها الملك عبدالعزيز بذكاء القائد المحنك وأعاد الأمور إلى نصابها الصحيح بعد عملية بطولية حامية الوطيس لم تدم طويلًا، وأعلن بداية العهد الزاهر في نجد بعد أن بايعه أهالي الرياض وأعيانها عام 1320هـ أميرًا على نجد وإمامًا لأهلها، وذلك عقب صلاة الجمعة في ساحة المسجد الكبير بالرياض، فدبّ الاستقرار السياسي في مدينة الرياض بعد سنين من الاضطراب، وكانت وحدة الحكم من أهم العوامل التي مهّدت دخول الرياض مرحلة جديدة من النمو والازدهار الحضاري.
 

وتمكن الملك عبدالعزيز آل سعود –رحمه الله – بفضل الله تعالى عبر رحلة طويلة أضناه فيها طول المشي والتفكير من لملمة شتات البلاد، وإعادة الأمن، والتصدي للفوضى التي كانت سائدة في الجزيرة العربية آنذاك، وأصبح بمحبة الناس ملكًا لدولة سهر على بنائها وأوجد نظامها حتى أصبحت لها مواقف مشرّفة مع الأمتين الإسلامية والعربية والعالم أجمع.
واهتم الملك عبدالعزيز بتطوير البلاد، فأصدر مرسومًا ملكيًا يقضي بتحويل اسم الدولة من (مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها) إلى المملكة العربية السعودية، وذلك في 21 جمادى الأولى 1351 هـ الموافق 23 سبتمبر 1932م.
ووجَّه الملك عبدالعزيز عند بداية تنظيم الدولة بالاهتمام بالحرمين الشريفين وتوسعتهما، وخدمة الحجاج والمعتمرين، فضلًا عن البدء في فتح المدارس، وإنشاء المستشفيات، وبناء القرى، وإصلاح التربة، وتوطين البادية، والتنقيب عن مياه الري من أجل دعم الزراعة، بيد أن هذه الجهود كانت تتطلب توفير المال لتنفيذها.
وتماشيًا مع الرغبة في النهوض بالبلاد، بدأت في خريف عام 1933م عمليات التنقيب عن النفط في بعض أراضي المملكة، لكن مضت أربعة أعوام عجاف لم تثمر أعمالها عن الوصول إلى نتيجة إيجابية مرضية لاكتشاف مكامن النفط، إلى أن قرّر الخبراء التنقيب حول بئر ماء في منطقة تسمى "عين جت" كان الملك عبدالعزيز قد توقّف عندها عام 1319هـ في طريقه من الكويت إلى الرياض، فكانت المفاجأة وجود النفط على عمق 5 آلاف قدم تحت الأرض.
وانتعشت الأرض الصحراوية بخروج الذهب الأسود الذي حوّل الصحراء القاحلة المؤنسة بهبوب الرياح إلى مدينة مزدحمة بالعمال والمهندسين وخبراء النفط.

 


وفي عام 1939م ضخ النفط أول بشائره في احتفال شهده الملك عبدالعزيز –رحمه الله-، ليستهل بعدها مشروعات الدولة التي خطط لها -رحمه الله-.
وكان اهتمام الملك عبدالعزيز –رحمه الله– بالشأن الخارجي بنفس اهتمامه بالشأن الداخلي، حيث كان يتعامل مع جميع دول العالم بدبلوماسية عالية المستوى، آخذًا بعين الاعتبار استقلال المملكة بقرارها واختيار طبيعة علاقاتها مع الدول دون الإخلال بمكانتها الدينية والحضارية والثقافية وهو ما جعله محبوبًا من مختلف قادة دول العالم، وأصبح حديث الإعلام العربي والإقليمي والدولي في ذلك الوقت.
وفي شهر محرم من عام 1373هـ ترجل الفارس الملك عبدالعزيز عن صهوة جواده بعد أن اشتد عليه المرض أثناء إقامته في الطائف، وفي فجر الثاني من شهر ربيع الأول من عام 1373هـ الموافق 9 نوفمبر 1953م فاضت روحه –رحمه الله- إلى بارئها.
تُوفي –رحمه الله- بعد أن سار في رحلة طويلة عاش فيها أعظم الأحداث، وواجه أكبر التحديات، لكنه ترك للأجيال من بعده إرثًا عظيمًا يهنأ فيه الجميع بين أحضان دولة أسّست على التوحيد لتظل -ولله الحمد- في نماء مستمر، وأمن وخير وسلام حتى وقتنا الحاضر.
وُوري جثمان الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود –رحمه الله- في مقبرة العود وسط مدينة الرياض.

 

 

ويمضي بنا هذا التاريخ الجميل لنعيش معاني قوة الرجل الباني المؤسس الملك عبدالعزيز ورجاله الذين -وبرغم قلة عددهم وعتادهم- انطلقوا من الرياض بذلك الإيمان الصادق في جهاد حتى جمع الله به الصفوف وأرسى دعائم الحق والعدل والأمن والأمان لتتوحد القلوب على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وكذلك أرجاء البلاد، حيث أينعت حينها تلك الجهود أمنًا وأمانًا واستقرارًا وتحول المجتمع من قبائل متناحرة إلى شعب متحد ومستقر يسير على هدي الكتاب والسنة.
وانطلاقًا من النهج الإسلامي القويم دعا -رحمه الله- إلى التعاون العربي والتضامن الإسلامي وأسهم إسهامًا متميزًا في تأسيس جامعة الدول العربية، وفي الأمم المتحدة عضوًا مؤسسًا، كما سجّل له التاريخ مواقف مشهودة في كثير من الأحداث العالمية والقضايا الإقليمية والدولية.
ولقد انتهج الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - رحمه الله - في تعامله مع مواطنيه سياسة قائمة على الشورى وعلى التناصح مع الرعية، واغتنام الفرص لتبادل الرأي والنصح، مسترشدًا بما جاء به ديننا الإسلامي الحنيف.
وكان لهذا النهج القويم الذي سار عليه الملك عبدالعزيز -رحمه الله- وتبعه في ذلك أبناؤه من بعده الأثر الكبير فيما تعيشه المملكة من تطور كبير قائم على تعاضد الدولة والمواطنين.
وقد أدرك الملك عبدالعزيز بثاقب بصره، أن التلاحم والتواصل بين القيادة والشعب وسياسة الباب المفتوح هما من أفضل السبل وأنجعها لخدمة الوطن والمواطنين ولتقدم البلاد ورقيها، ففي الحفل الذي أقامه الملك عبدالعزيز في جدة في الخامس والعشرين من محرم عام 1355هـ بمناسبة انتهاء موسم الحج وقرب سفره إلى الرياض، قال -رحمه الله- : "المقصد من اجتماعنا الليلة أن نتناصح ونتعاضد ويطلع كل منا على ما عند الآخر من جهة، ومن جهة أخرى لنودعكم لأننا على جناح سفر وسنغادر هذا البلد قريبًا وأنه ليُعزّ علينا مغادرته ولكن المصلحة تقضى بهذه التنقلات، ثم هناك مسألة أحب أن أشرحها لكم لأن في نفسي منها شيئًا، أنا لا أحب أن أشقّ على الناس ولكن الواجب يقضي بأن أصارحكم، إننا في أشد الحاجة إلى الاجتماع والاتصال بكم لتكونوا على علم تام بما عندنا ونكون على علم تام بما عندكم، وأود أن يكون هذا الاتصال مباشرة وفي مجلسي لتحملوا إلينا مطالب شعبنا ورغباته وتحملوا إلى الشعب أعمالنا ونوايانا، إنني أود أن يكون اتصالي بالشعب وثيقًا دائمًا لأن هذا أدعى لتنفيذ رغبات الشعب، لذلك سيكون مجلسي مفتوحًا لحضور من يريد الحضور".
واستمرارًا على نهجه الكريم في توجيه النصح للرعية وشرح مالها وما عليها قال -رحمه الله- في الخطاب الذي ألقاه في الحفل التكريمي الذي أقيم على شرفه بمناسبة سفره إلى الرياض في الثاني من صفر 1355هـ: "إنّ على الشعب واجبات وعلى ولاة الأمر واجبات، أما واجبات الشعب فهي الاستقامة ومراعاة ما يرضي الله ورسوله ويصلح حالهم والتآلف والتآزر مع حكومتهم للعمل فيما فيه رقي بلادهم وأمتهم، إن خدمة الشعب واجبة علينا لهذا فنحن نخدمه بعيوننا وقلوبنا ونرى أن من لا يخدم شعبه ويخلص له فهو ناقص".
ومن المنطلق ذاته الذي أدار به الملك عبدالعزيز شؤون بلاده ومواطنيه بنى - رحمه الله - علاقات بلاده مع أشقائها العرب والمسلمين وأقام علاقات قوية مع المجتمع الدولي.
وكان صريحًا في تعامله مع القضايا التي تهم أمته على الصُّعُد كافة، وقد أثبتت الأحداث المتعاقبة حتى يومنا هذا رؤيته الصائبة ونهجه الصحيح في أقواله وأفعاله فكانت تلك الرؤية، وذلك النهج القاعدة والأساس القويم الذي تسير عليها المملكة في جميع تعاملها داخليًا وخارجيًا.

ويقف الباحثون والمؤرخون وقفة تأمل وإعجاب في تاريخ هذا الكيان الشامخ على البناء وتخطي العوائق والصعاب والتغلب على كل التحديات بفضل من الله وتوفيقه أولاً، ثم بالإيمان القوي والوعي التام بوحدة الهدف وصدق التوجه في ظل تحكيم شرع الله والعدل في إنفاذ أحكامه لتشمل كل مناحي الحياة.

وكان الملك سعود -رحمه الله- أول السائرين على ذلك المنهج والعاملين في إطاره حتى برزت ملامح التقدم واكتملت هياكل عددٍ من المؤسسات والأجهزة الأساسية في الدولة.
وجاء من بعده الملك فيصل -رحمه الله- فتتابعت المنجزات الخيّرة وتوالت العطاءات وبدأت المملكة في عهده تنفيذ الخطط الخمسية الطموحة للتنمية.
وتدفقت ينابيع الخير عطاءً وافرًا بتسلم الملك خالد -رحمه الله- الأمانة فتواصل البناء والنماء، خدمة للوطن والمواطن خاصة، والإسلام والمسلمين عامة، واتصلت خطط التنمية ببعضها؛ لتحقق المزيد من الرخاء والاستقرار.
وازداد البناء الكبير عزًا ورفعة وساد عهد جديد من الخير والعطاء والنماء والإنجاز بعد مبايعة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- ملكًا على البلاد، حيث تميزت الإنجازات في عهده -رحمه الله- بالشمولية والتكامل لتشكل عملية تنمية شاملة في بناء وطن وقيادة حكيمة فذّة.
وشهدت المملكة في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- المزيد من المنجزات التنموية العملاقة على امتداد الوطن في مختلف القطاعات التعليمية، والصحية، والنقل والمواصلات، والصناعة، والكهرباء، والمياه، والزراعة، والاقتصاد.
وها نحن اليوم، نشهد في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود – حفظه الله - عهد الاستدامة والنمو والتطور، قفزات كبيرة وخطوات غير مسبوقة في جميع المجالات داخليًا وخارجيًا، ورسمت ملامح المملكة، وأرست دعائم مكانتها السياسية والاقتصادية والثقافية، ورسخت دورها المؤثر في الاقتصاد العالمي، كونها قائمة على قاعدة اقتصادية صناعية صلبة، جعلتها ضمن أقوى 20 اقتصادًا على مستوى العالم.
وفي هذا العهد الزاهر ومنذ إطلاق رؤية المملكة 2030، التي وضعها بتوجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد رئيس مجلس الوزراء – حفظهما الله –، لا يمر يوم إلا وتحقق المملكة منجزات جديدة داخليًا وخارجيًا، تبشر مستقبل مزدهر.