محمّد مستقيم*
من العناوين الأخيرة التي أصدرها السوسيولوجيّ والأنثروبولوجيّ الفرنسيّ "دافيد لوبروطون" كتابٌ جديد يحمل عنوان "الحياة مشياً على الأقدام: فنّ السعادة وإعادة بناء الذات"، والذي ترجمه الدكتور فريد الزاهي، وصَدَرَ عن المركز الثقافيّ للكتاب في الدار البيضاء 2022، بعد ترجمته لثلاثة كتب أخرى للمؤلِّف وهي "تجربة الألم" عن دار توبقال، و"الصمت، لغة المعنى والوجود"، و"أنتروبولوجيا الحواسّ، العالَم بمذاقات حسيّة". وهذا الكتاب يُعتبر الثالث في سلسة الكتب التي تحدَّث فيها لوبروطون عن المشي.
نحن نمشي كي نرتاد الأماكن التي تنتظرنا، كما أنّ فعل المشي هو استجابة لرغبةٍ في استعادة العالَم بالجسد، وكسْرِ روتين الحياة اليوميّة، وتعليق منغّصات الحياة والرغبة في التجديد والمُغامَرة واللّقاء (الشروع في المشي). في الماضي كان المشي ضرورة لقضاء الحاجيّات اليوميّة، ولم تكُن للطريق أهميّة بالغة لأنّ الهدف كان هو الوصول؛ أمّا اليوم فأصبحت التقنيّة تعوِّض عن حركةِ الجسد وتحدّ من أنشطته، وصار الجلوس وراء مقود السيّارة أو مكتب العمل أو أمام الشاشات الافتراضيّة عبارة عن سلوكات يوميّة تُعطِّل حركات الجسد.
من هنا تأتي أهميّة الاحتفال بالجسد والحواسّ والعواطف. ليس المشي تعبيراً عن حركة الجسد الواقعي فحسب، بل هو طريقة كذلك في التخييل، فنحن نمشي مزوَّدين بطاقةِ الخيال السابق على كلّ خطوات السفر.. الخيال يمنحنا الصور التي تَشحن الرغبة في الترحال التي تسري كالنار في الهشيم لحظة المشي والتجوال في الأماكن المُتاحة مُترجِمةً بذلك تلك الرغبة في الواقع الملموس (الطريق الخياليّة). إذا كان المشي سَفَراً بالجسد، فإنّ مَوطنه هو الطريق، لكنّ إيقاعه الخاصّ يبقى خارج الإيقاعات الاجتماعيّة يلتهم الوقت ويغوص في البطن ليلتقي بالرغبة في السكن داخل موسيقانا الداخليّة. في المشي يشعر المشّاء بالحريّة وعدم اللّامبالاة بالزمان والمكان، ولا ينصت إلّا لعالَمه الباطني الذي يُقاس بلحظة المتعة (إيقاع) فقط. الإنسان حيوان مشّاء منذ أن استقام قوامه وانفصلَ عن الثديّيات الرئيسة منذ حوالي خمسة ملايين سنة، حيث بدأ يدبِّر حياته مُعتمداً على يدَيه، ثمّ قدمَيه، فظهرت آثار مشيه في الأماكن التي كان يرتادها ويصطاد فيها طرائده ويطبخ أكله ويصنع أدواته من الحَجَر.
تأمّلات فلسفيّة في تجربة المشي
أقدام الإنسان هي التي حَمَتْه من قساوة الطبيعة وتغيُّرات المناخ، فحافَظَ عليها بابتكار النعال المصنوعة من جلد الحيوان (هوموكامينانس). الطريق كما يصفها لوبروطون هي ذاكرة محفورة في الأرض ترشد المشّاء وتجعله يقتفي آثار الناس الآخرين، وتَمنح مُستعمَلَها الأمان والوفاء لتاريخٍ مُشترَك وتساعده على تفادي المَسالك الوعرة. في الطريق يحتفل المشّاء بعصاه التي تقوده في تلك الرحلات، وذلك بعكس كلّ آلة تقنيّة تمحو شعريّة العالَم وتقيِّد السفر بخوارزميّات العالَم الافتراضي مثل الهاتف الخلوي الذي يعلِّق ذاكرة الأمكنة مُركِّزاً على الوجهة المُبرمَجة فقط. التقنيّة تحوِّل التجربة الحيّة إلى تجربةٍ افتراضيّة فاقدة لطعم الحياة. أمّا عصا المشّاء، فهي رجله الثالثة التي يقيس بها مجاهل السفر (حين نخطّ طريقنا). ليست لحظات المشي كلّها مُمتعة وسارّة، فهناك أوقات يتعرَّض فيها المشّاء لمنغّصات تفسد عليه التمتُّع بأسفاره وتنقّلاته. هناك أخطار تحدق به في كلّ مكان مثل التعثُّر أو السقوط من أماكن مرتفعة أو الإصابة بعدوى أو مرض مفاجىء، وقد يُصادف في تحرُّكاته غضبَ الطبيعة من فيضانات أو أدخنة البراكين والصواعق الثلجيّة أو انهيار شلّالات أو الإصابة بلسعات الحشرات والزواحف السامّة. أهوال الطريق كثيرة والتعب يُحيط بالمشّاء في كلّ لحظة حيث يُصبح غير قادر على مواصلة السفر على الرّغم من طموحه اللّامتناهي في تحقيق الهدف بمتعةٍ كبيرة. يقول أحد المشّائين الشباب "حتّى التعب الذي كان يلمّ بي كان بالغ اللّذة، فهو يقودني إلى نومٍ مهدهد وعميق كما عمق الزيت" (المنغّصات). في الأديان الكبرى نَشَرَ الأنبياء رسائلهم ومواعظهم من خلال الترحال والسفر إلى مناطق بعيدة. كما أنّ الحج يُعَدّ علامة على التعبُّد وهو سَيْرٌ في الطريق وبُعْدٌ عن البيت.. الحاجّ يعبر الجبال والبحار ذهاباً وإيّاباً قاصداً القبور المقدَّسة والأماكن المخصَّصة للزيارة ومُمارَسة الطقوس الدينيّة. ومن أجل ذلك يركب أمواج المغامرة، فلا يُبالي بقطع عشرات الأميال للوصول إلى المكان المقدَّس على الرّغم من أهوال الطبيعة. ويقول المؤلِّف إنّه عندما سُمِحَ للسجناء قديماً بالحجّ، كانوا يقطعون المسافات وهُم مُكبّلون بالقيود وحُفاة الأقدام تقودهم رغباتهم في الحصول على الغفران لما ارتكبوه من خطايا في حقّ الآخرين. قد يتعرَّض الحجّاج للسرقة أو القتل وتُسلب منهم أملاكهم أو يتعرّضون للابتزاز من طرف أصحاب النزل والخانات.. كما كان الحجّاج يتعرّضون لعنف القراصنة وقطّاع الطرق برّاً وبَحراً (الكامينو).
يواصل لوبروطون تأمّلاته الفلسفيّة العميقة حول تجربة المشي التي تُعلِّم المشّاء أنّه داخل العالَم وليس أمامه، وبذلك يشعر بكلّ ما يؤدّي إلى مُراقبة كلّ حركة وكلّ تحوُّل حيث تتغيّر العلاقة بين الجسد والزمن وبين الذات والآخرين. في المشي تتحوّل الأمكنة إلى تجارب فينغمس المشّاء في بُعدٍ مُغايرٍ للعالَم المرئي، وينخرط في زمانٍ آخر وفضاءاتٍ مختلفة ويستعمل وجوده بصورةٍ جديدة ومُغايرة؛ فتظهر له وفرة العالَم التي تحجبها التقنيّات الحديثة عن الناس. المشي يُحرِّر المشّاء من الطوق الذي ضَربه التعمير المُعاصر في الأرض لينطلقَ في النظر البعيد داخل المحيط البيئي، حيث يتطهَّر البصر من الأشياء الروتينيّة التي تجعله لا يرى شيئاً يُذكر من حواليه. كذلك فالمشي مُناسبة لتذكُّر الآخرين الذين لا يشاركوننا متعة السفر، بخاصّة أولئك الذين رحلوا، فالسَّير يوقظ في النَّفس حظوةَ الماضي ويَدفع المرء للتفكير في مَسيره الشخصي، وتذكُّر مَن كانوا إلى جانبه في مراحل متعدّدة من الحياة (المنفلت الرائق). يشعر المشّاء أنّ الأرض ليست تُراباً وإنّما هي روح مُشترَكة كما يعتقد الهنود، وقد تكون مَصدراً لإعادة بناء النَّفس، حتّى ولو كانت بعيدة جغرافيّاً، فهي تحضر دوماً أمام الفكر.
العيش حظٌّ كبير
من الأمكنة ينهل المشّاء موارده الروحيّة، والأمكنة بدَورها تحتاج إلى الإنسان كي توجد؛ وإذا غاب عنها بنو البشر فحتماً ستموت وتتبدَّد. كان الناس في الزّمن القديم يعتبرون الطبيعة حيّة تُجسِّد معنى المقدَّس الذي يوفِّر للمرء الشعور بأنّه مخلوق يُرمى به في عالَمٍ جميل وشاسع الأطراف، حيث المناظر الطبيعيّة ألواح مكتوبة بحروف البهجة والحبور (المناظر الطبيعيّة حيّة). غالباً ما يحبّ المشّاؤون العزلة في أثناء المشي، فهذا جان جاك روسّو يسرع إلى مُعانقة الشمس واستعادة السيادة على نفسه قبل أن يفسد عليه الآخرون تمتُّعه بالمناظر الطبيعيّة. والكثير من المشّائين يفضّلون السفر من دون مُرافَقة أحد، بل هناك مَن يعتبر نفسه منعزلاً وهو يُخالط الآخرين في رحلاتٍ جماعيّة. الوحدة حريّة تُخلِّص من الالتزامات وهي راحة للضمير. وحتّى لو اجتمع المشّاؤون في أماكن الحجّ أو بعض المناسبات الاحتفاليّة، فإنّهم يفضّلون الانغماس في بواطنهم والرجوع إلى ذواتهم، لكنّ هذا الأمر ليس قاعدة عامّة؛ فبعض المشّائين يفضّلون الترحال الجماعي بحثاً عن التفاعُل الاجتماعي والتكتُّل ضدّ أهوال الطريق وأخطار المُغامَرة (بين الوحدة والرفقة). يُعلِّم المشي الشباب واليافعين سحرَ الاكتشاف وروعة المشاهد الطبيعيّة، ويُحرِّرهم من الجلوس الطويل للتفرُّج على محتويات الصور والفيديوهات والردّ على الرسائل المكتوبة. عندما يمشي الشاب مسافةً معيّنة من الطريق يستطيع أن يُفكِّك الكثير من اليقينيّات والخطّاطات العرفيّة الرّاسخة في ذهنه، ويُصبح وجهاً لوجه أمام اللّامتوقَّع. كما يَسمح له المشي بإعادة ابتكار الذات بشكلٍ واضح وفاعلٍ مع تقديرٍ مُجدِّد للنفس والاقتناع بأنّه شخص صالح. "المشي ينعش روح الاستقلال، ويعضد القيام بالمُبادرة، ويُعزِّز الفضول والثقة في الغير والتضامُن وتقدير الذات". هناك تجارب حيّة في هذا المجال حيث خلَّص المشي في بعض البلدان مجموعةً من الشباب من دوّامة الانحراف والإدمان على المخدّرات بمساعدة السلطات القضائيّة والتربويّة، حيث تمّ العمل على إبعادهم عن المحيط المباشر لهم، بهدف إعادة دمْجهم الاجتماعي (استعادة الثقة في النَّفس). كذللك فالمشي على الأقدام هو طريقٌ للشفاء وللمُصالَحة مع الذات والعالَم، وإعادة امتلاك الحياة من جديد.
يذكر المؤلِّف نماذج تجارب كثيرة من المشي أنقذت أشخاصاً من أمراضٍ مُزمنة واضطراباتٍ نفسانيّة كادت تعصف بكياناتهم "تحريك الجسد يكون تحريكاً للفكر الذي يتحرَّر من الطُرق المسدودة التي انحصر فيها". يقتنع المشّاء بأنّ الحياة أمامه وليست وراءه، حتّى ولو كان شخصاً مُتقدّماً في السنّ ويعيش لحظاتٍ مُتوالية من اليأس. ما يجعله يتخلَّص من الشعور بالشيخوخة "رحلة المشي، إذا هي حظيت باعتبارٍ كبير، وإذا استمرَّت المدّة الكافية للاشتغال على الذات، تكون بحثاً عن معنى الحياة واستعادةً للإحساس بأنّ العيشَ حظٌّ كبير".
*باحث في مجال الفلسفة - المغرب - مؤسسة الفكر العربي